حتى لا يصبح الانتماء قابلا للتفاوض
السبت / 23 / محرم / 1447 هـ - 20:54 - السبت 19 يوليو 2025 20:54
تفرز التحولات العالمية بما فيها الأزمات السياسية، وما يصحبها من نقاشات وصراعات ضغطًا مباشرًا وغير مباشر على مفاهيم (الانتماء – الهويات)؛ ذلك أنها تتماس مع أسئلة الأنا، والحق، والحقيقة، والآخر، ولكن أخطر ما يمكن أن تولده هذه الأزمات أن تصل ببعض فئات المجتمع إلى مسألة (التفاوض على الانتماء). وهذا المفهوم هو أحد المفاهيم الرئيسة في علم الاجتماع، وفي حقل الدراسات الثقافية، ومؤداه الطريقة التي يتداخل فيها شعور الأفراد بهويات متعددة تضغط عليهم لممارسة الانتماء إليها، والشعور بأن كل تلك الهويات على ذات الوزن من الأهمية المجتمعية والتاريخية والدينية والسياسية وربما الذاتية. وهنا يعيد الفرد التفكير في أي الانتماءات أحق بتمثلها والانتصار إليها، وقد يعيد ترتيب دوائر الانتماء المتداخلة، ويصبح حينها السياسي أهم من الوطني، أو الديني أهم من المجتمعي، أو الانتماء الفرعي المجتمعي أحق بالنسبة له من الوطني الجامع، والعكس في كل الحالات وارد باقتضاء الموقف أو الأزمة. وبناء عليه تتشكل السلوكيات، ويعاد ترتيب الدوافع للأفراد في تفاعلاتهم، وتنشأ الصراعات والتجاذبات الكلامية التي قد تتحول لاحقًا إلى نزاعات واقتتال في الواقع.
في سياق المنطقة اليوم هناك ثلاثة محركات أساسية تدفع بشكل كبير الهويات إلى إنتاج حالة واسعة من (التفاوض حول الانتماء). أولها (السيولة الثقافية) التي ينتجها مشهد التواصل والاندماج العالمي الذي أتاحته الفضاءات الاتصالية؛ فبعد أن كان الفرد محصورًا بخمس إلى ست دوائر انتماء واقعية يتفاعل معها، وتشكل هويته، ويوازن اندماجه الاجتماعي فيها؛ أصبح اليوم منخرطًا في عشرات الدوائر الصغيرة والكبيرة من دائرة المجموعة الافتراضية التي ينتمي إليها ويتفاعل معها إلى دائرة الفريق الرياضي العالمي الذي ينتمي إلى محبيه ودوائر مشجعيه، إلى دائرة الجماعة الحقوقية العالمية التي يتأثر بأفكارها، وينخرط في نقاشاتها، وقس عليها الدوائر البسيطة التي تتزايد بزيادة انخراط الفرد في هذه الفضاءات الاتصالية مكونة اشتباكًا (هوياتيًا) يوجه تصرفات الفرد ودوافعه. أما المحرك الثاني فهو تعمق الأزمات والأحداث السياسية التي أصبحت لا تستجلب اليوم خطر الاقتتال، وتهديد حياة المدنيين، وتقويض التنمية وحدها، بل أصبحت تستجلب اللعب على وتر الهويات الفرعية، واستمالة مكونات معينة من تلك الهويات لصالح أطراف الصراع، والتنديد بخطر تقسيم المجتمعات، وإعادة تشكيل انتماءاتها وفقًا لولاءات الهوية الناشئة في ظل تقهقر الهويات الوطنية، والروافع التي يمكن أن تحملها وتحميها. المحرك الثالث في تقديرنا لأزمة (التفاوض على الانتماء) هو غياب ثلاثية: الاستقرار، والعدالة الاجتماعية، واستدامة التنمية. وهذه في حد ذاتها جدلية مرتبطة بشكل أساس بمدى قدرة الدولة على تحقيق التوافق بين الهويات، وفرصتها في خلق هوية وطنية جامعة تعلو فوق بقية الهويات الأدنى والهويات الفرعية، وتوجيه عمليات التنمية وفرص الحوار إلى تعزيز تلك الهوية الوطنية الجامعة.
ما يحدث في المنطقة من تفتيت للهويات، ودفع مقصود من الداخل والخارج نحو إعادة (التفاوض على الانتماء) في تقديرنا هو خطر داهم؛ ذلك أنه حتى في حال تحقيق توافقات سياسية، والوصول إلى حالة من الاستقرار على المستوى السياسي والعسكري يظل تحقيق الاستقرار المجتمعي رهانًا صعبًا - وهو ما نلحظه في الكثير من تجارب التحول العربي في العقدين الماضيين-. وهنا فإن رهان الهوية والانتماء ووحدة المجتمعات هو أكبر الهواجس الملحة سواء بالنسبة لتلك المجتمعات التي تنعم بقدر من الاستقرار، أو تلك التي تعيش الأزمات والمخاطر والتقسيم والصراعات. يقول عالم الاجتماع ستوارت هال: «ربما بدلًا من اعتبار الهوية أمرًا واقعًا تُمثله الممارسات الثقافية الجديدة؛ علينا أن نعتبرها «إنتاجًا» لا يكتمل أبدًا، وهو دائمًا في طور التكوين، ودائمًا ما يتشكل داخل التمثيل لا خارجه». وفي تقديرنا؛ فإن سياسات إدارة الهوية والثقافة الناجزة هي تلك التي تسمح لهذا «التكوين» - حسب تعبير هال - في أن يتجه إلى التوازن والتأقلم والتعايش ضمن دائرة أكبر تضمن تحقيق التماسك المجتمعي.
كبح الصراع على الهويات وتحجيم (التفاوض على الانتماء) لا بد أن يكون اليوم أحد أجندة التنمية الوطنية بالنسبة لدول المنطقة - بما في ذلك المستقر والتنموي منها - تحت أي من المسميات الرائجة (سياسات الهويات - سياسات تعزيز الانتماء - برامج تعزيز القيم الوطنية...). الأهم أن نتلمس الإنذار المبكر الذي تفرضه الأزمات حولنا، وما يمكن أن يشكله من تصدع في المجتمعات؛ فمشكلة الصراع على الهوية والانتماء -كما تشخصها الدراسات الثقافية- أنها «متجذّرة بعمق في الاحتياجات والقيم الإنسانية الفردية الكامنة التي تُشكّل معًا الهويات الاجتماعية للأفراد، لا سيما في سياق الانتماءات، والولاءات، والتضامن الجماعي». ونعتقد أن الرهان يمكن أن يبدأ من الانتباه إلى ثلاثة عناصر أساسية: فرض قوة القانون في كل ما من شأنه أن يمس التماسك المجتمعي، أو يؤثر على الهوية الوطنية الجامعة، أو يخل بانتماء الأفراد الوطني الجامع من سلوكيات وممارسات أو محتوى تداولي أو اتصالي، وعدم ترك مساحة لمثل ذلك أن يتسلل للنسيج المجتمعي. والعنصر الآخر هو كما نشدد عليه دائمًا التوجيه في المحتوى الاتصالي من خلال مضاعفة وتشجيع المحتوى الهادف للوحدة الوطنية ولتعزيز الانتماء الوطني شريطة أن يكون هذا المحتوى مبتكرا، ويتسق مع لغة الأجيال ، وقادرا على الوصول إلى متغيرات الذهن الاجتماعية، وتغيرات الحالة الاجتماعية. أما العنصر الثالث فيتجسد في دور فضاءات التربية والنقاش العالم في التنبيه إلى خطورة ما يحدث من تجاذبات في الهويات أو الانتماءات الدائرة في المنطقة، ودوافعها ومحركاتها سواء كان من داخل المجتمعات، أو نتيجة مخططات من خارجها، وخطورة تسلل تلك الصراعات والتجاذبات إلى السياقات المحلية، والخطر الداهم الذي يمكن أن تشكله. إن هواجس الهوية والانتماء لا يمكن أن تكون اليوم مجرد هواجس نظرية، أو أجندة كلاسيكية في خطط التنمية وبرامجها، بل يجب أن تتحول بصورة أو بأخرى إلى موجهات تتمحور حولها وتدور حول رحاها كل عمليات التنمية ومنطلقاتها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
في سياق المنطقة اليوم هناك ثلاثة محركات أساسية تدفع بشكل كبير الهويات إلى إنتاج حالة واسعة من (التفاوض حول الانتماء). أولها (السيولة الثقافية) التي ينتجها مشهد التواصل والاندماج العالمي الذي أتاحته الفضاءات الاتصالية؛ فبعد أن كان الفرد محصورًا بخمس إلى ست دوائر انتماء واقعية يتفاعل معها، وتشكل هويته، ويوازن اندماجه الاجتماعي فيها؛ أصبح اليوم منخرطًا في عشرات الدوائر الصغيرة والكبيرة من دائرة المجموعة الافتراضية التي ينتمي إليها ويتفاعل معها إلى دائرة الفريق الرياضي العالمي الذي ينتمي إلى محبيه ودوائر مشجعيه، إلى دائرة الجماعة الحقوقية العالمية التي يتأثر بأفكارها، وينخرط في نقاشاتها، وقس عليها الدوائر البسيطة التي تتزايد بزيادة انخراط الفرد في هذه الفضاءات الاتصالية مكونة اشتباكًا (هوياتيًا) يوجه تصرفات الفرد ودوافعه. أما المحرك الثاني فهو تعمق الأزمات والأحداث السياسية التي أصبحت لا تستجلب اليوم خطر الاقتتال، وتهديد حياة المدنيين، وتقويض التنمية وحدها، بل أصبحت تستجلب اللعب على وتر الهويات الفرعية، واستمالة مكونات معينة من تلك الهويات لصالح أطراف الصراع، والتنديد بخطر تقسيم المجتمعات، وإعادة تشكيل انتماءاتها وفقًا لولاءات الهوية الناشئة في ظل تقهقر الهويات الوطنية، والروافع التي يمكن أن تحملها وتحميها. المحرك الثالث في تقديرنا لأزمة (التفاوض على الانتماء) هو غياب ثلاثية: الاستقرار، والعدالة الاجتماعية، واستدامة التنمية. وهذه في حد ذاتها جدلية مرتبطة بشكل أساس بمدى قدرة الدولة على تحقيق التوافق بين الهويات، وفرصتها في خلق هوية وطنية جامعة تعلو فوق بقية الهويات الأدنى والهويات الفرعية، وتوجيه عمليات التنمية وفرص الحوار إلى تعزيز تلك الهوية الوطنية الجامعة.
ما يحدث في المنطقة من تفتيت للهويات، ودفع مقصود من الداخل والخارج نحو إعادة (التفاوض على الانتماء) في تقديرنا هو خطر داهم؛ ذلك أنه حتى في حال تحقيق توافقات سياسية، والوصول إلى حالة من الاستقرار على المستوى السياسي والعسكري يظل تحقيق الاستقرار المجتمعي رهانًا صعبًا - وهو ما نلحظه في الكثير من تجارب التحول العربي في العقدين الماضيين-. وهنا فإن رهان الهوية والانتماء ووحدة المجتمعات هو أكبر الهواجس الملحة سواء بالنسبة لتلك المجتمعات التي تنعم بقدر من الاستقرار، أو تلك التي تعيش الأزمات والمخاطر والتقسيم والصراعات. يقول عالم الاجتماع ستوارت هال: «ربما بدلًا من اعتبار الهوية أمرًا واقعًا تُمثله الممارسات الثقافية الجديدة؛ علينا أن نعتبرها «إنتاجًا» لا يكتمل أبدًا، وهو دائمًا في طور التكوين، ودائمًا ما يتشكل داخل التمثيل لا خارجه». وفي تقديرنا؛ فإن سياسات إدارة الهوية والثقافة الناجزة هي تلك التي تسمح لهذا «التكوين» - حسب تعبير هال - في أن يتجه إلى التوازن والتأقلم والتعايش ضمن دائرة أكبر تضمن تحقيق التماسك المجتمعي.
كبح الصراع على الهويات وتحجيم (التفاوض على الانتماء) لا بد أن يكون اليوم أحد أجندة التنمية الوطنية بالنسبة لدول المنطقة - بما في ذلك المستقر والتنموي منها - تحت أي من المسميات الرائجة (سياسات الهويات - سياسات تعزيز الانتماء - برامج تعزيز القيم الوطنية...). الأهم أن نتلمس الإنذار المبكر الذي تفرضه الأزمات حولنا، وما يمكن أن يشكله من تصدع في المجتمعات؛ فمشكلة الصراع على الهوية والانتماء -كما تشخصها الدراسات الثقافية- أنها «متجذّرة بعمق في الاحتياجات والقيم الإنسانية الفردية الكامنة التي تُشكّل معًا الهويات الاجتماعية للأفراد، لا سيما في سياق الانتماءات، والولاءات، والتضامن الجماعي». ونعتقد أن الرهان يمكن أن يبدأ من الانتباه إلى ثلاثة عناصر أساسية: فرض قوة القانون في كل ما من شأنه أن يمس التماسك المجتمعي، أو يؤثر على الهوية الوطنية الجامعة، أو يخل بانتماء الأفراد الوطني الجامع من سلوكيات وممارسات أو محتوى تداولي أو اتصالي، وعدم ترك مساحة لمثل ذلك أن يتسلل للنسيج المجتمعي. والعنصر الآخر هو كما نشدد عليه دائمًا التوجيه في المحتوى الاتصالي من خلال مضاعفة وتشجيع المحتوى الهادف للوحدة الوطنية ولتعزيز الانتماء الوطني شريطة أن يكون هذا المحتوى مبتكرا، ويتسق مع لغة الأجيال ، وقادرا على الوصول إلى متغيرات الذهن الاجتماعية، وتغيرات الحالة الاجتماعية. أما العنصر الثالث فيتجسد في دور فضاءات التربية والنقاش العالم في التنبيه إلى خطورة ما يحدث من تجاذبات في الهويات أو الانتماءات الدائرة في المنطقة، ودوافعها ومحركاتها سواء كان من داخل المجتمعات، أو نتيجة مخططات من خارجها، وخطورة تسلل تلك الصراعات والتجاذبات إلى السياقات المحلية، والخطر الداهم الذي يمكن أن تشكله. إن هواجس الهوية والانتماء لا يمكن أن تكون اليوم مجرد هواجس نظرية، أو أجندة كلاسيكية في خطط التنمية وبرامجها، بل يجب أن تتحول بصورة أو بأخرى إلى موجهات تتمحور حولها وتدور حول رحاها كل عمليات التنمية ومنطلقاتها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان