الخادمة كوماري: هل لديك شاعرة مفضلة؟
الثلاثاء / 19 / محرم / 1447 هـ - 20:27 - الثلاثاء 15 يوليو 2025 20:27
تعرفتُ خلال العِقد الأخير على كثير من الشعراء أو من يحبون الشعر، وكانت سنوات الدراسة الجامعية فرصة للانتساب إلى أندية القراءة، وقد اصطفيتُ لنفسي نادياً لقراءة الشِعر، كنا وفي نزق الشباب قد خصصناه لشعر الحداثة العربية. عندما أحاول الآن تذكر قراءة أي شاعرة امرأة أعجز عن التفكير في واحدة، حاولتُ تذكر كل من اهتم بالشعر في محيطي ولم أتذكر إعجابهم بأي شاعرة، مهما اختلفت المواقع التي يفكرون أو ينجذبون منها للشعر.
تُستدعى أسماء الشعراء الرجال بطلاقة، فيما التفكير في شاعرة يحتاج لبعض الوقت وربما الهمهمات والاستغراق في التفكير. اذا فُكرُ بشاعرة، غالباً ما سيقع الاختيار على السودانية روضة الحاج، مع ذلك لا أتذكر أن قرأتُ لها، أو سمعت - على اعتبار أن موسيقية شعرها الصاخبة جعلتها في الصفوف الأولى للمدعوين في الأمسيات الثقافية - شعراً يحارب من أجل شاعرته، بدت لي المرأة في قصائدها، راضية بأدوارها التقليدية، مستكينة هناك بينما تنتظر وتحزن وتتقبل.
ينزعج الرجال من هذا الموضوع، غالباً إذا كنت رجلاً ووصلت لهذه الفقرة، فأنت غاضب، إن الحديث عن النساء في فضاء الشعر خصوصا العربي يصيبهم بالحكة، إذ إنهم لا يفهمون مطلقاً الحاجة للتفكير في جنسانية الشاعر، وأظن بأنهم ينكرون علينا محاولاتنا لزعزعة الأدوار، وقلب الطاولة، أو ربما الصراخ في وجههم جميعاً، هل تفضلُ شاعرةً عربية واحدة؟ هل من المهم لديك أن تتعرف على ما يكتبن، وإن كن غير حاضرات فما الذي يمنعهن من ذلك؟ في أحسن الأحوال سيتصالح الرجل مع نفسه، بمجرد التفكير في مبالغات النساء و«النشاطية» التي أهلكن بها أدمغتهم، وبمناسبة تجاهل الشاعرات وانزعاج الشعراء يُسعدني أن أنادي الشاعرة العراقية لميعة عباس التي ولدت ١٩٢٩ قائلة: «سلام لأمي التي علمتني بقسوتها كيف أمشي على الشوك أو أتمدد فوق المسامير
قادرةً لا ضحية».
قرأتُ مؤخراً شعراً لنساء ظفاريات، عبر تنويعات القصيدة هناك، وفي دراسة عن هذا الشعر، يعترفُ الباحث على نحو «خاطف»، أن النساء هناك كتبن في الماضي قصائد عن الحب والعشق، ولا يفعلن ذلك مؤخراً أمام انسحاب «الأغراض الشعرية» - وأنا أكره هذا التعبير - نحو قصائد التربية والمجتمع وما إلى ذلك. في الحقيقة أفكرُ في سذاجة هذه الفكرة، مع أنني أستطيع توقع تغيير في القدرة على إعلان القصيدة، لكنني أعرف جيداً أن هنالك تجارب مطموسة لشاعرات، يقاومن من أجل رغبتهن في انتزاع ما هو لهن في الأصل.
تكتب بعض الشاعرات العربيات الأكثر شهرة قصيدة النثر باستخدام صيغة المذكر، وهي مفارقة جديرة بالتأمل، في قصيدة تدعي تحررها من التقاليد في الشكل والمعنى، إلا أنه يصعبُ عليها أن تكون أنثوية، إنها في العمق اذن مقيدة. ولا يقتصر ذلك على الضمائر المستخدمة، بالإضافة لذلك غالباً ما تكون محافظة وغير متصلة بالغضب، الذي أعتقد ومن بين مشاعر عديدة، أنه عمود فقري في الموعد الذي تحدده الشاعرة للمضي قدما، أبعد مما تريده سلطة التقاليد.
يجعل هذا سؤال، اختراع الشاعرة لذات جديدة مهمة، تلك المدفونة تحت ركام عقود من الهيمنة الذكورية، والتي عرفتنا قسراً على ماهيتنا وما ينبغي أن نكون عليه، وتبدو بهذه المعطيات مهمة مستحيلة. عندها يصبح من الصعب أن تحمل القصائد صدى عالمنا الداخلي كاملاً.
وفي هذا السياق تجيب الشاعرة منى كريم وهي بدون / كويتية، أعتقد أنها من أهم الأصوات في العالم العربي، عن انشغالها بالمكان، وهو اشتغال مفروض عليها لأزمتها مع الجنسية والمواطنة إلا أن هذا لن يحول دون اكتشاف ذاتها: «بالتأكيد سؤال المكان يشغلني دائماً وأحاول تجاوزه...أردت أن أؤسس لنفسي ممارسة ذاتية في كتابة الشعر بإمكانها أن تمتد إلى كتابات مستقبلية. أخاف أن يغلب سؤال المكان على كل ملامح ذاتي ويقلصها إلى كائن أحادي البُعد. في قصيدة «لست أنا»، مثلاً، كتبت أهم رغباتي في إعادة تشكيل الذات المحتقنة- الذات لا تجد لها جذوراً في المكان، المهمشة المرفوضة التي لا يريد أحد أن يرى تعدديتها وتعقيداتها. ثم في نهاية المجموعة وضعت قصيدة «منى كريم»، التي أكتب فيها ببساطة أن الشعر في النهاية ليس أقل من رحلة شخصية لإعادة تشكيل الذات. هكذا يُمكّنني الشعر من التغلب على سادية المكان سواء بالعبور تجاوزاً أو بالتصارع المنهك أحياناً».
نستدعي في سياق إدراك هذه المسائل ورسوخها في الأوساط الثقافية العربية كتاب سعيدة خاطر: «الاغتراب في الشعر النسوي الخليجي» الصادر عام 2018. إن كلمة «نسوي» واعدة جداً، إذ إن لها حمولة ثقافية، يتوقع قارئها الانطلاق منها، لكن الكتاب لا علاقة له بمنهج النظرية النسوية النقدي في الأدب، بل انه على النقيض من ذلك تماماً، الأمر الذي يدفعني للتساؤل عن خيار استخدام هذه الكلمة في العنوان، بينما تحب هذه الأوساط كلمة «نسائي» وهي بحسب ظني أدق في هذه الحالة، هنا ورغم الاغتراب لا مكان لأسئلة خلق الذات، بل إنها محاولة أخرى معتبرة لدفن هذا السؤال.
يُلزم مفهوم التقاطعية النسوية النقدي بدوره، في النظر للتداخل بين أنواع التمييز: العرق، الطبقة الاجتماعية، الجندر، الدين، والإعاقة، وهو ما تحققه منى كريم بوضوح في مجموعتها الشعرية الجديدة « الأخضر واليابس» الصادرة 2024، ومثالاً عليها قصيدة «كوماري»
«عزيزتي كوماري،
لا أعرف طبعًا إن كان اسمك كوماري أو غيره، جرت العادة أن يغيروا اسم الخادمة فور وصولها، تقول لكِ الماما: «اسمك مريم/ فاطمة/ كوماري/ جاندرا»
لربما ستضطرين إلى مساعدة الابن
في اكتشاف رغباته الجنسية/ أو حتى التضحية من أجل خيبات الأب الجسدية في الحالتين، لا تركضي إلى مركز الشرطة، من هناك يأتي كل الآباء والأبناء. «كانت منى كريم قد نشرت قصيدتها هذه في وقت سابق، في مجلة «اختيار» النسوية، في نص طويل عنوانه «مانفيستو ضد المرأة» بعد الربيع العربي، وفي حوار تُسأل عن ما تعنيه ب: ضد المرأة لا (النساء) بالإضافة لغرابة قراءة قصيدة داخل مانفيستو، وعن اقتراب الشعر من هذا الخطاب وبقائه شعراً. تعترف منى بأنها هدفت لخلخلة الوصف المطلق للمرأة في كونها ضحية فحسب، وأن المانفيستو بمثابة مداخلة لنقد النسوية الكلاسيكية التي لا تعترف بالتقاطعية. وكانت قد درست في أطروحتها للدكتوراه «الرواية النسوية العربية المعاصرة» وتموقع المرأة الكاتبة من الجماعات المهمشة، لا تظهر كوماري وغيرها من النساء الا كـ «شبح عابر»، فتقف هذه الخادمة على الطرف النقيض من الكاتبة المواطنة ابنة الطبقات العليا.
وعن القصيدة داخل المانفيستو أقتبس لها: «لطالما وجدت في قصيدة النثر كتابة مفتوحة مضادة للأجناس الأدبية والمفارقة أن المانفستو في بدايات القرن الماضي جاء كمضاد للأجناس الأدبية مثلما نلاحظ في تجارب السورياليين والمستقبليين. وبذلك يلتقي المانفستو بالقصيدة عند نقطة المرونة هذه باتجاه ممارسة كتابية لا تعترف بالحدود بين التنظيري والسردي والشعري»
على الجانب الآخر للشاعرة الأمريكية أدريان ريتش، مداخلات مطولة عن كتابة النساء، وعن تجربتها الشخصية في الانعتاق من حدود البَطْرِيَرْكِيّة (Patriarchy) ، جربت ريتش كثيراً وفشلت، ثم أعادت قراءة النساء الخالدات في الأدب، أعادت قراءة «غرفة تخص المرء وحده» لفرجينيا ولف مجدداً، هرعت إلى سيلفيا بلاث، ايميلي ديكنسون وأخريات. مع ذلك وبعد زواجها وإنجابها لأطفالها، صممت على أن تجرب الكتابة من جديد، عليها أن تتجاوز تلك الأسوار، فهي كبقية النساء لم يعد باستطاعتهن أن يكن ملهمات للرجال وأمهات فقط، إذ إن لديهن عملا شاقا لإنجازه فيما يتعلق بذواتهن.
وجدت أدريتش أن الخيال مضاد للتقويض الذي تمارسه البنى الذكورية، مضاد للدور الكلاسيكي للمرأة، لكن الخيال كثير ما يتم كبحه وحصاره، تقول عن محاولاتها الشعرية آنذاك: «بدا لي الأمرُ كما لو كنتُ عالقةً بين خيارين: «الحبّ» -النسويّ الأموميّ الإيثاريّ-، حبّ يرزحُ تحت ثقل ثقافةٍ كاملةٍ تحدّده وتتحكّم به، أو الغرور، قوّة يدفعُها الرجال نحو الإبداع والإنجاز والطموح، غالبًا على حساب الآخرين، ولكن بطريقةٍ مُبرّرة. أوليسوا رجالًا وهذا مصيرُهم بينما الحبّ النسائيّ مصيرنا نحن؟ أعرفُ الآن أنّ تلك الخيارات خياراتٌ زائفة وأنّ كلمةَ «الحبّ» هي الأخرى بحاجةٍ للمراجعة».
شعرتْ ادريتش مع قراءة فرجينيا ولف، أن هذه الأخيرة حاولت أن تكون «موضوعية» في مقالتها «غرفة تخص المرء وحده» مما جعلها منفصلة تماماً عن غضبها، حاولت وولف ألا تبدو غاضبة، تلك اللهجة التي تقول ادريتش إنها تعرفها جيداً مثل كثير من النساء، وهي أن يفرضن على أنفسهن إرادة أن يكن هادئات، كما لو أن ذلك سيسحر الرجال في غرفة وولف.
يظن الرجال أننا مسعورات، غير مفهومات، وهذه الأخيرة حيلة لجعل الإلغاز مسوغاً للإساءة بشتى أنواعها، أو بتعبير المنظرة النسوية سارة أحمد الباكستانية/انجليزية «مفسدات للبهجة». وأظن أننا متى ما كنا كذلك أصبحنا أكثر إخلاصاً لأصواتنا الداخلية/ لذواتنا التي يتم توليدها والتي نحتاج لجهد حثيث لاكتشافها ثم التعبير عنها كما حدث مع ريتش. وهي تقول بالمناسبة: «أعتقدُ أنّنا يجبُ أن نخوضَ في ذلك الغضب، لأنّنا سنخونُ واقعنا لو حاولنا، مثلما فعلت فرجينا وولف، تقمّصَ موضوعيّةٍ وانفصالٍ يجعلان أصواتنا أشبه بصوتيْ جين أوستن وشيكسبير.»
إن الشاعرات بحاجة لإدراك أن لهن ذوات هائلة لم تُسمَ بعد، وهذه الذات قادرة على تجاوز قيم الطموح والمصالح التي حددها عالم الرجال، فتنظر للنساء في مواقعهن المختلفة، يتعاطفن ويحببن ويكرهن ويعادين بلغة يصنعنها معاً. وأن الطريق لاعتبارهن شاعرات مفضلات مسدودٌ في هذه اللحظة، حتى يفتحنه رغماً عن كل شيء.
أخيراً: لابد أن نزاحم الرجال خصوصا الشعراء منهم ونكدرهم بإلحاحنا.
تُستدعى أسماء الشعراء الرجال بطلاقة، فيما التفكير في شاعرة يحتاج لبعض الوقت وربما الهمهمات والاستغراق في التفكير. اذا فُكرُ بشاعرة، غالباً ما سيقع الاختيار على السودانية روضة الحاج، مع ذلك لا أتذكر أن قرأتُ لها، أو سمعت - على اعتبار أن موسيقية شعرها الصاخبة جعلتها في الصفوف الأولى للمدعوين في الأمسيات الثقافية - شعراً يحارب من أجل شاعرته، بدت لي المرأة في قصائدها، راضية بأدوارها التقليدية، مستكينة هناك بينما تنتظر وتحزن وتتقبل.
ينزعج الرجال من هذا الموضوع، غالباً إذا كنت رجلاً ووصلت لهذه الفقرة، فأنت غاضب، إن الحديث عن النساء في فضاء الشعر خصوصا العربي يصيبهم بالحكة، إذ إنهم لا يفهمون مطلقاً الحاجة للتفكير في جنسانية الشاعر، وأظن بأنهم ينكرون علينا محاولاتنا لزعزعة الأدوار، وقلب الطاولة، أو ربما الصراخ في وجههم جميعاً، هل تفضلُ شاعرةً عربية واحدة؟ هل من المهم لديك أن تتعرف على ما يكتبن، وإن كن غير حاضرات فما الذي يمنعهن من ذلك؟ في أحسن الأحوال سيتصالح الرجل مع نفسه، بمجرد التفكير في مبالغات النساء و«النشاطية» التي أهلكن بها أدمغتهم، وبمناسبة تجاهل الشاعرات وانزعاج الشعراء يُسعدني أن أنادي الشاعرة العراقية لميعة عباس التي ولدت ١٩٢٩ قائلة: «سلام لأمي التي علمتني بقسوتها كيف أمشي على الشوك أو أتمدد فوق المسامير
قادرةً لا ضحية».
قرأتُ مؤخراً شعراً لنساء ظفاريات، عبر تنويعات القصيدة هناك، وفي دراسة عن هذا الشعر، يعترفُ الباحث على نحو «خاطف»، أن النساء هناك كتبن في الماضي قصائد عن الحب والعشق، ولا يفعلن ذلك مؤخراً أمام انسحاب «الأغراض الشعرية» - وأنا أكره هذا التعبير - نحو قصائد التربية والمجتمع وما إلى ذلك. في الحقيقة أفكرُ في سذاجة هذه الفكرة، مع أنني أستطيع توقع تغيير في القدرة على إعلان القصيدة، لكنني أعرف جيداً أن هنالك تجارب مطموسة لشاعرات، يقاومن من أجل رغبتهن في انتزاع ما هو لهن في الأصل.
تكتب بعض الشاعرات العربيات الأكثر شهرة قصيدة النثر باستخدام صيغة المذكر، وهي مفارقة جديرة بالتأمل، في قصيدة تدعي تحررها من التقاليد في الشكل والمعنى، إلا أنه يصعبُ عليها أن تكون أنثوية، إنها في العمق اذن مقيدة. ولا يقتصر ذلك على الضمائر المستخدمة، بالإضافة لذلك غالباً ما تكون محافظة وغير متصلة بالغضب، الذي أعتقد ومن بين مشاعر عديدة، أنه عمود فقري في الموعد الذي تحدده الشاعرة للمضي قدما، أبعد مما تريده سلطة التقاليد.
يجعل هذا سؤال، اختراع الشاعرة لذات جديدة مهمة، تلك المدفونة تحت ركام عقود من الهيمنة الذكورية، والتي عرفتنا قسراً على ماهيتنا وما ينبغي أن نكون عليه، وتبدو بهذه المعطيات مهمة مستحيلة. عندها يصبح من الصعب أن تحمل القصائد صدى عالمنا الداخلي كاملاً.
وفي هذا السياق تجيب الشاعرة منى كريم وهي بدون / كويتية، أعتقد أنها من أهم الأصوات في العالم العربي، عن انشغالها بالمكان، وهو اشتغال مفروض عليها لأزمتها مع الجنسية والمواطنة إلا أن هذا لن يحول دون اكتشاف ذاتها: «بالتأكيد سؤال المكان يشغلني دائماً وأحاول تجاوزه...أردت أن أؤسس لنفسي ممارسة ذاتية في كتابة الشعر بإمكانها أن تمتد إلى كتابات مستقبلية. أخاف أن يغلب سؤال المكان على كل ملامح ذاتي ويقلصها إلى كائن أحادي البُعد. في قصيدة «لست أنا»، مثلاً، كتبت أهم رغباتي في إعادة تشكيل الذات المحتقنة- الذات لا تجد لها جذوراً في المكان، المهمشة المرفوضة التي لا يريد أحد أن يرى تعدديتها وتعقيداتها. ثم في نهاية المجموعة وضعت قصيدة «منى كريم»، التي أكتب فيها ببساطة أن الشعر في النهاية ليس أقل من رحلة شخصية لإعادة تشكيل الذات. هكذا يُمكّنني الشعر من التغلب على سادية المكان سواء بالعبور تجاوزاً أو بالتصارع المنهك أحياناً».
نستدعي في سياق إدراك هذه المسائل ورسوخها في الأوساط الثقافية العربية كتاب سعيدة خاطر: «الاغتراب في الشعر النسوي الخليجي» الصادر عام 2018. إن كلمة «نسوي» واعدة جداً، إذ إن لها حمولة ثقافية، يتوقع قارئها الانطلاق منها، لكن الكتاب لا علاقة له بمنهج النظرية النسوية النقدي في الأدب، بل انه على النقيض من ذلك تماماً، الأمر الذي يدفعني للتساؤل عن خيار استخدام هذه الكلمة في العنوان، بينما تحب هذه الأوساط كلمة «نسائي» وهي بحسب ظني أدق في هذه الحالة، هنا ورغم الاغتراب لا مكان لأسئلة خلق الذات، بل إنها محاولة أخرى معتبرة لدفن هذا السؤال.
يُلزم مفهوم التقاطعية النسوية النقدي بدوره، في النظر للتداخل بين أنواع التمييز: العرق، الطبقة الاجتماعية، الجندر، الدين، والإعاقة، وهو ما تحققه منى كريم بوضوح في مجموعتها الشعرية الجديدة « الأخضر واليابس» الصادرة 2024، ومثالاً عليها قصيدة «كوماري»
«عزيزتي كوماري،
لا أعرف طبعًا إن كان اسمك كوماري أو غيره، جرت العادة أن يغيروا اسم الخادمة فور وصولها، تقول لكِ الماما: «اسمك مريم/ فاطمة/ كوماري/ جاندرا»
لربما ستضطرين إلى مساعدة الابن
في اكتشاف رغباته الجنسية/ أو حتى التضحية من أجل خيبات الأب الجسدية في الحالتين، لا تركضي إلى مركز الشرطة، من هناك يأتي كل الآباء والأبناء. «كانت منى كريم قد نشرت قصيدتها هذه في وقت سابق، في مجلة «اختيار» النسوية، في نص طويل عنوانه «مانفيستو ضد المرأة» بعد الربيع العربي، وفي حوار تُسأل عن ما تعنيه ب: ضد المرأة لا (النساء) بالإضافة لغرابة قراءة قصيدة داخل مانفيستو، وعن اقتراب الشعر من هذا الخطاب وبقائه شعراً. تعترف منى بأنها هدفت لخلخلة الوصف المطلق للمرأة في كونها ضحية فحسب، وأن المانفيستو بمثابة مداخلة لنقد النسوية الكلاسيكية التي لا تعترف بالتقاطعية. وكانت قد درست في أطروحتها للدكتوراه «الرواية النسوية العربية المعاصرة» وتموقع المرأة الكاتبة من الجماعات المهمشة، لا تظهر كوماري وغيرها من النساء الا كـ «شبح عابر»، فتقف هذه الخادمة على الطرف النقيض من الكاتبة المواطنة ابنة الطبقات العليا.
وعن القصيدة داخل المانفيستو أقتبس لها: «لطالما وجدت في قصيدة النثر كتابة مفتوحة مضادة للأجناس الأدبية والمفارقة أن المانفستو في بدايات القرن الماضي جاء كمضاد للأجناس الأدبية مثلما نلاحظ في تجارب السورياليين والمستقبليين. وبذلك يلتقي المانفستو بالقصيدة عند نقطة المرونة هذه باتجاه ممارسة كتابية لا تعترف بالحدود بين التنظيري والسردي والشعري»
على الجانب الآخر للشاعرة الأمريكية أدريان ريتش، مداخلات مطولة عن كتابة النساء، وعن تجربتها الشخصية في الانعتاق من حدود البَطْرِيَرْكِيّة (Patriarchy) ، جربت ريتش كثيراً وفشلت، ثم أعادت قراءة النساء الخالدات في الأدب، أعادت قراءة «غرفة تخص المرء وحده» لفرجينيا ولف مجدداً، هرعت إلى سيلفيا بلاث، ايميلي ديكنسون وأخريات. مع ذلك وبعد زواجها وإنجابها لأطفالها، صممت على أن تجرب الكتابة من جديد، عليها أن تتجاوز تلك الأسوار، فهي كبقية النساء لم يعد باستطاعتهن أن يكن ملهمات للرجال وأمهات فقط، إذ إن لديهن عملا شاقا لإنجازه فيما يتعلق بذواتهن.
وجدت أدريتش أن الخيال مضاد للتقويض الذي تمارسه البنى الذكورية، مضاد للدور الكلاسيكي للمرأة، لكن الخيال كثير ما يتم كبحه وحصاره، تقول عن محاولاتها الشعرية آنذاك: «بدا لي الأمرُ كما لو كنتُ عالقةً بين خيارين: «الحبّ» -النسويّ الأموميّ الإيثاريّ-، حبّ يرزحُ تحت ثقل ثقافةٍ كاملةٍ تحدّده وتتحكّم به، أو الغرور، قوّة يدفعُها الرجال نحو الإبداع والإنجاز والطموح، غالبًا على حساب الآخرين، ولكن بطريقةٍ مُبرّرة. أوليسوا رجالًا وهذا مصيرُهم بينما الحبّ النسائيّ مصيرنا نحن؟ أعرفُ الآن أنّ تلك الخيارات خياراتٌ زائفة وأنّ كلمةَ «الحبّ» هي الأخرى بحاجةٍ للمراجعة».
شعرتْ ادريتش مع قراءة فرجينيا ولف، أن هذه الأخيرة حاولت أن تكون «موضوعية» في مقالتها «غرفة تخص المرء وحده» مما جعلها منفصلة تماماً عن غضبها، حاولت وولف ألا تبدو غاضبة، تلك اللهجة التي تقول ادريتش إنها تعرفها جيداً مثل كثير من النساء، وهي أن يفرضن على أنفسهن إرادة أن يكن هادئات، كما لو أن ذلك سيسحر الرجال في غرفة وولف.
يظن الرجال أننا مسعورات، غير مفهومات، وهذه الأخيرة حيلة لجعل الإلغاز مسوغاً للإساءة بشتى أنواعها، أو بتعبير المنظرة النسوية سارة أحمد الباكستانية/انجليزية «مفسدات للبهجة». وأظن أننا متى ما كنا كذلك أصبحنا أكثر إخلاصاً لأصواتنا الداخلية/ لذواتنا التي يتم توليدها والتي نحتاج لجهد حثيث لاكتشافها ثم التعبير عنها كما حدث مع ريتش. وهي تقول بالمناسبة: «أعتقدُ أنّنا يجبُ أن نخوضَ في ذلك الغضب، لأنّنا سنخونُ واقعنا لو حاولنا، مثلما فعلت فرجينا وولف، تقمّصَ موضوعيّةٍ وانفصالٍ يجعلان أصواتنا أشبه بصوتيْ جين أوستن وشيكسبير.»
إن الشاعرات بحاجة لإدراك أن لهن ذوات هائلة لم تُسمَ بعد، وهذه الذات قادرة على تجاوز قيم الطموح والمصالح التي حددها عالم الرجال، فتنظر للنساء في مواقعهن المختلفة، يتعاطفن ويحببن ويكرهن ويعادين بلغة يصنعنها معاً. وأن الطريق لاعتبارهن شاعرات مفضلات مسدودٌ في هذه اللحظة، حتى يفتحنه رغماً عن كل شيء.
أخيراً: لابد أن نزاحم الرجال خصوصا الشعراء منهم ونكدرهم بإلحاحنا.