زهران ممداني لم يُنصّب بعد!
الاثنين / 18 / محرم / 1447 هـ - 19:58 - الاثنين 14 يوليو 2025 19:58
أدى صعود المرشح الديمقراطي زهران ممداني في مدينة نيويورك إلى موجة من القراءات حوله؛ إذ كان من المفاجئ أن يصعد شاب في الثلاثين من عمره دون قاعدة سياسية أو اقتصادية عالية جاء من الهامش تقريبا إلى الترشح على منصب عمدة نيويورك. كانت هذه الأصداء مختلفة في قراءتها بين مفعمة الأمل، ومنتقدة لهذا الصعود، لكن هنا يضع سؤال هام ظلاله على هذه الحالة السياسية في أمريكا وخارجها وهو: هل قراءة زهران ممداني وجيهة، أم تحمل الطوابع النظرية فقط؟
إن خطابات ممداني المناهضة للإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، وللخطاب الصهيوني المعتاد، إضافة لخطاباته في برنامجه الانتخابي التي تحمل سياسات اشتراكية تسهّل المعيشة على سكّان نيويورك هي السبب الرئيس في هذه القراءات حوله، ولكن هناك بعد آخر في قراءته، وهو ما يتعلق بإرث والده الأكاديمي والمفكر العالمي محمود ممداني، وأمه السينمائية ميرا ناير. والاثنان قد اهتما بقضايا الهامش والمستعمَرين؛ فوالده صاحب كتاب «المسلم الجيد والمسلم السيئ»، و«لا مستوطن ولا مواطن»، وأمه صاحبة فيلم «سلام بومباي» و«فانيتي فير» وغيرها. هذه القراءة حمّلت زهران بُعدًا أكبر من برنامجه السياسي، بل إرثًا فلسفيا وسينمائيًا حمله من والديه.
وهذه القراءة مجحفة بحقه؛ إذ لا يمكن تحميل السياسي أيا كان إرثا من هذا النوع؛ لأنه يتحرك حسب الإطارات السياسية والدستورية والبراغماتية، أما الفيلسوف والسينمائي فحرّان لا يتقيّدان بالواقع ضرورة. ولذلك فإن العلاقة بين النظرية السياسية والواقع السياسي علاقة جدلية ومتضاربة يسعى بعض الساسة لتطبيق النظرية السياسية؛ من أجل الوصول للحالة الأكثر مثالية أو الحالة التي تناسب نظرتهم للواقع، لكنهم لا يطبقونها ضرورة بحرفيتها أو بتفاصيلها الكاملة، فأن تكون من أصول هامشية عرقية أو دينية لا يعني بالضرورة أن تحمل أولويات الهامش على عاتقك، وتحاول أن تضعها في إطاراتك السياسية.
لكن هذه نقطة يجب مناقشتها؛ فصعود الهامش في أمريكا ليس شيئًا اعتياديًّا في الأغلب، بل ربما يشكل طفرة في البنية الانتخابية الأمريكية. وعند قراءة الأصول العرقية والدينية التي ينطلق منها زهران يمكن وضعه في خانة الهامش هذا؛ لأنه جاء من أصول هندية-أوغندية مسلمة، ولا يمتلك ثروة مالية طائلة، وهو كذلك لا يمتلك تاريخًا سياسيًّا قديمًا، بل إنه قال في إحدى المقابلات أن تعريفه لذاته بأنه ديمقراطي اشتراكي لم يأتِ إلا في 2016 بعد استماعه لخطابات بيرني ساندرز واقتناعه بها.
هذه الرمزية التي تتمثل في صعود الهامش في أكثر المدن إمبريالية أو رأسمالية يُمكن النظر إليها في كتابات ممداني الأب، كما في كتابه «لا مستوطن ولا مواطن»، وهي تستحق القراءة في إطار كيف يُمكن أن يتغير السلوك الانتخابي للناخب الأمريكي من المرشح الأبيض المعتاد إلى المرشح الذي جاء من الهامش؟ وما يمثله هذا من تغيرات في الشارع الأمريكي بحد ذاته، لكن ذلك لا يعني تحميل هذا الإرث أو الفكر الفلسفي للمرشح السياسي، ورفع سقف الآمال إلى الحد الذي يعتقد بإمكانية التغيير الجذري؛ فإن قراءات مشابهة كانت قد قُدّمت عندما وصل باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة كذلك، لكن سياساته جاءت في النهاية على عكس التوقعات، وربما جعلتها في حالة صدمة، ليس لأنها خاطئة بالضرورة، لكنها تحمل الكثير من الرومانسية الحالمة في إمكانية التغيير الجذري الذي يُمكن أن يحدثه مرشح أو شخص واحد في المنظومة السياسية والمؤسسات ذات الإرث القديم في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
طبيعة البرامج الانتخابية تحمل وعودًا طوباوية بعضها يمكن تحقيقها ناقصًا والبعض الآخر يستحيل تحقيقه؛ فلنا في البرنامج الانتخابي لترامب مثال حديث وقريب؛ إذ وعد بعدم التدخل في حروب أو عمليات عسكرية، لكنه بعد ذلك ينفذ عملية جوية على إيران تكلفه إمكانية الرد الإيراني المتهور.
ولذلك فإن محاولات البناء المسبق على وعود التغيير غالبًا ما تكون مظنة الوقوع في الأخطاء التحليلية؛ لأنها تفترض إمكانية تنفيذ البرنامج بأكمله، أو أنها قادرة على أن تكون نقطة التغيير الجذري، وسياسات زهران ممداني لم تتبلور واقعيًّا بعد. لذلك فإن التحليل المبني على الآمال هو في الحقيقة تحليل عما يعتمل في النفس من رغبات أكثر منه تحليلا واقعيا؛ فهذه الخطابات قائمة على الشعارات الاشتراكية، ولم تصطدم بعد بالقيود الواقعية التي يفرضها أي نظام حكم في العالم، وبالتالي فإن أكثر النماذج التحليلية المشابهة -كما كان في حالة أوباما سابقة الذكر- كانت إما مخالفة للتوقعات وإما مخيبة للآمال في الأخير.
وهنا يجب تحليل سؤال مهم في البداية ومحاولة الإجابة عنه وهو: هل التغيير الجذري ممكن أساسا؟ وأفترض أن مثل هذا التغيير بحاجة لأكثر من شخص أو برنامج انتخابي لإحداثه، وبحاجة لأحداث سياسية متتالية. وأما والحال هذه فلن يكون زهران ممداني أو من هو أكثر قوة منه أن يحدث هذا التغيير؛ لذلك فإن الآمال المعقودة عليه، والتي تستحضر إرث والديه الفكري والسينمائي، هي آمال رغائبية أكثر منها واقعية، والأصل في الأمر أن يُنتظر حتى يتضح التطبيق الفعلي لسياساته، ثم التحليل بناء على ذلك لا قبله.
لا يهاجم هذا المقال زهران ممداني أو يدافع عنه، لكنه يدعو ليقظة نقدية تتحرك في المعقول السياسي والواقع البراغماتي، لا غرق في التفاؤل ولا تسرع في الإدانة، بل تبني خطابها على تحليل تطابق الوعود الانتخابية مع التطبيق الواقعي. وهذا لا يسقط على المرشحين الأمريكيين فحسب، بل ينطبق أيضا على حالتنا العربية التي كثيرًا ما تجد نفسها منجرّة خلف الخطابات الشعاراتية التي تسيطر على العواطف بالثغرات النفسية المتعلقة بالقومية أو الدينية أو السياسية أو غيرها، دون تمحيص للواقع السياسي وإمكانية تطبيقه وضروراته الأمنية والسياسية. في الحالة الديمقراطية، وفي أي انتخابات يجب أن تكون القراءة السياسية منطلقة من الواقع العملي وإمكانية تطابقه مع النظرية السياسية، أما الاكتفاء بالأخيرة وترك الأولى فهي حالة من العيش في الأوهام المثالية التي قضى كثيرٌ من الفلاسفة منذ أفلاطون حتى اليوم حياتهم من أجلها، وهم يعلمون عدم إمكانية تطبيقها؛ فلا الفلاسفة سيحكمون، ولا المدينة الفاضلة ستُخلق على الأرض، بل إن أحسن ما يمكن تأويل هذه النظريات به هو الحلم الرومانسي الجميل قُبيل النوم بدقائق!.
إن خطابات ممداني المناهضة للإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، وللخطاب الصهيوني المعتاد، إضافة لخطاباته في برنامجه الانتخابي التي تحمل سياسات اشتراكية تسهّل المعيشة على سكّان نيويورك هي السبب الرئيس في هذه القراءات حوله، ولكن هناك بعد آخر في قراءته، وهو ما يتعلق بإرث والده الأكاديمي والمفكر العالمي محمود ممداني، وأمه السينمائية ميرا ناير. والاثنان قد اهتما بقضايا الهامش والمستعمَرين؛ فوالده صاحب كتاب «المسلم الجيد والمسلم السيئ»، و«لا مستوطن ولا مواطن»، وأمه صاحبة فيلم «سلام بومباي» و«فانيتي فير» وغيرها. هذه القراءة حمّلت زهران بُعدًا أكبر من برنامجه السياسي، بل إرثًا فلسفيا وسينمائيًا حمله من والديه.
وهذه القراءة مجحفة بحقه؛ إذ لا يمكن تحميل السياسي أيا كان إرثا من هذا النوع؛ لأنه يتحرك حسب الإطارات السياسية والدستورية والبراغماتية، أما الفيلسوف والسينمائي فحرّان لا يتقيّدان بالواقع ضرورة. ولذلك فإن العلاقة بين النظرية السياسية والواقع السياسي علاقة جدلية ومتضاربة يسعى بعض الساسة لتطبيق النظرية السياسية؛ من أجل الوصول للحالة الأكثر مثالية أو الحالة التي تناسب نظرتهم للواقع، لكنهم لا يطبقونها ضرورة بحرفيتها أو بتفاصيلها الكاملة، فأن تكون من أصول هامشية عرقية أو دينية لا يعني بالضرورة أن تحمل أولويات الهامش على عاتقك، وتحاول أن تضعها في إطاراتك السياسية.
لكن هذه نقطة يجب مناقشتها؛ فصعود الهامش في أمريكا ليس شيئًا اعتياديًّا في الأغلب، بل ربما يشكل طفرة في البنية الانتخابية الأمريكية. وعند قراءة الأصول العرقية والدينية التي ينطلق منها زهران يمكن وضعه في خانة الهامش هذا؛ لأنه جاء من أصول هندية-أوغندية مسلمة، ولا يمتلك ثروة مالية طائلة، وهو كذلك لا يمتلك تاريخًا سياسيًّا قديمًا، بل إنه قال في إحدى المقابلات أن تعريفه لذاته بأنه ديمقراطي اشتراكي لم يأتِ إلا في 2016 بعد استماعه لخطابات بيرني ساندرز واقتناعه بها.
هذه الرمزية التي تتمثل في صعود الهامش في أكثر المدن إمبريالية أو رأسمالية يُمكن النظر إليها في كتابات ممداني الأب، كما في كتابه «لا مستوطن ولا مواطن»، وهي تستحق القراءة في إطار كيف يُمكن أن يتغير السلوك الانتخابي للناخب الأمريكي من المرشح الأبيض المعتاد إلى المرشح الذي جاء من الهامش؟ وما يمثله هذا من تغيرات في الشارع الأمريكي بحد ذاته، لكن ذلك لا يعني تحميل هذا الإرث أو الفكر الفلسفي للمرشح السياسي، ورفع سقف الآمال إلى الحد الذي يعتقد بإمكانية التغيير الجذري؛ فإن قراءات مشابهة كانت قد قُدّمت عندما وصل باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة كذلك، لكن سياساته جاءت في النهاية على عكس التوقعات، وربما جعلتها في حالة صدمة، ليس لأنها خاطئة بالضرورة، لكنها تحمل الكثير من الرومانسية الحالمة في إمكانية التغيير الجذري الذي يُمكن أن يحدثه مرشح أو شخص واحد في المنظومة السياسية والمؤسسات ذات الإرث القديم في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
طبيعة البرامج الانتخابية تحمل وعودًا طوباوية بعضها يمكن تحقيقها ناقصًا والبعض الآخر يستحيل تحقيقه؛ فلنا في البرنامج الانتخابي لترامب مثال حديث وقريب؛ إذ وعد بعدم التدخل في حروب أو عمليات عسكرية، لكنه بعد ذلك ينفذ عملية جوية على إيران تكلفه إمكانية الرد الإيراني المتهور.
ولذلك فإن محاولات البناء المسبق على وعود التغيير غالبًا ما تكون مظنة الوقوع في الأخطاء التحليلية؛ لأنها تفترض إمكانية تنفيذ البرنامج بأكمله، أو أنها قادرة على أن تكون نقطة التغيير الجذري، وسياسات زهران ممداني لم تتبلور واقعيًّا بعد. لذلك فإن التحليل المبني على الآمال هو في الحقيقة تحليل عما يعتمل في النفس من رغبات أكثر منه تحليلا واقعيا؛ فهذه الخطابات قائمة على الشعارات الاشتراكية، ولم تصطدم بعد بالقيود الواقعية التي يفرضها أي نظام حكم في العالم، وبالتالي فإن أكثر النماذج التحليلية المشابهة -كما كان في حالة أوباما سابقة الذكر- كانت إما مخالفة للتوقعات وإما مخيبة للآمال في الأخير.
وهنا يجب تحليل سؤال مهم في البداية ومحاولة الإجابة عنه وهو: هل التغيير الجذري ممكن أساسا؟ وأفترض أن مثل هذا التغيير بحاجة لأكثر من شخص أو برنامج انتخابي لإحداثه، وبحاجة لأحداث سياسية متتالية. وأما والحال هذه فلن يكون زهران ممداني أو من هو أكثر قوة منه أن يحدث هذا التغيير؛ لذلك فإن الآمال المعقودة عليه، والتي تستحضر إرث والديه الفكري والسينمائي، هي آمال رغائبية أكثر منها واقعية، والأصل في الأمر أن يُنتظر حتى يتضح التطبيق الفعلي لسياساته، ثم التحليل بناء على ذلك لا قبله.
لا يهاجم هذا المقال زهران ممداني أو يدافع عنه، لكنه يدعو ليقظة نقدية تتحرك في المعقول السياسي والواقع البراغماتي، لا غرق في التفاؤل ولا تسرع في الإدانة، بل تبني خطابها على تحليل تطابق الوعود الانتخابية مع التطبيق الواقعي. وهذا لا يسقط على المرشحين الأمريكيين فحسب، بل ينطبق أيضا على حالتنا العربية التي كثيرًا ما تجد نفسها منجرّة خلف الخطابات الشعاراتية التي تسيطر على العواطف بالثغرات النفسية المتعلقة بالقومية أو الدينية أو السياسية أو غيرها، دون تمحيص للواقع السياسي وإمكانية تطبيقه وضروراته الأمنية والسياسية. في الحالة الديمقراطية، وفي أي انتخابات يجب أن تكون القراءة السياسية منطلقة من الواقع العملي وإمكانية تطابقه مع النظرية السياسية، أما الاكتفاء بالأخيرة وترك الأولى فهي حالة من العيش في الأوهام المثالية التي قضى كثيرٌ من الفلاسفة منذ أفلاطون حتى اليوم حياتهم من أجلها، وهم يعلمون عدم إمكانية تطبيقها؛ فلا الفلاسفة سيحكمون، ولا المدينة الفاضلة ستُخلق على الأرض، بل إن أحسن ما يمكن تأويل هذه النظريات به هو الحلم الرومانسي الجميل قُبيل النوم بدقائق!.