أفكار وآراء

التجويع سلاح آخر للإبادة والتهـجـير

بينما ينشغل أغلبنا هذا الصيف بحيرة تحديد وجهة إجازة الصيف، محل استرخاء العائلة بعد عام طويل من العمل الدؤوب والجهد المتصل، نتابع والعالم أجمع على مضض ارتفاع حصيلة شهداء وجرحى قطاع غزة يوما بعد آخر على مرأى ومسمع حكومات العالم شرقا وغربا، على مرأى ومسمع المنظمات الحقوقية والإنسانية في كل العالم، على مرأى ومسمع شعوب العالم، لكن الأسوأ من كل ذلك ارتفاع حصيلة وفيات الجوعى في قطاع غزة فمنذ السابع من أكتوبر 2023، يتعرض قطاع غزة لعدوان إسرائيلي مستمر، مع تواصل القصف، مع تأكيد التقارير الأممية والمنظمات الإغاثية دخول غزة مرحلة «المجاعة الكاملة»، حيث يعاني أكثر من 1.5 مليون إنسان من انعدام الأمن الغذائي، وسط انهيار شبكات المياه والكهرباء، وتوقف سلاسل الإمداد، وعجز المجتمع الدولي عن الضغط الجاد على الاحتلال لفتح المعابر والسماح بدخول المساعدات بشكل فعّال مستدام، وفي ضوء هذه التحذيرات المتصاعدة، تتسع دائرة المطالب الفلسطينية بتحرك دولي فوري جاد لوقف حرب الإبادة بالتجويع.

كيف يمكن للعالم اختيار الصمت سبيلا لتلقي مثل هذه الأخبار لقتلى الجوع مع كل ما يشهده عالم اليوم من تطور الوسائل، وانفتاح أبواب المعرفة وسهولة تشكيل قضايا الرأي عالميا؟ كيف يمكن لجهود منظمات وأفراد لسنوات بغية توفير الدواء والغذاء لسكان قطاع غزة أن تذهب سدى؟ ثم هل ذهبت سدى فعلا كل تلك التبرعات المتصلة المُستنزِفة عاطفةَ ومشاعر كثير من الطيبين في كل مكان بالعالم؟ أم أنها محض خذلانات وخيانات أخرى تلبست لباس المساعدات الإنسانية لتسمين أصحابها من آكلي قوت الشعوب وتجّار المآسي والكوارث؟!

تعيدني مجاعة غزة لمقالة «قتيلة الجوع» للمنفلوطي، كيف لا وقد صدر عن وزارة الصحة في غزة» إن المجاعة في القطاع وصلت إلى مستويات كارثية، وأكثر من مليوني إنسان يواجهون الجوع، كما أشارت الصحة إلى استشهاد 71 طفلًا، بسبب الجوع وسوء التغذية، لافتة إلى أن أكثر من 900 شهيد و6 آلاف مصاب من الباحثين عن لقمة العيش، مؤكدة أن الاحتلال يستخدم التجويع سلاحًا في عدوانه على غزة، والأطفال يموتون جوعًا أمام عدسات الكاميرات» أستذكر تساؤلات المنفلوطي عن «قتيلة المقطم» مقابل قتلى غزة: «ألم يلتقِ بها أحد في طريقها فيرى صفرة وجهها، وترقرق مدامعها، وذبول جسمها، فيعلم أنها جائعة فيرحمها؟! ألم يكن لها جار يسمع أنينها في جوف الليل، ويرى غدوها ورواحها حائرةً ملتاعة في طلب القوت فيكفيها أمره؟! أأقفرت البلاد من الخبز والقوت، فلا يوجد بين أفراد الأمة جميعها من أصحاب قصورها إلى سكان أكواخها رجل واحد يملك رغيفًا واحدًا زائدًا عن حاجته فيتصدَّق به عليها؟».

كل هذا وأكثر كان ماثلا أمام أعين الجميع إذ تنقل وسائل اليوم كل الواقع للعالم دون تحريك ساكن لرفع الحصار أو وصول الغذاء، وليس الأمر قابلا للاستغلال مجددا كي لا يظن بأن المقصود هنا فتح باب التبرعات بـ «صنبورها» السخي الذي لم يغلق أصلا منذ بداية الأزمة ليصب في غير محله، إذ الأزمة اليوم أزمة وصول المساعدات لا جمعها وتخزينها، أو توجيهها لغير ما وضعت له، فلو أن ربع تلك المعونات وصل لقطاع غزة المنكوب لما وجدنا أخبار مجاعتها تتصدر أخبار الصحف، وواجهات المنظمات الحقوقية والغذائية والإنسانية دون جدوى.

أستذكر «قتيلة الجوع»: «المال والحمد لله كثير، والخبز أكثر منه، ومواضع الخَلَّات والحاجات بادية مكشوفة يراها الراؤون ويسمع صداها السامعون، ولكن الأمة التي ألفت ألا تبذل معروفها إلا في مواقف المفاخرة والمكاثرة، والتي لا تفهم من معنى الإحسان إلا أنه الغُلُّ الثقيل الذي يوضع في رقاب الفقراء لاستعبادهم واسترقاقهم، لا يمكن أن ينشأ فيها محسن مخلص يحمل بين جنبيه قلبًا رحيمًا» وتخلص مقالتي هذه بعد طول أسى إلى أن إنقاذ غزة من الجوع والتهجير لن يكون بفتح باب المساعدات درءا لتأنيب الضمير، وتنفيسا عن شعور التقصير مهما تنوعت قنوات التبرع جهات موثوقة كانت، أو أقنعة متهالكة لمحتالي العالم الرقمي؛ إنقاذ غزة من الجوع اليوم لن يتأتى بغير تشكيل جبهة عالمية لقضية رأي شعبية عامة للضغط على حكومات وساسة العالم لإيجاد قنوات حقيقية تعمل على ضمان وقف مأساة التهجير، وضمان وصول حاجة شعب غزة المكلوم من الدواء والغذاء، بعيدا عن كل الوسطاء الوهميين والقنوات المضللة.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية