الاقتصادية

ماذا تعني "الهيمنة في مجال الطاقة" بالنسبة لأمريكا؟

 
واشنطن, 'د. ب.أ': تمثل الهيمنة في مجال الطاقة توجها استراتيجيا للولايات المتحدة يهدف إلى تعزيز إنتاجها المحلي من مصادر الطاقة التقليدية، وتوسيع نفوذها العالمي من خلال تصدير الطاقة واستخدامها كأداة للسياسة والاقتصاد. وتقول الدكتورة آنا بروجيل، خبيرة سياسات الطاقة المستدامة والأستاذة بجامعة جونز هوبكنز، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية إنه بينما يحمل نداء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للهيمنة في مجال الطاقة سوابق تاريخية، فإن ما تعنيه هذه الهيمنة بالنسبة لأمريكا لا يزال غير محدد بدقة.

وتضيف أنه في اليوم الأول من رئاسته، أعلن ترامب حالة طوارئ وطنية في قطاع الطاقة، متعهدا بدفع قوي نحو الهيمنة في هذا المجال. وتستند خطوته إلى هدف تحقيق الاستقلالية في الطاقة، وهو هدف برز منذ أزمة النفط في السبعينيات، إلا أن الطموح اليوم يتجاوز مجرد تحرير الولايات المتحدة من الاعتماد على النفط الأجنبي، ليتمثل في استخدام وفرة الطاقة الأمريكية كأصل استراتيجي.

ومع كل هذا الخطاب، لا يزال المفهوم غير محدد بوضوح. فبدلا من الاكتفاء الذاتي فحسب، تسعى الإدارة إلى جعل الطاقة موثوقة، وميسورة التكلفة، ووافرة ومن مصادر محلية قدر الإمكان. ومن هنا تبرز ركائز وفرة الطاقة التالية: ترسيخ القيادة الأمريكية في إنتاج وتصدير الوقود الأحفوري وإنعاش صناعات الفحم والطاقة النووية في الولايات المتحدة والدفع نحو إزالة القيود التنظيمية وتأمين سلاسل الإمداد والتخلي عن السعي الفيدرالي نحو إزالة الكربون.

وتهدف هذه الأولويات إلى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على الواردات الأجنبية وتحفيز النمو الاقتصادي ومعالجة تصاعد الدين الوطني والاختلالات في الموازنة.

وبحسب بروجيل، تركز رؤية ترامب للهيمنة في مجال الطاقة على نقاط القوة الأمريكية: النفط والغاز والفحم والطاقة النووية. وعلى النقيض تماما من السبعينيات، أصبحت الولايات المتحدة اليوم لاعبا مؤثرا في الأسواق الدولية للطاقة، حيث تعد مصدرا صافيا للغاز الطبيعي المسال، ومن أبرز منتجي السوائل مثل النفط الخام والمكثفات وسوائل الغاز الطبيعي . ووفقا لجمعية النفط والغاز في تكساس، فقد أنتجت الولايات المتحدة في عام 2024 كمية من النفط الخام وسوائل الغاز الطبيعي توازي ما تستهلكه من حيث الحجم.

وفي هذا المجال، تكون الولايات المتحدة قد حققت أهدافها المتعلقة بالاستقلال في الطاقة؛ إذ يعمل المنتجون الأمريكيون في بيئة اقتصادية قوية، حيث تظل العديد من حقول النفط الصخري مربحة حتى عند أسعار تقارب 70 دولارا للبرميل، مما يمنحهم مرونة وقدرة تنافسية عبر دورات الإنتاج. وعلى الصعيد الجيوسياسي، ساهمت صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية في تقليص إيرادات الطاقة الروسية، كما عززت علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية والصين وتركيا، وهي من كبار مستوردي الغاز الأمريكي.

ويعد إلغاء القيود التنظيمية ركيزة أخرى من ركائز الهيمنة في مجال الطاقة. فبإزالة العقبات المتعلقة بتصاريح المشاريع والتراجع عن بعض القوانين البيئية، تهدف الإدارة إلى وقف الإغلاق المبكر لمحطات الفحم وتسريع بناء خطوط الأنابيب ومشاريع الغاز الطبيعي المسال ومصافي التكرير. ويشمل ذلك عمليا إعادة النظر في بعض جوانب قوانين الهواء النظيف والمياه النظيفة وتخفيف متطلبات احتجاز الكربون، الأمر الذي يتوقع أن تستفيد منه صناعة الفحم بشكل خاص.

كما تشمل الهيمنة في مجال الطاقة تعزيز سلاسل التوريد، لا سيما للمعادن الحيوية مثل الليثيوم والجرافيت والمعادن الأرضية النادرة. ومع هيمنة الصين حاليا على إنتاج ومعالجة هذه المواد، بدأت الولايات المتحدة باتباع سياسة 'الصداقة في التوطين' ، والتي تقوم على نقل عمليات المعالجة إلى دول حليفة أو إلى الداخل الأمريكي، بهدف السيطرة على سلسلة التوريد بأكملها، من الاستخراج إلى التصنيع.

وتركز الإدارة الأمريكية على مصادر الطاقة القادرة على توفير كهرباء يمكن الاعتماد عليها باستمرار، أي ما يعرف بالطاقة 'الجاهزة دائما'. وإلى جانب الوقود الأحفوري، تعد الطاقة النووية التقليدية والمفاعلات النووية الصغيرة المعيارية حلولا قابلة للتوسع لتوفير الحمل الأساسي للطاقة. وإذا نجحت الولايات المتحدة في تصدير تصاميمها النووية المحلية، فإنها ستؤسس لتحالفات طويلة الأمد مع الدول التي تحصل على هذه التقنيات، وقد تمتد هذه العلاقات لقرن من الزمان، نظرا لعمر محطات الطاقة النووية الطويل.

وتلقى الطاقة النووية دعما إضافيا بسبب الطلب المتزايد على الكهرباء من قبل مراكز البيانات. فالهيمنة في مجال الطاقة من شأنها أن تساعد الولايات المتحدة في الحفاظ على موقعها الريادي الحالي في سباق الذكاء الاصطناعي، وهو موقع تتحدى الصين الاحتفاظ به باستمرار. ومع ذلك، فإن طاقتي الرياح والشمس تم تهميشهما بشكل ملحوظ في سردية الهيمنة في مجال الطاقة، إذ لم تتطرق أولى الأوامر الوزارية التي أصدرها وزير الطاقة الأمريكي، كريس رايت، إلى هذه التقنيات على الإطلاق. ورغم ما تتمتع به الولايات المتحدة من موارد ممتازة في مجال طاقتي الرياح والشمس، لم يكن هناك تحرك اتحادي كبير لمنافسة الصين في مجال صناعة معدات الطاقة المتجددة أو سلاسل توريد بطاريات السيارات الكهربائية. ويبدو أن الولايات المتحدة راضية عن ترك زمام التحول نحو الطاقة النظيفة بيد الصين.

وتقول بروجيل إن الرئيس ترامب لا يخفي أن سياساته في مجال الطاقة لا تخضع لقيود انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن قطاع الطاقة. وهو بذلك ينحرف بشكل واضح عن أهداف جو بايدن الطموحة في مجالي الطاقة الشمسية والرياح، فعلى سبيل المثال، فإن هدف الإدارة السابقة بتركيب 30 جيجاوات من طاقة الرياح البحرية بحلول عام 2030 أصبح الآن غير قابل للتحقيق بشكل واضح.

وتضيف بروجيل أن الهيمنة في مجال الطاقة ليست مجرد شعار، بل هي استراتيجية مدروسة ومتعددة الأوجه تشبه إلى حد كبير سياسة صناعية تركز على توسيع الحصة السوقية الأمريكية والسيطرة على سلاسل التوريد. فالأمر لا يقتصر على اعتبار الطاقة سلعة فقط، بل أداة من أدوات القوة الاقتصادية والدبلوماسية.

ولتحقيق الهيمنة الحقيقية، لا بد من استثمارات طويلة الأجل، وشراكات دولية مستدامة، وبيئة أعمال مستقرة توفر قدرا كبيرا من اليقين في السياسات الحكومية، إلى جانب استمرار التفوق التكنولوجي، واعتماد سياسة تجارية غير تصادمية تبنى على أساس التحالفات. وقد تحقق الولايات المتحدة نفوذا خارجيا ووقودا أرخص في الداخل، إلا أن النهج الحالي يرفع من احتمالات العزلة والصراعات التجارية.

علاوة على ذلك، قد لا تتماشى الهيمنة في مجال الطاقة بشكل جيد مع السياسات القائمة على فرض الرسوم الجمركية. فعلى سبيل المثال، ترتبط شبكات الكهرباء الأمريكية والكندية ببعضها، وقد تحدث الرسوم الجمركية مشاكل في نقل الطاقة عبر الحدود.

ومع ذلك، تبدو الولايات المتحدة في الوقت الحالي في موقف قوي، إذ تمتلك مصادر وفيرة ورخيصة من الوقود الأحفوري، كما أنها تضم أكبر أسطول من محطات الطاقة النووية في العالم. لكن الهيمنة في مجال الطاقة ليست غاية نهائية، بل هي إعلان عن أولويات سياسية يجب أن تظل قابلة للتكيف مع الأسواق المتغيرة والتحالفات الدولية المتبدلة. كما أن التفسير الحالي لمفهوم الهيمنة يستثني القيادة الأمريكية في مجال الطاقة النظيفة، وهو ما قد لا يكون النهج الأفضل على المدى البعيد.