ثقافة

جمانة الطراونة: للشعر سطوة لا فكاك منها.. وهو مشروعي الأول والأخير

تناولت الذات والهوية والانتماء بين الشعر والمسرح والنقد

 
في «خاتم الياقوت» كتبت عن الأنثى بكل حالاتها -

البيئة العمانية أسهمت في منحي «سلاما داخليا» وكتابة خصبة -

بالرغم من أن الياقوت هو حجرها المفضل، لكن في ديوانها الأخير 'خاتم الياقوت' كان مجازا موجها لزوجها الذي ألهمها قصيدة من أبرز نصوص الديوان.

الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة من مواليد مدينة الكرك الأردنية تعيش في سلطنة عمان، وشاركت في كتابات مسرحية ونقدية عن المسرح العماني. ترجمت مختارات من أعمالها الشعرية إلى اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والبرتغالية، والإيطالية. ونالت العديد من الجوائز، كجائزة القوافي الذهبية من حاكم الشارقة، وجائزة حبيب الزيودي لأفضل ديوان شعري عن 'عتاب الماء'، والمركز الأول في جائزة أثير للشعر العربي في سلطنة عمان، وجائزة أوسكار المبدعين العرب في جمهورية مصر العربية.

في هذا الحوار نقترب من جمانة الطراونة؛ لتلامس حضورها الأدبي وامتداده في ديوانها الأخير..

- قصائدك تتناول الحب والحنين والتأمل في الذات.. هل كانت تجربة شخصية أم تأملات تعكس رؤيتك؟

لم تكن كتاباتي عن الحب في قصائدي بشكل عام نابعة من تجربة شخصية في البداية، وإنما لأننا كبشر فطرنا على المحبة؛ فالله محبة، والرسالات السماوية محبة، والأوطان محبة. وفيما يخص القصائد العاطفية التي تضمنتها دواويني؛ فقد كنت أتحدث بلسان المرأة العاشقة والمتعبة والمرهقة، والناجحة والمعتدة بنفسها والفارسة، فأنا كامرأة إن لم أعبر عن المرأة، وأتحدث عنها بلسانها فمن يستطيع ذلك؟

- (خاتم الياقوت) لماذا اخترت هذا العنوان تحديدا؟ وما الرمز الذي يحمله الياقوت في قصائدك؟

الياقوت هو الحجر الكريم المفضل لدي؛ فاخترته مجازا لأخاطب به زوجي الذي اعتاد أن يضع يده في جيب معطفه فكتبت له قصيدة قلت في مطلعها:

في خاتم الياقوت طوق إصبعه

كل العيون تعلقت وأنا معه

ماذا على رجل يدس أناملا

في جيب معطفه فيخلق زوبعه؟

- في قصيدة 'قطعا أحبك' تتحدثين عن فردية الحب وسط الكل؛ هل ترمز هذه القصيدة إلى مسار فلسفي في علاقتك بالشعر، والتجربة الإنسانية؟

لكل قصيدة حب خصوصيتها التي تنطلق من التجربة المغلفة بإطار معرفي، وجمالي. هذه التجربة في خصوصيتها لا تنفصل عن التجربة الإنسانية؛ حيث يصب الخاص في العام، ولولا ذلك تبقى التجربة محدودة. وقصيدة (قطعا أحبك) من أعز القصائد على قلبي؛ فقد كتبتها في زوجي، وأنا بطبعي لست أنانية، وليس عندي حب التملك 'فمن ترك ملك' إلا في الحب؛ لذلك قلت له:

قطعا أحبك سيدي قطعا

وأنا التي بك لم تضق ذرعا

فأنا نساء الكون قاطبة

وبمفردي سأكافئ الجمعا

لأكون إن أفردت واحدة

وأصير إن أشركت بي تسعا

- صدر لك أربعة دواوين سابقة، وحاز ديوانك 'عتاب الماء' جائزة حبيب الزيودي. كيف تنقلت بينها وصولا إلى ديوانك الخامس؟

رحلتي مع الشعر مستمرة؛ فلم أتوقف يوما عن الكتابة والقراءة منذ اعتليت صهوة جواد الشعر، ونشرت ديواني الأول (سنابك البلاغة)، فدائما يشغلني الجديد والقادم وما أن أنتهي من عمل أدبي حتى أبدأ عملا جديدا، وكل فكرة تأتيني تفضي إلى أخرى. وخلال السنوات الأخيرة عملت على الاستزادة من الاطلاع، والتركيز أكثر على القراءة، ومواكبة كل جديد، وتعزيز الحضور في المحافل الثقافية خصوصا وأن أغلب وقتي كنت أقضيه مع الخيل في ميادين الفروسية، والعمل في المحاماة.

- قيل عن أشعارك بأنها 'تكرس صوت الأنثى في قصائدها'. كيف تفسرين حضور الهوية الأنثوية في التجربة الشعرية بشكل عام، و'خاتم الياقوت' بالتحديد؟

ينطلق الشعر من الذات وعوالمها الخفية المخزونة في اللاشعور. ومنذ بداياتي كنت حريصة على تدوين كل ما تشعر به المرأة بلغتها الخاصة بها؛ لأعبر عنها. أحاول أن أتجنب ما تقع به بعض الشواعر من استعارة أحاسيس من قراءاتهن لتجارب متحققة لشعراء تأثرن بهم، فلا أقدر من الشاعرة في التعبير عن المرأة وخلجات نفسها وفي (خاتم الياقوت) كان الأمر مختلفا، ومن قبله (عتاب الماء)؛ فقد حضرت فيهما امرأة حقيقية عبرت عن مشاعرها الخاصة تجاه من تحب بكل جرأة، فكتبت:

إلى رجل من النبلاء أنبل

ومن لغة المديح الفخم أجزل

تخطى حاجز الستين لكن

لحد الآن كالأطفال يخجل

إذا عدوا الرجال أتى إماما

وإن ذكروا الفضائل جاء أول

أموت عليه إما قال وصفا

فكيف الحال لو بي قد تغزل؟!

حبيبي فارسي رجلي أميري

وزوجي شاعري العذب المبجل

طبعا هذا قدر المرأة وخصوصا الشاعرة في مجتمعاتنا المحافظة أن تكتب بنصف لغة، وأن تخرج مشاعرها مبتورة الأطراف؛ لتسلم من النقد، والمساءلة الاجتماعية، وأن تغلف الألفاظ، وتحجب شعرها كما تحجب شعرها؛ لأن العواطف والبوح خطيئة يحاسب عليها المجتمع وينتقدها.

- كيف أثرت البيئة العمانية بحضارتها وأرضها ونسماتها على تجاربك الشعرية، وخصوصا في ديوانك الجديد (خاتم الياقوت)؟

أشبه عمان وتشبهني وقد سحرتني الأجواء الآسرة في سلطنة عمان حيث الطبيعة الخلابة، والجبال الشاهقة، والبحر الواسع الممتد، وأهم من ذلك الإنسان في عمان؛ فهو مختلف تماما. فالعمانيون دعاة سلام، وبلادهم آمنة، ومستقرة، وهي حاضنة دافئة. وقد كتبت عن عمان الكثير من القصائد، وأفردت في ديواني الأخير (خاتم الياقوت) قصيدة لعمان باسم (أرض السلام) وهي القصيدة التي فازت بالمركز الأول في جائزة أثير للشعر العربي، وقد عبرت فيها عن مشاعري تجاه هذا البلد الذي أحببته فوصفت تناغم المكان والزمان مع الإنسان وانصهاري معهما. ليس هذا فقط؛ فقد كتبت بحكم قربي من المشهد المسرحي العماني كتاب (تمثلات الحداثة وما بعدها في المسرح العماني) الذي صدر عن الهيئة العربية للمسرح وكتاب ( الرواية المتحفية أصيلة وصابرة لغالية ف. ت. آل سعيد نموذجا) الذي سيصدر قريبا عن دار (الآن ناشرون وموزعون) وقد انتهيت من كتاب (مراكب الضوء تجليات البحر في المسرح العماني). ولن أتوقف عن الكتابة عن عمان الوطن الذي أحب وأعشق. ولا يتوقف ذلك الاهتمام عند الكتابة عن الأدب العماني، بل تجاوز ذلك إلى المشاركة في الحياة الثقافية من خلال إحياء أمسيات شعرية، وإدارة الجلسات الحوارية. وقد شاركت في ورش عمل تطبيقية في نقد العروض المسرحية والأداء التمثيلي، والسينوغرافيا نظمتها مديرية المسارح بوزارة الثقافة والرياضة والشباب. وشاركت في تقديم قراءة تحليلية متكاملة للفلم الروائي القصير (رماد) للمخرج سليمان الخليلي تحت عنوان ( قضايا الشرف بين القانون الاجتماعي والمعالجة الفنية ) التي أقامتها الجمعية العمانية للسينما والمسرح، والكثير من الأنشطة، والجلسات الحوارية، والفعاليات في الشعر والمسرح والسينما والأفلام القصيرة. كل ذلك لن يتأتى لو لم أنعم بالسلام الداخلي الذي أسبغه علي المكان.

- كيف تمكن المنصات التفاعلية الشعر من الوصول إلى جمهور أوسع؟

سبق أن ذكرت في استطلاع بهذا الخصوص أن الإنسان كائن متغير بطبيعته لا يتوقف عند نقطه معينة، وهو ابن بيئته بطبيعة الحال. ولأن العالم قد أصبح قرية صغيرة تعمل ضمن منظومة معرفية متكاملة -ونحن جزء من هذه المنظومة-؛ فإنه يجب علينا كصانعي محتوى وأدباء وكتاب وشعراء في شتى المجالات مواكبة التطورات التقنية؛ لنبقى ضمن منظومة الوجود الإنساني.

ومما لاشك فيه أن المنصات التفاعلية تساهم مساهمة فاعلة في احتواء الكتابات الأدبية بشتى أنواعها، وتساهم في انتشارها، وإيصالها إلى المتلقي؛ بحيث يمكنه الاحتفاظ بها، والرجوع إليها متى شاء بكل سهولة وسلاسة؛ إذ لا يكلفه الأمر سوى ' نقرة زر'، بل أكثر من ذلك؛ إذ أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي للقارئ أن يتواصل مع الشاعر مباشرة، ويترك تعليقه، ويبدي رأيه باللحظة والتو، الأمر الذي يخدم الشاعر فيما بعد بصنع المسافة الجمالية التي تفصل بين أفق نصه الذي يقدمه، وأفق توقعات القارئ، وبالتالي يكون الشاعر على مقربة من القراء؛ بحيث يتمكن من معرفة أصداء عمله الأدبي عن كثب.

- في كتابك 'تمثلات الحداثة وما بعدها في المسرح العماني' توجهت إلى الجانب النقدي.. كيف ترتبط معرفتك المسرحية في تشكيل نصوصك الشعرية؟

علاقة المسرح بالشعر علاقة قديمة تعود إلى بدايات المسرح الذي ولد على يد كبار الشعراء مثل اسخيليوس، وسوفيكلس، وقد أشار أرسطو إلى هذه العلاقة في كتابه (فن الشعر). دخلت إلى المسرح من بوابة الشعر؛ فالشعر هو الحاضنة الأولى للمسرح، وهو البوتقة التي انبثق منها، فهما صنوان ووجهان لعملة واحدة من حيث المواضيع والاهتمامات والرؤى والتطلعات وأيضا من حيث الاشتغالات؛ فالمناهج النقدية التي تناولت الشعر هي ذاتها المناهج النقدية التي تناولت المسرح سواء كانت مناهج سياقية خارجية، أو مناهج نسقية داخلية.

- كتابك حول المسرح العماني أظهر نضجا نقديا يوازي تجربتك الإبداعية. كيف ترين واقع المسرح العماني؟

قبل إقامتي في السلطنة شاهدت عدة عروض مسرحية من خلال مشاركاتها في المهرجانات العربية، وفي (اليوتيوب). وقرأت نصوصا لكتاب مسرحيين عمانيين، فتكونت لدي حصيلة من تلك المشاهدات تعززت بعد إقامتي في السلطنة، والاقتراب من الوسط المسرحي العماني. وأرى أن المسرح العماني قطع أشواطا بعيدة، وقد نضج في السنوات الأخيرة بجهود الشباب الذين استفادوا من مشاركاتهم في المهرجانات، والورش الفنية، والاقتراب من التجارب المسرحية العربية؛ لذا فالمسرح العماني يبشر بخير وفير.

- تحدثت عن كتاب قادم في (الرواية المتحفية). ما العلاقة بين تجربتك الشعرية وهذه الخطوة إلى السرد الروائي والنقد الثقافي؟

نعيش في زمن انفتحت به الأجناس الأدبية على بعضها؛ ففي الرواية نجد الشعر حاضرا مثلما نجد السرد في الشعر الملحمي، فلا توجد هنالك حواجز صارمة بين الرواية والمسرح والشعر. قرأت رواية (صابرة وأصيلة) للروائية غالية ف. ت. آل سعيد، وظلت أحداث الرواية عالقة بذاكرتي، وحين زرت متحف (المكان والناس) في مطرح وجدت به صورة حية مصغرة عن المكان في الرواية بكامل تفاصيله، ليس المكان بتقسيماته وترتيبه كما كان في الماضي، بل حتى بمحتوياته من الأثاث والأواني وأدوات الزينة والأزياء، ولفت انتباهي وجود غرفة (مصبح) أحد أبطال الرواية. حينها بدأت أربط بين ما شاهدته في المتحف، وما قرأته في الرواية، فانبثقت شرارة الكتاب؛ لأتطرق به للحديث عن مفهوم الرواية المتحفية الذي لا يزال حديثا في النقد العربي. وعندما بحثت عن مصادر للكتابة عن هذا الموضوع وجدت أن الكاتب التركي (أورهان باموق) قد كتب رواية (متحف البراءة) عام 2008 ثم أسس متحفا واقعيا يحمل نفس الاسم عام 2012 عرض به المقتنيات التي وردت في روايته. إلا أن الدكتورة غالية آل سعيد قد سبقته في ذلك؛ حيث نشرت روايتها (صابرة وأصيلة) عام 2007 ، ومن ثم أسست متحف (المكان والناس) عام 2011 م فضلا عن أن متحفها يوثق حياة مجتمع كامل، وهو سبق يحسب لكاتبة عربية، ويعكس عمق رؤيتها الثقافية.

وما دفعني للكتابة بهذا الصدد أن متحف (المكان والناس) يمثل مرآة المكان في رواية (صابرة وأصيلة)، وقد وثقت فيه الروائية غالية آل سعيد سيرة الإنسان وذاكرة المكان، وأخرجت المتحف من صورته التقليدية المترسخة بالأذهان بأن يكون مكانا واسعا تعرض به قطع آثارية وتراثية تعتلي قواطع خشبية تحتضنها صناديق زجاجية تسمح للزوار برؤيتها عن قرب من دون الاقتراب منها أو لمسها، واتبعت المناهج الحديثة في إظهار التراث بصورته الواقعية دون تنميق أو تزويق؛ بحيث يستشعر الزائر المكان والزمان كما هو كائن لا كما كان.

وقد ذكر أستاذ البلاغة والنقد في الجامعة المستنصرية الدكتور سعد التميمي في معرض تقديمه للكتاب أن ' هذا الكتاب عمل جاد ينتمي إلى دائرة النقد الثقافي الحديث، ويقدم إضافة حقيقية في مجال الربط بين التراث والسرد، وبين الذاكرة والمادة من جهة، وبين الحكي والتوثيق من جهة أخرى، ويؤسس لجيل جديد من الدراسات التي تقرأ النص الروائي من منظور ثقافي بصري مادي، في الوقت الذي تعيد فيه الاعتبار للتراث المحلي بوصفه منبعا للهوية، ومصدرا للإبداع، وسياقا للحوار الحضاري المفتوح'.

- بعد هذا المسار المتنوع (شعر، ونقد، ورواية)، إلى أين تتجهين فكريا وفنيا خلال السنوات المقبلة؟

مهما تعددت اهتماماتي يظل الشعر هو الدوحة التي أستظل بفيئها. وكلما انشغلت عنه يعيدني إليه رغما عني. فللشعر سطوته التي لا فكاك منها؛ فهو يسكننا من حيث لا ندري. والمتتبع يعرف أن منجزي الشعري أكثر غزارة من بقية المجالات الأدبية الأخرى. والجوائز الأدبية التي نلتها كانت عن مشاركات شعرية؛ فالشعر هو المنطلق وهو المنتهى، وهو مشروعي الأول والأخير.

- ما النصيحة التي تقدمينها للشعراء والشاعرات الواعدين، خاصة هؤلاء الذين يعبرون عن الهوية والعاطفة في عالم سريع الإيقاع؟

أنصحهم بالإخلاص للشعر، والمضي في المغامرة الشعرية إلى أقصاها، والقراءة المكثفة ليس فقط في الشعر، بل في كافة صنوف المعرفة.