ثقافة

«فيلم الطابوقة» شخصيات محاصرة في دائرة مكانية مغلقة

 
عبر مسار السينما ومنجزها الطويل كانت ولا تزال هنالك تجارب تكرس موضوعاتها للمكان وتمنح الجغرافيا المكانية أهمية بالغة حتى يصبح المكان في حد ذاته تحديا للشخصية ودافعا لمزيد من التحولات في المسار الدرامي وفي البناء السردي.

هذه الإشكالية تحول المكان في بعض الأحيان إلى لغز وقضية جدلية وصولا إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى التحدي المكاني القائم على ما هو مجهول وغامض بسبب السعة والتنوع الذي ينطوي عليه بالإضافة إلى الأسرار الغامضة.

هذا النوع من الأفلام كانت التجارب السينمائية قد قدمته في أفلام مثل: شيفرة المصدر وفيلم كلو وفيلم غرفة الهروب، وفيلم المكعب وفيلم الامتحان، وفيلم النافذة السرية، وفيلم غرفة القتل، وفيلم صخرة القمر، وفيلم المكعب، وفيلم غرفة الهروب، وفيلم زائر الليل، وفيلم الليلة الطويلة، وفيلم الغرفة المغلقة، وغيرها من الأفلام.

وفي هذا الفيلم لكاتب السيناريو والمخرج الألماني فيليب كوتش هنالك الكثير مما وجدناه في تلك الأفلام لكن القصة تتسع هنا إلى نوع الخيال العلمي الذي يقترن بتعقيدات واقعية قبل أن ننتقل إلى أزمة المكان وتعقيداته.

يبدأ الزوجان تيم يقوم بالدور ماثياس شويجوفر، وزوجته أوليفيا تقوم بالدور روبي، يومهما وهما يمرّان بأزمة شخصية بعد إجهاض أوليفيا وما خلق عندها من مشاعر الإحباط ومن ثم انعكاس ذلك على علاقتهما الشخصية، تيم المشغول ببرمجة ألعاب الفيديو وزوجته المعمارية لا يجدان طريقا لإنقاذ حياتهما الزوجية على الرغم من مقترح أوليفيا أن يغيّرا حياتهما جذريا بالانتقال إلى مكان بعيد يستطيعان فيه أن يفكرا بهدوء في حياتهما ويتركان العمل وراء ظهريهما ولكن المفارقة أنهما وفي وسط هذا الجدل يجدان نفسيهما محاصرين بكتل من الطابوق الأسود التي أغلقت الأبواب والنوافذ عليهما بشكل تام.

يعجز الزوجان عن الخروج ولا ثقب ذلك الجدار الغريب ليكتشفا فيما بعد أنهما ليسا وحيدين بل معهما سكان عدة طبقات أخرى من ذلك المبنى ومن هنا تبدأ ألغاز تلك العزلة المكانية.

تواجه الشخصيات مصائرها عندما تجتمع بعد تهديم الجدران الداخلية لنكتشف طباعا وشخصيات متنوعة تتصادم وتتعارض فيما بينها فهنالك الزوج المدمن على المخدرات والمتهور في مقابل الشرطي الذي لا يتوانى عن قتل صديقه وكل ذلك وغيره سوف يظهر في غرفة سرية معززة بالكاميرات وأن كل السكان كانت تجري مراقبتهم من جهة ما.

بالطبع هنالك من بين من هم محتجزون وفي وسط ذلك المكان من يفسر الأمر على أنه مؤامرة إمبريالية وهنالك من فسرها على أنها مؤامرة وخيانة من صاحب العمارة وصولا إلى العثور على مخططات رقمية مليئة بالألغاز والأرقام والأكواد التي تزيد الأزمة إحكاما.

وفي هذا الصدد يقول الناقد ألان هانتر في موقع سكرين دايلي: «يُظهر المخرج كوتش حسا متميزا بالوتيرة والزخم الذي تصاعدت فيه الأحداث من العزلة إلى التحدي المكاني مع تخفيف بعض المشاهد بلقطات الحركة الممزوجة بروح دعابة جافة. يظل السيناريو مع امتداد مسار الأحداث جذابا، حتى يفقد بعضا من قوته عندما تبدأ المجموعة في تجميع ألغاز الجدار بالتزامن مع حياة الزوجين وهما على مفترق طرق، وحيث إن حياتهما محاطة بالخسارة والتوتر والصمت والوعود الفارغة».

أما الناقد كلينت ورثنجتون في موقع روجر ايبيرت، فيقول:

«لقد شاهدنا في هذا الفيلم إبداعا عاليا قدمته الشخصيتان الرئيسيتان، إنه فيلم يجسد ما كان متوقعا في فيلم إثارة من هذا النوع، بدءًا من الصراعات الشخصية التي تفضي إلى إراقة الدماء، وصولًا إلى بطء ظهور الأدلة والوسائل التي تساعد على الخروج من المأزق وبذلك تعود النهاية المتوقعة إلى البداية في دورة درامية في إطار المكان المغلق».

تسير أحداث الفيلم في إطار شيق وسلاسة عندما يبدأ تيم وأوليفيا وتحالف جيرانهم المتزعزع بالعمل على إيجاد مخرج واختبار حدود ومعايير جدران الطوب وحيث يُضفي المخرج حيوية على كثير من المشاهد باستخدامات متنوعة لحركات الكاميرا وزوايا التصوير، الجدران تتحول إلى نوع من اللغز واللوغاريتمات والأرقام المحيّرة حتى ننتقل من تراجيديا المواجهات والصراعات التي وصلت إلى القتل إلى معضلة حل الألغاز.

على أن النجاح في تلك المهمة من خلال التطبيقات والأرقام بقدر ما يحمل من فرحة في تحول الجدران إلى هباء وبالتالي احتمالات الخروج من المأزق فإنه ما يلبث أن يتحول إلى كابوس جديد عندما تحاول آنا - تقوم بالدور الممثلة سالبير ويليامز، أن تخترق ذلك الهلام لكنه سوف يبتلع كفها ثم ذراعها حتى يستعصي إخراجها من المأزق إذ يبتلعها ذلك الهباء العجيب وهو مشهد تراجيدي سوف ينهي حياتها وحياة زوجها على السواء.

في الجانب الآخر وكلما حاول تيم وأوليفيا الخروج من المأزق وهما يعثران على إحداثيات وأرقام إلا أن عنصرا دراميا إضافيا سوف يجعل السرد الفيلمي يتخذ مسارات أخرى من خلال شخصية يوري - يقوم بالدور مورثان موسلو، الذي يشكل وجوده تحديا جديا وأداة للصراع الذي سوف يتصاعد مع تيم حتى يوشك على قتله وكل هدفه هو بقاء الجميع أسرى ذلك المكان ودفاعه المستميت عن فكرة الهلاك وبذلك تتشعب وظيفة المكان والانطباع المتحصل من التفاعل معه إلى مستويات تقترب من الخيال المطلق والفانتازيا.

أما إذا انتقلنا إلى الزوجين المكافحين فقد بدت تلك الأزمة كافية لكي يتراجعا عن ما كانا عليه وليكتشفا أنهما كانا يعيشان في عالمين منفصلين فكان هذا المكان المغلق سببا لمراجعة الذات، والتراجع عن كثير من العقد والاعتبارات السلبية التي كانت سائدة من قبل.

ولعل الإشكالية التي تطرح فيما يتعلق بالمكان في كونه محورا دراميا أساسيا هو تحوله إلى مرآة للشخصيات وواجهات لها وصار ذلك المكان المنعزل كافيا لكي تتجسد طباع الشخصيات ودوافع كل منها مع أنها ظلت تتساقط تباعا خلال الأزمة وكلٌّ كان هنالك سبب لموته لكن وصول الزوجين إلى خط النهاية وإنقاذ نفسيهما من تلك الدائرة المغلقة كانت امتدادا لنوع من الصراع النفسي والاجتماعي في نطاق المكان المحمل بكثير من عناصر الغموض والتساؤلات.

ها هي سحب الدخان الرمادي الكثيف التي ظهرت في سماء المدينة في بداية الفيلم وهي تشير إلى حريق في هافن سيتي، بالقرب من هامبورج وقد شكلت علامة على انفجار (نانوي) غريب جعل المدينة برمتها جدرانا من الطابوق والطوب الأسود الصلب وبهذا انتقل ذلك الحصار الذي شهدناه في ذلك المبنى إلى ما هو أبعد، أي إلى صعيد الحياة برمتها وقد ضربت الأزمة بالمكان كله وحيث لا يظهر سكان المدينة ولا ما طرأ على حياتهم إلا أن المكان المنعزل يصبح علامة فارقة.

سيناريو وإخراج: فيليب كوتش

تمثيل: ماثياس شويجوفر في دور تيم، روبي في دور في، فريديرك لو في دور مارفين، مورثان موسلو في دور يوري

مدير التصوير: اليكسندر فيشركوسين