عُمان الاقتصادي

الاقتصاد البحري ماضٍ في الازدهار.. لكن إلى متى؟

 


خلال العقود الثلاثة الماضية، شَهِدَ الاقتصاد البحري -أو ما يُسمَّى بـ«الاقتصاد الأزرق»- نموًّا لافِتًا كشف عن قوة اقتصادية واعدة على المستوى العالمي؛ حيث استفاد الاقتصاد البحري بتنامي التجارة العالمية والتطورات التكنولوجية والابتكارية في تحقيق معدلات نمو فاقت كبرى الأنشطة الاقتصادية على مستوى العالم. يرتكز الاقتصاد البحري على الموارد البحرية من أسماك وطاقة متجددة وسِلَعٍ بحرية، كما يشتمل على العديد من الصناعات الابتكارية في مختلف القطاعات. وبحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، فإذا نُظِرَ إلى البحار باعتبارها دولةً ذات موارد وإمكانات اقتصادية، لكانت قد احتلَّت المرتبة الثالثة أو الرابعة بين أكبر اقتصادات العالم، بإجمالي فائض اقتصادي قُدِّر بنحو 2.6 تريليون دولار في عام 2020.

أما اللافت للنظر فليس تنامي هذا الاقتصاد فحسب، بل ديناميكية هذا النمو الاقتصادي، فقد تضاعف هذا الاقتصاد مرَّتين ونصف خلال الثلاثين عاما الماضية، أي منذ عام 1995، بمعدل زيادة سنوية تُقدَّر بـ 2.8% في المتوسط، بالمقارنة بـ 1.9% هي معدل زيادة الناتج العالمي. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نغفل مناقشة هذه القوة الاقتصادية بالدرجة نفسها التي نهتم بها بالزراعة والصناعة والتكنولوجيا، مع أن البحار تنطوي على المزيد من فرص تحقيق النمو الاقتصادي بما تشتمل عليه من صناعات متنوعة مثل: السياحة، الشحن، الصيد، الأحياء البحرية الدقيقة، وأيضا الفرص الواعدة في مجالَي طاقة الرياح البحرية والبلاستيك الحيوي.

ومع ذلك، فلا بد من الإشارة إلى التحديات المتزايدة التي تواجه الاقتصاد الأزرق، والمتمثلة في تغيُّر المناخ، والتلوُّث الناتج عن البلاستيك، والصيد غير المرشَّد، وضعف الحَوْكَمَة، وقِلَّة التمويل. ومثل هذه المخاطر والتحديات لا تهدِّد البحر فحسب، بل ينال تهديدها حياةَ أكثر من 600 مليون شخص في أنحاء العالم يعتمدون على البحر، خاصةً في الدول النامية والجزرية.

حجم النمو بالأرقام

بدايةً من عام 1995، نما الاقتصاد البحري بمقدار 2.5×، متجاوزا معدل النمو العالمي لمؤشر الاقتصاد. وفي عام 2023، سجَّل الاقتصاد البحري رقما قياسيّا في التجارة العالمية وهو 899 مليار دولار لتجارة السلع، و1.3 تريليون دولار لأنشطة الخدمات، معتمدا في الأساس على الأنشطة التجارية والاقتصادية للدول الساحلية والجزرية حول العالم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قطاعا واحدا مثل قطاع الصيد يكفل تأمينَ سبل العيش لحوالي 600 مليون شخص تنتمي أغلبيتهم إلى الدول النامية.

وقد شَهِدَت صادرات الأسماك غير المعالَجة ارتفاعا نسبيّا بمقدار 43% وصل بها إلى إجمالي 19 مليار دولار بين عامَي 2021 و2023، في حين ارتفعت صادرات الأسماك المعالَجة بنسبة 89% وصلت بإجماليها إلى 23 مليار دولار، ما يعكس النمو الهائل في التجارة العالمية بين الدول النامية في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.

وفي ذات الإطار، تجدر الإشارة إلى أن المحيط لا يزال مجهولا إلى اليوم، بما أن ثُلثَي الكائنات البحرية غير مكتشَفة بعد بدرجة كبيرة، ما يُشير إلى الإمكانيات الهائلة التي يَعِدُ بها الاقتصاد البحري. ومن المتوقع أن تتنامى السوق البحرية الحيوية (البايو-تكنولوجي البحري) من 4.2 مليار دولار سجَّلتها عام 2023، إلى 6.4 مليار دولار بنهاية عام 2025، اعتمادا على النمو المتسارع الذي تشهده صناعات الطعام منخفض الانبعاثات، والمضادات الحيوية وغيرها من المواد الحيوية التي تُستخرج من الكائنات البحرية.

لكن يبقى ثمة ما يُهدد مستقبل هذا القطاع ويحُدُّ من إمكانياته، وهي التغيُّرات المناخية، والتلوث البيئي، والصيد الجائر، وضعف الاستثمار، والحاجة لسَنِّ المزيد من القوانين المنظِّمة.

المناخ وتحديات الشحن

سُجِّلَ عام 2024 كأعلى الأعوام حرارة منذ العصر الصناعي، بفارق 1.55°C فوق المستويات المسجلة قبل العصر الصناعي (بالمقارنة بالحد الأقصى الذي سُجِّلَ من قبل وهو 1.5°C)، والمياه الأكثر دِفئا تؤثر بالسلب على النظام البحري وتضر بالكائنات البحرية، كما تساهم في تقليص الثروة السمكية وتهدد الأمن الغذائي خاصة بالنسبة للمجتمعات الساحلي.

ويمتد التهديد إلى التجارة البحرية، حيث إن ارتفاع مستوى المياه -مثلها مثل الجفاف- تمثل تهديدا لأنشطة الموانئ ومسارات الشحن البحري، كما أن التقلبات المناخية الحادة تؤخر وصول البضائع وتؤدي إلى التضخم في تكاليف التأمين.

كما أن قطاع الشحن البحري، وهو المسؤول عن 2.9% من الانبعاثات الضارة حول العالم، يتكبَّد تكلفة تتراوح بين 8 و28 مليار دولار سنويّا من أجل إزالة الانبعاثات الكربونية، بالإضافة إلى نحو 90 مليار دولار لتحديث البِنَى التحتية. وبينما تضع المنظمة البحرية الدولية ضمن استراتيجيتها لعام 2023 أهدافا طموحة بشأن الانبعاثات الغازية والاحتباس الحراري، فإن التقدُّم الذي يُحرزه قطاع الشحن البحري يبدو بطيئا نوعا ما، فالوقود منخفض الكربون لا يزال مكلفا، والموانئ تفتقر إلى البِنَى التحتية اللازمة، والتنسيق بشأن أنواع الوقود البديلة ضعيف للغاية، والدول النامية لا تزال تكافح من أجل تمويل عملية التحوُّل التي تهدف إليها استراتيجية المنظمة البحرية الدولية. كما أن أغلب الخطط الوطنية المتعلقة بالمناخ تغفل الاقتصاد البحري. وبدون إجراءات عاجلة، ستُقوِّض التغيُّرات المناخية الاقتصاد الأزرق والتجارة الدولية على حد سواء.

نقص البيانات يعيق اتخاذ الإجراءات

يتسبب الاقتصاد البحري في نحو 11% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، مع ذلك فإنه لا توجد بيانات شاملة ترصد الانبعاثات على مستوى القطاعات الرئيسية التي تُشكِّل الاقتصاد البحري.

وتُساهم السياحة البحرية والشاطئية وحدها بنسبة 4% من الانبعاثات على مستوى العالم، إلا أن البيانات الرسمية تبدو مُرقَّعة وغيرَ مكتملة. أما الانبعاثات الناتجة عن الشحن البحري ومصايد الأسماك والزيوت المسرَّبة بعيدا عن الشواطئ، فإنه يتم رصدها وتسجيلها على نحو أفضل، والعكس صحيح بالنسبة للموانئ وأحواض بناء السفن؛ حيث يتم استبعادها إلى حد كبير من تقييمات الانبعاثات الكربونية حول العالم. وعليه فإن التوسُّع في قواعد البيانات التابعة لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) والخاصة بتجارة المحيطات، وكذلك التي تُعدُّها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) حول الإحصائيات الخاصة بمصايد الأسماك، جميعها سيُساعد في سد هذه الفجوات المعلوماتية الحرِجة.

التجارة: إطلاق العنان للإمكانات

عن طريق إزالة الحواجز

إنَّ ارتفاع التعريفات الجمركية ووجود حواجز أخرى -غير جمركية- يَحُدُّ من حركة التجارة الدولية بين مصايد الأسماك في بلدان النصف الجنوبي من العالم. تُطبِّق الدول النامية تعريفات جمركية في حدود 14% على منتجات الأسماك فيما بينها، وهي نسبة أعلى بكثير من الـ3.2% المتعارف عليها في البلدان ذات الدخول المرتفعة.

يمكن للنظام العالمي للأفضليات التجارية (GSTP) -وهو سوق بقيمة 16 تريليون دولار أمريكي يضم الولايات المتحدة مع 42 دولة نامية- أن يُسهم في تنمية التجارة العالمية عن طريق خَفْضِ التعريفات الجمركية وتعزيز التعاون.

في الوقت ذاته، بلغ إجمالي صادرات البدائل البحرية غير البلاستيكية (مثل الأعشاب البحرية والسيليكات) 10.8 مليار دولار في عام 2022 -أي ما يُعادل 1% فقط من صادرات البلاستيك على مستوى العالم. فالنمو تُعيقه التعريفات الجمركية المرتفعة والقوانين البالية والحواجز التجارية. ويُمكن لاتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالتلوث الناتج عن البلاستيك، والتي هي قيد التفاوض في الوقت الحالي، أن تُسهم في فتح مغاليق هذه السوق عن طريق تيسير التجارة ودعم الابتكار.

اقتصاد بحري يفتقر إلى التمويل

على الرغم من اتساع نطاقه ومجالاته، فإن الاقتصاد البحري لا يزال يُعاني من نقص حاد في التمويل. في عام 2022، بلغ إجمالي التمويل في قطاعات الاقتصاد البحري ما يقل عن ٣ مليارات دولار أمريكي، أي جزء ضئيل من التمويل المطلوب. وفيما يتطلب تحقيق الهدف الرابع عشر (SDG 14) من أهداف التنمية المستدامة -وهو الهدف المَعْنِيُّ بالحياة تحت الماء- ضخَّ ١٧٥ مليار دولار أمريكي سنويّا، فإن البيانات تُشير إلى صرف ما لا يتجاوز ٣٠ مليار دولار أمريكي منذ عام 2010، ما يجعله الهدف الأقل تمويلا بين جميع أهداف التنمية المستدامة الأخرى.

في الوقت نفسه، تتلقى صناعة صيد الأسماك على مستوى العالم ما يُقدَّر بنحو 22 مليار دولار أمريكي في صورة دعمٍ لأنشطة اقتصادية قد تضُرُّ بالبيئة البحرية وتُفاقِمُ الصيد الجائر. لذا فإن إعادة توجيه هذه الأموال والتوسُّع في آليات التمويل المتنوع قد يُسهم في سد هذه الفجوة.

ما الذي يلزَم تغييره؟

يقف الاقتصاد البحري عند مُفترَق طُرُق، ولأجل ضمان نمُوِّه الشامل والمستدام، فثمة حاجة ماسة لخمسة إجراءات عاجلة، وهي:

أولا: دمج القطاعات الاقتصادية القائمة على البحار في الخطط الوطنية الخاصة بالمناخ والتنوع البيولوجي، بهدف الوصول سريعا لمرحلة التكيُّف والمرونة.

ثانيا: إتمام الاتفاقية القانونية الملزِمَة الخاصة بالتلوث الناتج عن البلاستيك، وذلك للحَدِّ من النفايات وفَكِّ مغاليق الموارد البحرية.

ثالثا: تقليص الحواجز التجارية بهدف تعزيز تجارة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية بين بلدان النصف الجنوبي من العالم.

رابعا: التوسُّع في جمع البيانات المتعلِّقة بالاقتصاد البحري، بما في ذلك الانبعاثات الضارة والتجارة والاستثمار.

خامسا: التوقف عن دعم الأنشطة الاقتصادية التي قد تضُرُّ بالبيئة البحرية، وفي المقابل تعظيم التمويل العام والخاص في قطاعات الاقتصاد البحري.

وأخيرا، فإنه يتعيَّن على صناع السياسات الدولية التحرُّك على وجه السرعة، خاصة مع انعقاد منتدى الأمم المتحدة الخامس للمحيطات، ومؤتمر الموارد المائية خلال عام 2025، فمستقبل الاقتصاد البحري يعتمد على مثل هذا التحرُّك السريع.

أحمد القرملاوي كاتب وباحث في شؤون الاقتصاد