أفكار وآراء

لم يخير نتنياهو بين إنقاذ نفسه أو أرواح الآخرين إلا اختار نفسه

ترجمة: أحمد شافعي -

هل ستدوم حرب غزة إلى الأبد؟ ليس هذا السؤال بلاغيا بحتا؛ ففي بعض الأيام يسيطر عليّ هاجس بأن الموت والدمار المستمرين منذ ستمائة وخمسين يوما لن يتوقفا أبدا، وأنهما سوف يتحولان في نهاية المطاف إلى حرب استنزاف دائمة منخفضة المستوى ضمن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأعم ـ أي حربا بداخل حرب ـ تصبح بمنزلة طنين خلفي للشؤون العالمية مثلما استمرت اضطرابات أيرلندا الشمالية لثلاثين سنة. وفي الكابوس نفسه -بالمناسبة- أرى بنيامين نتنياهو الجالس في كرسي رئاسة وزراء إسرائيل لقرابة ثمانية عشر عاما متقطعة باقيا في السلطة لثمانية عشر عاما أخرى، فيحكم البلد حتى يبلغ من العمر مائة عام.

ولا يريد الإسرائيليون أيا من الأمرين؛ فلا تظهر في استطلاعات الرأي إلا أقلية تثق في نتنياهو، بينما أغلبية كاسحة ـ تصل إلى 74% ـ تريد إنهاء هذه الحرب الرهيبة. ومثلما قال زعيم أحد أحزاب الحريديم المتشددة -وقد ترك هذا الأسبوع ائتلاف نتنياهو الحاكم؛ بسبب عدم إجازة الحكومة لقانون يعفي شباب الحريديم من الخدمة العسكرية-: «أنا لا أفهم ما الذي نقاتل من أجله. لا أفهم الداعي للقتال».

ولو أن المنفعة المفترضة في الحرب غائبة حتى على شركاء نتنياهو الموثوقين في الحكومة فإن تكلفتها ظاهرة للعالم المتابع كله؛ إذ يأتي كل يوم بأنباء مقتل عشرة أو عشرين أو ثلاثين فلسطينيا في غزة، وغالبا ما يجري ذلك لهم وهم مصطفون للحصول على احتياجهم اللازم من الطعام أو الماء. وتقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من ثمانمائة فلسطيني قد تعرضوا خلال أكثر قليلا من ستة أسابيع قصيرة للقتل في نقاط توزيع الطعام أو بالقرب منها، وأغلب هذه الوفيات وقع في جوار (مؤسسة غزة الإنسانية)، وهي مشروع أمريكي إسرائيلي مشترك أقيم بعد أن انتهت إسرائيل إلى أنه لا يمكن الوثوق في منع الأمم المتحدة وصول المساعدات إلى أيدي حماس. وهي أيضا مشروع يحفل سجله القصير بالفوضى وإراقة الدم. فحتى أصلب المدافعين عن إسرائيل لا يدعي أن قتلى تلك الحوادث مقاتلون في حماس، أو أنهم يمثلون أي تهديد عسكري مهما كان نوعه. إنما هو موت مجاني يومي محض لمدنيين أبرياء.

داخل إسرائيل تعني الحرب بلا نهاية وفيات لجنود إسرائيليين، وتذكروا أن كل شاب يهودي (غير حريدي) من الدروز والمسيحيين يتجاوز عمره ثمانية عشر عاما مجند في الجيش، وتعني أياما أخرى من الأسر لعشرين من الرهائن الإسرائيليين الأحياء يعتقد أنهم لا يزالون لدى حماس وحلفائها في غزة؛ ولذلك السبب فإن ثلاثة من كل أربعة إسرائيليين يريدون هذه الحرب أن تنتهي فورا.

فلماذا لا تنتهي؟ يعتقد البعض أن حركة محتملة ما قد تفضي إلى صفقة لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن في الأيام القادمة، فثمة مسؤول أمريكي يصف هذه الصفقة بأنها باتت «أقرب من ذي قبل». ولو صح ذلك فثمة عامل مشارك يجدر إيضاحه؛ لأنه عامل لعين.

سوف يشهد الأسبوع القادم نهاية الانعقاد الحالي للبرلمان الإسرائيلي لتبدأ عطلة الكينيست حتى أكتوبر، وخلال هذه الأشهر الثلاثة سوف يصعب إجرائيا إسقاط الحكومة الإسرائيلية. وإذن، فعما قريب سيكون نتنياهو أقل ضعفا أمام القوميين المتطرفين إيتمار بن جفير، وبتسلئيل سموتريتش اللذين طالما هددا بالخروج من الائتلاف إذا ما أبرمت صفقة تنهي الحرب، ومن هنا يأتي التكهن بالتحرك الوشيك.

ويقوم هذا على افتراض أن نتنياهو يفضل بقاء الرهائن في زنازينهم، واستمرار المدنيين الفلسطينيين في الموت، على أن يخاطر هو بفقدان قبضته على السلطة. بعبارة أخرى؛ لو أن صفقة ما قريبة فهي صفقة كان يمكن إبرامها من قبل، لكنها تأخرت؛ لإبقاء نتنياهو في كرسي رئاسة الوزراء.

والثقة في هذه الدوافع الأنانية غير الأخلاقية لدى نتنياهو تتأكد بتحقيق شامل أجرته نيويورك تايمز في الشهور الواحد والعشرين الماضية، وأكد بالأدلة الملموسة ما ظل يؤكده أغلب المحللين، وهو أن «نتنياهو أطال أمد الحرب في غزة؛ لكي يبقى في السلطة».

تركز الصحيفة على العديد من اللحظات المحورية التي كان وقف إطلاق النار فيها قريب المنال، وكان قادة الجيش الإسرائيلي يضغطون من أجله، ثم اختار نتنياهو أن ينصرف عنه؛ خوفا من أن ينسحب بن جفير وسموتريتش إذا لم يفعل ذلك، فينزعا شريان حياة حكومته. وإن فقد نتنياهو السلطة فإنه يكون قد فقد أغلب ما يتمترس به ليحميه؛ إذ يقف في المحاكمة بشأن قضايا الفساد. فهو شأن زميله القومي، والمستبد المنتظر، دونالد ترامب؛ يخاف خوفا مميتا من دخول السجن.

هكذا في أبريل 2024 كان نتنياهو مستعدا لأن يطرح على مجلسه الوزاري عرضا بهدنة تستمر ستة أسابيع، وكان من شأنها أن تطلق سراح أكثر من ثلاثين رهينة، وتبدأ مفاوضات على هدنة دائمة. وكتبت الخطة فعلا، وتهيأت للعرض. لكن محضر اجتماع المجلس الذي حصلت عليه الصحيفة يظهر أن سموتريتش وكذلك بن جفير الراغبين في أن تحتل إسرائيل غزة، وتعيد بناء المستوطنات فيها قد حذرا من أنه في حال توقيع نتنياهو على استسلام «مثلما يشاع» فإن حكومته سوف تنتهي، فاستبعد المقترح في هدوء، واستمرت الحرب.

في تلك المرحلة كانت حصيلة الموتى في غزة خمسة وثلاثين ألفا، وهي اليوم تقارب ثمانية وخمسين ألفا. وبالطبع؛ كان يمكن أن تفشل الصفقة في أبريل 2024، أو ترفضها حماس، أو تبرم ثم لا تدوم. ولكن كان ثمة فرصة، وكان يحتمل على الأقل أن ينجو من الموت ثلاثة وعشرون ألف نفس.

لم تكن تلك هي الفرصة الأخيرة. ففي يوليو الماضي فقط، اجتمع وسطاء دوليون في روما وقد باتوا أخيرا يعتقدون أن الحظوظ تصب أخيرا في صالح وقف إطلاق النار. لكن وفق نيويورك تايمز، إذا بنتنياهو فجأة يطرح ستة مطالب جديدة بددت أي أمل للتوصل إلى اتفاق. وكان بن جفير قد اقتحم مكتب رئيس الوزراء في وقت سابق محذرا إياه من إبرام «صفقة طائشة». ومرة أخرى، أعلى نتنياهو نجاته الشخصية على أنفس الرهان الإسرائيليين والمدنيين الفلسطينيين.

قد تتصورون أن هذا السجل كاف لنرى نتنياهو وقد نبذه الناخبون الإسرائيليون؛ فالأدلة ضده دامغة، لكنه سوف يرشح نفسه في الانتخابات القادمة التي قد تكون على بعد ستة أشهر باعتبار أنه الرجل الذي قهر أعتى أعداء إسرائيل. فحزب الله لم يعد يهدد إسرائيل من الشمال، وبشار الأسد رحل، وإيران أُهينت ودمرت دفاعاتها الجوية، وتراجعت طموحاتها النووية. ولا تزال حماس قائمة، لكن إسرائيل لم تعد محاطة بـ«حلقة النار» المشكلة في طهران. يقول نتنياهو: إن الفضل في ذلك النجاح يرجع كله إليه، أما الإخفاقات التي أدت إلى مجازر حماس في السابع من أكتوبر 2023 فهي خطأ من عداه، وقد يصلح هذا خطابا انتخابيا.

لقد تحدثت هذا الأسبوع مع الصحفية الإسرائيلية المرموقة إيلانا ديان في (the Unholy podcast). ووصفت ذهول الإسرائيليين طويلا من السابع من أكتوبر ولكن الآن «أشرق علينا أخيرا الثامن من أكتوبر. بوسعنا أخيرا أن نطرح الأسئلة الصعبة المتعلقة بقيادتنا، وبمأساة غزة، وبالحرب التي لا نهاية لها. وسوف يحكم التاريخ على قيادتنا، ولكنه سوف يحكم علينا نحن أيضا».

سوف يتحتم فعلا على الإسرائيليين أن يواجهوا حسابا كبيرا بشأن الدمار الذي ألحقوه بغزة. لكن أول من سيحاكمون هو بنيامين نتنياهو الذي كانت بين يديه سلطة الحياة والموت، فاختار الموت للآخرين ثمنا لحياة عمله السياسي، فيجب أن يكلله العار إلى أن يلفظ نفسه الأخير.

جوناثان فريدلاند من كتاب أعمدة الرأي في إسرائيل.

الترجمة عن «ذي جارديان»