بريد القراء

الحديث عن الذات .. والرأي الآخر!

 
جمعتني لقاءات عدة مع بعض الأصدقاء والزملاء للحديث عن الكتابة الذاتية، ومدى فائدتها لذات الكاتب أم للآخر وهو «القارئ»؟ انقسم الذين تحدثت معهم إلى قسمين؛ الأول يرى بأن التعرّض إلى الشأن الذاتي في الكتابات هو «مجرد تنفيس عن النفس، ويذهب أحيانًا إلى خانة الهلوسة التي لا فائدةَ تُرجى منها»، أما البعض الآخر فيرى بأن التطرّق إلى الذاتيات في الكتابة له أهداف نبيلة، وهي «لسان صادق لمحتوى خضع لتجارب تم رصدها من الحياة، وهي بالطبع مفيدة للقارئ والكاتب معًا».

أغلب الذين يؤيّدون الحكم الأول على «الكتابة الذاتية»، ينبذون فكرة الحديث عن الموت والحياة والأقدار والغيبيات التي لا نعرف عنها الكثير، وهم فئة تؤمن أكثر بـ«الواقع» الذي يخلو كثيرًا من الوجدانيات. أما الفريق الثاني، فهم أقرب إلى تجسيد روح الإنسانية التي تختلط بها المشاعر والأحاسيس، وهم أرقّ حديثًا وتفكرًا في الحياة عن الآخرين، وهم يميلون كثيرًا إلى التمنّي والأمل.

إنّ التجارب الحياتية هي سجلٌّ حافل دومًا بالأحداث، والحديث عن الذات ليس معناه بُعدًا عن الواقع، بل ربما هو محاكاة صادقة لما يدور في هذا العالم من أحداث متسارعة تقع ما بين فكي «الحياة والموت» و«الألم والفرح»، وسواء كنا واقعيين أو خياليين فنحن نعيش في بؤرة واحدة، بتفاصيل متشابهة في بعض الأحيان ومختلفة في حين آخر.

من يكتب عن الذاتيات ليس شخصًا يخرج عن خارطة المألوف، بل ربما يستنطق الحكم والعِبَر من السقطات الإنسانية، سواء من السهو أو النسيان.

يرى البعض بأن من يكتب عن الذاتيات هو شخص لا يأتي بأي قيمة أدبية أو يلامس المعنى والمغزى من الكتابة! وهذا الانتقاد لا أعتقد بأنه صائب أو في محلّه، فهناك عشرات أو مئات الكتّاب حول العالم قدّموا كتبًا ثريّة بالتجارب التي تعرّضوا لها في حياتهم.

إذًا الذاتيات هي جزء من تجارب الشخص ينقلها بطريقته إلى القارئ، وأعتقد بأننا كلما تعمقنا في سلوك الإنسان وذاته الداخلية، فهمنا معنى الإنسانية التي يجب أن نعي ماهيتها وأشكالها وطريقة التعامل معها.

ماذا يعني أن تقرأ شيئًا لا تفهمه؟ أو تعتقد بأن الغموض في الكتابة هو سرُّ العبقرية الفذّة التي لا يمكن الوصول إليها؟ أرى بأن اللغة العذبة والأسلوب الشيق والحبكة الدرامية في القصص مثلًا، أو الفكرة في المقال وغيره، هي من الأدوات التي تساعد القارئ على مواصلة القراءة دون كلل أو ملل.

أرى بأنه ليس من الإنصاف في شيء أن نقيس منزلة الأشخاص من طريقة كتابتهم للنصوص الأدبية، بل أحيانًا التجارب الحياتية هي من توجد طريقها نحو قارئ جديد يتآلف مع مفردات اللغة، سواء فيما يقرأه أو يفهمه. ولذا أؤكد على أن الكتابة ليست تعقيدًا لغويًّا، أو جلب مفردات تحتاج إلى معاجم تفسّر كل كلمة وما تعنيه، فاللغة العربية مليئة بالكثير من الجمل ذات الموسيقى الآخذة، واللفظ اللطيف الذي تستقبله العين، يستقر تلقائيًّا في القلب ويفهمه العقل.

على أرض الواقع، ثمة كتب حققت نسبة مبيعات عالية جدًّا رغم أنها عبارة عن «ذاتيات» أُخذت تفاصيلها من الواقع الذي عاشه الكاتب نفسه أو من خلال المحيطين به، كُتبت بلغة جميلة. وبالمقابل، هناك أعداد كثيرة من الكتب عزف الناس عن قراءتها؛ لشدة تعقيدها وغموضها المبالغ فيه، وبقيت حبيسة الأدراج والمكتبات.

إذًا، الكتابة ليست فنًّا أدبيًّا يهتم بالتعجيز أو التنفير، بقدر ما تسهم في منح المعرفة وتوصيل المعلومة بشكل يتقبله القارئ ويستفيد منه في حياته، والحقيقة المهمة بأن القراءة تنمّي الحصيلة المعرفية بالمفردات التي يحتاج إليها القارئ. في نظري: «ليس كل قارئ هو كاتب، ولكن كل كاتب هو قارئ». فالقراءة هي من تمنح الكاتب أفقًا أوسع في التأليف والكتابة.

يتميّز بعض الكتّاب بلغة جميلة سلسة، تأخذك من يديك إلى أماكن أعمق مما كنت تتوقع، وبالتالي مسيرة القراءة بالنسبة لك هي جزء من شغف وطاقة متجددة للمضي نحو قراءة صفحات كثيرة دون أن تشعر في لحظة ما بالتعب أو الرتابة أو الندم.

يوميًّا نرى عشرات أو مئات المقالات المطوّلة في الصحف والمواقع الإلكترونية، أغلب كُتّابها يعزفون على وتر واحد. بعض المقالات وحتى التراجم لا يبعث في نفسك الشغف في متابعة القراءة، والبعض الآخر لا يقدّم لك المعلومة الصحيحة التي تحتاجها لمعرفة المشهد الحالي، بل يقدّم الكاتب مجموعة من الفرضيات أو التوقعات، وهكذا تتوالى المقالات واحدًا تلو الآخر دون أي جديد.

إذًا شغف الكتابة يُماثله شغف القراءة، فالكاتب والقارئ يقفان على خط متوازٍ، فكلما كان هناك إنتاج أدبي رفيع، ارتقى في نظر القرّاء أكثر. وما نراه اليوم من تهافت على الكتابة دون وعي، أوجد حالة من عدم الفهم لمغزى التأليف. لذا لا تستغرب إذا صادفت شخصًا أخبرك بأن له عدة مؤلفات، وتخجل أن تقول له بأنك لم تسمع عنها من قبل.

ما أود الذهاب إليه في هذا المقال هو أن الكتابة لها أصول وأدوات يجب أن يحصل عليها الكاتب من خلال تجاربه المستمرة في الكتابة، وسواء اختلفنا في مسألة تقدير أن الكاتب يعرض ذاتياته للقراء أو يبعد عنها «إيجابًا أو سلبًا»، فإن الحكم يكون من خلال الأسلوب المتبع في توصيل المعلومة دون غموض أو إبهام أو تكلّف.