المال والعقول المهاجرة .. «فرصة أم أزمة؟»
الأربعاء / 20 / محرم / 1447 هـ - 10:05 - الأربعاء 16 يوليو 2025 10:05
ما بين مطارات تغصّ بالكفاءات، وتحويلات نقدية تعبر القارات في ثوانٍ، تُعاد كتابة فصول جديدة من الاقتصاد العالمي، حيث لم تعد حركة البشر والأموال مجرد ظواهر اجتماعية أو مؤشرات مالية، بل تحوّلت إلى قنوات غير تقليدية لإعادة توزيع الفرص والثروات.
وبين دول تستنزف طاقاتها البشرية وأخرى تستثمر فيها، يظهر مشهد اقتصادي جديد قائم على الربط بين الحركة السكانية والتخطيط المالي الذكي، في هذا المشهد، تتجاوز العلاقات الاقتصادية الحدود الجغرافية، ويصبح العامل المهاجر شريكًا في بناء اقتصادات لا يعيش فيها، وتتحول الأموال المحوّلة من الخارج إلى دعامة مركزية لخطط التنمية، وركيزة من ركائز الأمن المالي والاجتماعي في دول الاستقبال والمرسل معًا.
وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن التحويلات المالية إلى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط بلغت خلال عام 2023 نحو 669 مليار دولار، في رقمٍ يعكس بوضوح التحول التدريجي لهذه التدفقات إلى ركيزة تمويلية أكثر استقرارًا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بل وتفوقت عليها في عدة سياقات. ويُعزى هذا الاستقرار اللافت إلى الطبيعة العاطفية والاجتماعية التي تحكم سلوك المهاجرين في دعم أسرهم، حيث تبقى التحويلات مرتبطة بروابط عائلية وثقافية، مما يجعلها أقل حساسية للتقلبات الجيوسياسية أو الاضطرابات الاقتصادية العالمية.
هذا الطابع شبه الثابت للتحويلات يمنح البلدان المستقبلة هامشًا أوسع للتخطيط المالي متوسط وطويل الأمد، ويفتح المجال أمام توجيه الموارد نحو مشاريع تنموية ذات أثر مباشر ومستدام، لا سيما في قطاعات التعليم، والرعاية الصحية، والإسكان. وتدعم هذه الرؤية تحليلات صادرة عن صندوق النقد الدولي، تشير إلى وجود علاقة طردية بين ارتفاع التحويلات وتحسن المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في عدد من الدول النامية، مما يجعل هذه التدفقات موردًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن الموارد التقليدية، بل يفوقها في المرونة والارتباط بالواقع المجتمعي.
وفي مشهد موازٍ لتحويلات المهاجرين المالية، برزت دول الاستقبال التي تبنّت سياسات هجرة مرنة ومدروسة كأمثلة ناجحة على توظيف الهجرة لتعزيز استقرارها الاقتصادي الداخلي. فقد تمكنت هذه الدول من تحويل تدفقات الهجرة إلى محركٍ فعّال للنمو، سواء من خلال تحفيز الاستهلاك، أو عبر سد الفجوات في أسواق العمل، لا سيما في القطاعات التي تعاني نقصًا هيكليًا في الكوادر.
وتُعد تجربة ألمانيا مثالًا بارزًا في هذا السياق، إذ نجحت عبر ما يُعرف بـ«نموذج الاندماج الاقتصادي» في إدماج المهاجرين ضمن نسيجها الإنتاجي، حيث تحوّل كثيرٌ منهم خلال أقل من عقد إلى دافعي ضرائب ومشاركين نشطين في سوق العمل، ما أسهم في دعم المالية العامة وتعزيز الإنتاجية. ويُعزى هذا النجاح إلى بنية مؤسسية مرنة اعترفت بالكفاءات الوافدة، ووفّرت بيئة حاضنة تسهّل الاندماج، وتُعلي من قيمة العمل والمهارة.
أما كندا، فقد عكست نتائج دراسة حكومية حديثة حجم التأثير الإيجابي للهجرة على أحد أكثر القطاعات حيوية؛ إذ ساهم المهاجرون الجدد في سد ما نسبته 22% من فجوات سوق العمل في قطاع الرعاية الصحية خلال السنوات الأخيرة، ما يعكس البعد الاجتماعي والاقتصادي المتداخل للهجرة، إذا ما جرى استثمارها ضمن إطار وطني واضح الأهداف.
وفي سياق مغاير لكن مترابط، بدأت بعض الدول ذات الكثافة السكانية العالية مثل الهند ونيجيريا في التحول إلى مراكز جذب استثماري عالمي، بفضل ثرواتها البشرية الشابة. وتشير تقارير حديثة صادرة عن وكالة «بلومبيرج» إلى أن الهند تتجه لتجاوز الصين كأكبر سوق استهلاكي في العالم بحلول عام 2030، ليس فقط بسبب حجم السكان، بل لأن أكثر من 60% منهم دون سن الثلاثين. هذه القاعدة الديموغرافية النشطة تمنح الاقتصاد الهندي ميزة تنافسية في الطلب المحلي، وتفتح آفاقًا واعدة في قطاعات التكنولوجيا المالية، والتعليم الرقمي، وريادة الأعمال.
وتسير نيجيريا على خطى مشابهة، حيث تُعد من أسرع الدول نموًا سكانيًا في إفريقيا، وتُظهر بيانات صندوق النقد الدولي أن القارة الإفريقية -وعلى رأسها نيجيريا- قد تشهد ما يُعرف بـ«التحول السكاني الإيجابي» بحلول منتصف هذا القرن، إذا ما أُحسن استثمار مواردها البشرية. هذا التحول لا ينحصر في بعده السكاني فقط، بل يمتد ليشكل قوة دافعة جديدة للاقتصاد العالمي، تعيد توزيع مراكز النمو وتعيد ترتيب أولويات الأسواق الدولية.
هجرة العقول
إلى جانب التحويلات المالية وتدفقات اليد العاملة، تُواجه العديد من الدول النامية تحديًا بالغ الأهمية يتمثل في «هجرة العقول»، حيث تخسر هذه الدول نسبة كبيرة من كفاءاتها المؤهلة في مجالات حيوية كالهندسة، والطب، والعلوم، ما يُضعف قدرتها على التنافس في اقتصاد المعرفة، ويعمّق الفجوة التقنية والبحثية مع الدول المتقدمة.
ويرتبط هذا النزيف المعرفي غالبًا ببيئات غير محفّزة، تفتقر إلى نظم ابتكار فعّالة، أو إلى مناخ بحثي يسمح للكفاءات بالتطور والمشاركة الفاعلة في صنع السياسات العلمية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن بعض الدول نجحت في تحويل هذا التحدي إلى فرصة استراتيجية، عبر تبني سياسات ذكية ومتوازنة تراعي أهمية العقول المهاجرة دون التفريط بها.
في سويسرا مثلًا، تتكامل العمالة المهاجرة مع الصناعات الوطنية المتقدمة، وتسهم في دعم تنافسية الاقتصاد دون الإخلال باستقراره الاجتماعي. أما بعض دول مجلس التعاون الخليجي، فقد اختارت مسارًا مختلفًا قائمًا على التنويع الاقتصادي والتوازن السكاني، حيث تُستثمر الهجرة ضمن إطار تنموي شامل يهدف إلى تحفيز قطاعات غير نفطية كالتقنية، والخدمات، والتعليم.
وفي كلتا الحالتين، يتجلى الفرق في وضوح الرؤية، ودقة التخطيط، وفعالية الإدارة للتنوع الديموغرافي، بوصفه أداة استراتيجية تستجيب لمتطلبات السوق المحلي، وتعزّز قدرة الدولة على الاستفادة من التحولات السكانية بدلًا من مقاومتها.
استغلال التحولات العالمية محليًا
في سياق هذه التحولات العالمية المتسارعة، تبرز سلطنة عُمان أمام فرصة تاريخية لإعادة توجيه مسارات الهجرة والتحويلات والعقول المهاجرة بما يخدم أهداف «رؤية عُمان 2040»، التي ترتكز على بناء اقتصاد متنوع ومستدام قائم على رأس المال البشري والابتكار.
ففي ظل البنية الديموغرافية الشابة لسلطنة عُمان، حيث تمثل فئة الشباب نسبة كبيرة من إجمالي السكان، يبرز هذا المعطى كقوة شرائية واعدة قادرة على تحريك السوق الداخلي، وتعزيز جاذبية الاستثمار في قطاعات حيوية مثل التعليم، والسياحة، والخدمات اللوجستية. ومع تطوير سياسات داعمة للابتكار وريادة الأعمال، يمكن لهذا الزخم الشبابي أن يتحول إلى أداة نمو طويلة الأمد تدعم التحول من اقتصاد قائم على الموارد إلى اقتصاد قائم على المعرفة.
ومع إدراك أن حركة الأموال والأفكار والمهارات لم تعد مقتصرة على الحدود الوطنية، فإن تسخير هذه الديناميات العالمية عبر آليات محلية مرنة ومبنية على المعرفة، سيمنح الاقتصاد العُماني قدرة أعلى على التكيف، ويعزّز من موقعه الإقليمي كمركز اقتصادي متقدم ومتوازن.
يمكن لسلطنة عُمان أن تُفعّل الاستفادة من تحويلات مواطنيها في الخارج عبر إنشاء قنوات استثمارية آمنة وشفافة تعزز من ثقة الجاليات العُمانية، وتتيح لها الإسهام المباشر في مشاريع التنمية الوطنية. وتشمل هذه القنوات المحتملة صناديق استثمارية مخصصة للمغتربين، أو برامج تمويلية مشتركة بين القطاعين العام والخاص، تُوجه نحو قطاعات استراتيجية كالتعليم، والرعاية الصحية، والطاقة المتجددة، والسياحة.
تأتي هذه المبادرات كخطوة نوعية نحو تعميق الشراكة الاقتصادية بين الدولة ومواطنيها في الخارج، وتحويل التحويلات المالية من مجرد مصدر دخل فردي إلى رافعة استثمارية طويلة الأجل تُسهم في تنويع مصادر الدخل الوطني، وخلق فرص عمل مستدامة، وتوطين رؤوس الأموال. كما أن توفير حوافز ضريبية، وتسهيلات قانونية واضحة، سيساهم في تعزيز بيئة الاستثمار وجذب أموال المغتربين نحو مشاريع تحقق أثرًا تنمويًا ملموسًا.
على الجانب الآخر، يُمثل الوافدون المقيمون في سلطنة عُمان شريحة استهلاكية فعّالة ذات قدرة شرائية مؤثرة، ما يفتح المجال أمام تطوير سياسات مدروسة تهدف إلى إعادة تدوير أموالهم داخل السوق المحلي. ويُمكن تحقيق ذلك من خلال توفير منتجات وخدمات مخصصة تلبي احتياجاتهم، وتحفّزهم على الإنفاق المحلي، بدلًا من تسرب أموالهم إلى الخارج في شكل تحويلات دورية. وتشير إحصائية صادرة عن البنك المركزي العُماني إلى أن حجم تحويلات الأيدي العاملة الوافدة خارج سلطنة عُمان بلغ في عام 2022 نحو 3.488 مليار ريال عُماني، بزيادة قدرها 367 مليون ريال عُماني عن عام 2021، ما يعكس الحاجة الملحّة إلى آليات اقتصادية تُبقي جزءًا أكبر من هذه الأموال ضمن الدورة الاقتصادية الوطنية.
وللحد من تسرب هذه الموارد، يمكن لسلطنة عُمان أن تستلهم نماذج الدمج الاقتصادي الذكي المعمول بها في عدد من الدول الأوروبية، من خلال تسهيل بيئة ريادة الأعمال للمقيمين، لا سيما في القطاعات منخفضة المخاطر مثل التجارة والخدمات الرقمية. كما يُمكن ربط هؤلاء المستثمرين بنظام ضريبي عادل ومنظّم، يضمن استفادة الدولة من مساهماتهم، ويحفّزهم على البقاء والمشاركة الفاعلة في الاقتصاد المحلي، ضمن منظومة تُحقق التوازن بين الجاذبية الاستثمارية والعدالة الاقتصادية.
وفي هذا السياق، أوصت مؤسسات استشارية رائدة مثل «ماكينزي» و«ديلويت» بضرورة مواءمة سياسات الهجرة والعمالة مع الخطط الاقتصادية الاستراتيجية، خصوصًا في دول الخليج العربي التي تتعامل مع تركيبة سكانية متحركة وسوق عمل سريع التغير. وتكمن القيمة المضافة لهذا الربط في تحقيق فائدة مزدوجة: من جهة، تُسهم هذه المواءمة في خلق سوق أكثر مرونة واستجابة للتحولات؛ ومن جهة أخرى، تعزّز من الاستقرار الاجتماعي طويل الأمد، عبر دمج القوى العاملة الوافدة ضمن منظومة اقتصادية منتجة ومستقرة.
وفيما يتعلق بسلطنة عُمان، فإن من أبرز الأولويات في هذا المجال تطوير قاعدة بيانات وطنية دقيقة وشفافة، تُعنى بتتبع التحويلات المالية، وأنماط الإنفاق والادخار لكل من المواطنين والمقيمين. وجود مثل هذه المنظومة المعرفية من شأنه أن يُمكّن صانع القرار من تصميم سياسات اقتصادية قائمة على الأدلة والتحليل الواقعي، عوضًا عن الافتراضات أو المعالجات الظرفية.
وإلى جانب ذلك، يمثل الاستثمار في التعليم المهني والتقني محورًا استراتيجيًا يمكّن سلطنة عُمان من تقليص اعتمادها على الأيدي العاملة الأجنبية مستقبلاً، عبر بناء قوى عاملة وطنية مؤهلة وقادرة على سد احتياجات السوق في القطاعات الحيوية كالتقنية، والتصنيع، والخدمات اللوجستية. هذا الاستثمار لا يخدم فقط أهداف الاكتفاء المحلي، بل يسهم أيضًا في ترسيخ مفهوم التمكين الاقتصادي القائم على الكفاءة لا على العدد، وهو ما يشكل أحد أعمدة الاستدامة في أي اقتصاد يتطلع إلى تنمية شاملة ومتوازنة.
ديناميات الاقتصاد الكلي
أصبحت الهجرة والتحويلات المالية اليوم جزءًا لا يتجزأ من ديناميات الاقتصاد الكلي، ولم تعدا تُصنّفان كظواهر هامشية أو منفصلة عن آليات السوق، بل غدتا ركيزتين محوريتين في بناء مرونة اقتصادية قادرة على الصمود في وجه الأزمات، خصوصًا في الدول التي تعتمد على تدفقات العاملين الوافدين وتحويلاتهم. فالهجرة تُسهم في سد فجوات سوق العمل، وتتيح انتقال المهارات والخبرات عبر الحدود، بينما تشكّل التحويلات المالية مصدرًا حيويًا للنقد الأجنبي، وعاملًا محفزًا للطلب المحلي والاستثمار في القطاعات غير النفطية.
وعندما تُدرج هذه التدفقات البشرية والمالية ضمن سياسات وطنية متكاملة ومبنية على أسس تحليلية دقيقة، فإنها تتحول من تحدٍّ إلى فرصة تنموية قادرة على توليد قيمة مضافة مستدامة. وفي هذا الإطار، تملك سلطنة عُمان فرصة استراتيجية لتطوير منظومة تشريعية مرنة تُحفّز المقيمين على استثمار أموالهم محليًا، وتعزّز من تدوير رأس المال داخل قطاعات إنتاجية واعدة كالخدمات الرقمية، والتجارة، والطاقة المتجددة.
كما أن إجراء دراسات معمقة لفهم أنماط التحويل والاستهلاك والادخار لدى المقيمين، وربط هذه المعطيات بـ«رؤية عُمان 2040» واستراتيجيات التنويع الاقتصادي، من شأنه أن يُرسي قاعدة معرفية تُسهم في تحسين كفاءة السياسات المالية، وتعزيز جاذبية السوق العُماني للمقيمين والمستثمرين على حد سواء.
إن استغلال هذه الثروة المالية والبشرية الكامنة، من خلال أدوات مبتكرة وتشريعات ذكية، لا يسهم فقط في تعزيز النمو الاقتصادي، بل يُرسّخ الاستقرار المالي والاجتماعي لسلطنة عُمان على المدى الطويل، ويضعها في موقع متقدم ضمن الاقتصادات الأكثر قدرة على التكيّف والابتكار في المنطقة.
يوسف بن محمد البدواوي كاتب في الشؤون الاقتصادية
وبين دول تستنزف طاقاتها البشرية وأخرى تستثمر فيها، يظهر مشهد اقتصادي جديد قائم على الربط بين الحركة السكانية والتخطيط المالي الذكي، في هذا المشهد، تتجاوز العلاقات الاقتصادية الحدود الجغرافية، ويصبح العامل المهاجر شريكًا في بناء اقتصادات لا يعيش فيها، وتتحول الأموال المحوّلة من الخارج إلى دعامة مركزية لخطط التنمية، وركيزة من ركائز الأمن المالي والاجتماعي في دول الاستقبال والمرسل معًا.
وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن التحويلات المالية إلى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط بلغت خلال عام 2023 نحو 669 مليار دولار، في رقمٍ يعكس بوضوح التحول التدريجي لهذه التدفقات إلى ركيزة تمويلية أكثر استقرارًا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بل وتفوقت عليها في عدة سياقات. ويُعزى هذا الاستقرار اللافت إلى الطبيعة العاطفية والاجتماعية التي تحكم سلوك المهاجرين في دعم أسرهم، حيث تبقى التحويلات مرتبطة بروابط عائلية وثقافية، مما يجعلها أقل حساسية للتقلبات الجيوسياسية أو الاضطرابات الاقتصادية العالمية.
هذا الطابع شبه الثابت للتحويلات يمنح البلدان المستقبلة هامشًا أوسع للتخطيط المالي متوسط وطويل الأمد، ويفتح المجال أمام توجيه الموارد نحو مشاريع تنموية ذات أثر مباشر ومستدام، لا سيما في قطاعات التعليم، والرعاية الصحية، والإسكان. وتدعم هذه الرؤية تحليلات صادرة عن صندوق النقد الدولي، تشير إلى وجود علاقة طردية بين ارتفاع التحويلات وتحسن المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في عدد من الدول النامية، مما يجعل هذه التدفقات موردًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن الموارد التقليدية، بل يفوقها في المرونة والارتباط بالواقع المجتمعي.
وفي مشهد موازٍ لتحويلات المهاجرين المالية، برزت دول الاستقبال التي تبنّت سياسات هجرة مرنة ومدروسة كأمثلة ناجحة على توظيف الهجرة لتعزيز استقرارها الاقتصادي الداخلي. فقد تمكنت هذه الدول من تحويل تدفقات الهجرة إلى محركٍ فعّال للنمو، سواء من خلال تحفيز الاستهلاك، أو عبر سد الفجوات في أسواق العمل، لا سيما في القطاعات التي تعاني نقصًا هيكليًا في الكوادر.
وتُعد تجربة ألمانيا مثالًا بارزًا في هذا السياق، إذ نجحت عبر ما يُعرف بـ«نموذج الاندماج الاقتصادي» في إدماج المهاجرين ضمن نسيجها الإنتاجي، حيث تحوّل كثيرٌ منهم خلال أقل من عقد إلى دافعي ضرائب ومشاركين نشطين في سوق العمل، ما أسهم في دعم المالية العامة وتعزيز الإنتاجية. ويُعزى هذا النجاح إلى بنية مؤسسية مرنة اعترفت بالكفاءات الوافدة، ووفّرت بيئة حاضنة تسهّل الاندماج، وتُعلي من قيمة العمل والمهارة.
أما كندا، فقد عكست نتائج دراسة حكومية حديثة حجم التأثير الإيجابي للهجرة على أحد أكثر القطاعات حيوية؛ إذ ساهم المهاجرون الجدد في سد ما نسبته 22% من فجوات سوق العمل في قطاع الرعاية الصحية خلال السنوات الأخيرة، ما يعكس البعد الاجتماعي والاقتصادي المتداخل للهجرة، إذا ما جرى استثمارها ضمن إطار وطني واضح الأهداف.
وفي سياق مغاير لكن مترابط، بدأت بعض الدول ذات الكثافة السكانية العالية مثل الهند ونيجيريا في التحول إلى مراكز جذب استثماري عالمي، بفضل ثرواتها البشرية الشابة. وتشير تقارير حديثة صادرة عن وكالة «بلومبيرج» إلى أن الهند تتجه لتجاوز الصين كأكبر سوق استهلاكي في العالم بحلول عام 2030، ليس فقط بسبب حجم السكان، بل لأن أكثر من 60% منهم دون سن الثلاثين. هذه القاعدة الديموغرافية النشطة تمنح الاقتصاد الهندي ميزة تنافسية في الطلب المحلي، وتفتح آفاقًا واعدة في قطاعات التكنولوجيا المالية، والتعليم الرقمي، وريادة الأعمال.
وتسير نيجيريا على خطى مشابهة، حيث تُعد من أسرع الدول نموًا سكانيًا في إفريقيا، وتُظهر بيانات صندوق النقد الدولي أن القارة الإفريقية -وعلى رأسها نيجيريا- قد تشهد ما يُعرف بـ«التحول السكاني الإيجابي» بحلول منتصف هذا القرن، إذا ما أُحسن استثمار مواردها البشرية. هذا التحول لا ينحصر في بعده السكاني فقط، بل يمتد ليشكل قوة دافعة جديدة للاقتصاد العالمي، تعيد توزيع مراكز النمو وتعيد ترتيب أولويات الأسواق الدولية.
هجرة العقول
إلى جانب التحويلات المالية وتدفقات اليد العاملة، تُواجه العديد من الدول النامية تحديًا بالغ الأهمية يتمثل في «هجرة العقول»، حيث تخسر هذه الدول نسبة كبيرة من كفاءاتها المؤهلة في مجالات حيوية كالهندسة، والطب، والعلوم، ما يُضعف قدرتها على التنافس في اقتصاد المعرفة، ويعمّق الفجوة التقنية والبحثية مع الدول المتقدمة.
ويرتبط هذا النزيف المعرفي غالبًا ببيئات غير محفّزة، تفتقر إلى نظم ابتكار فعّالة، أو إلى مناخ بحثي يسمح للكفاءات بالتطور والمشاركة الفاعلة في صنع السياسات العلمية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن بعض الدول نجحت في تحويل هذا التحدي إلى فرصة استراتيجية، عبر تبني سياسات ذكية ومتوازنة تراعي أهمية العقول المهاجرة دون التفريط بها.
في سويسرا مثلًا، تتكامل العمالة المهاجرة مع الصناعات الوطنية المتقدمة، وتسهم في دعم تنافسية الاقتصاد دون الإخلال باستقراره الاجتماعي. أما بعض دول مجلس التعاون الخليجي، فقد اختارت مسارًا مختلفًا قائمًا على التنويع الاقتصادي والتوازن السكاني، حيث تُستثمر الهجرة ضمن إطار تنموي شامل يهدف إلى تحفيز قطاعات غير نفطية كالتقنية، والخدمات، والتعليم.
وفي كلتا الحالتين، يتجلى الفرق في وضوح الرؤية، ودقة التخطيط، وفعالية الإدارة للتنوع الديموغرافي، بوصفه أداة استراتيجية تستجيب لمتطلبات السوق المحلي، وتعزّز قدرة الدولة على الاستفادة من التحولات السكانية بدلًا من مقاومتها.
استغلال التحولات العالمية محليًا
في سياق هذه التحولات العالمية المتسارعة، تبرز سلطنة عُمان أمام فرصة تاريخية لإعادة توجيه مسارات الهجرة والتحويلات والعقول المهاجرة بما يخدم أهداف «رؤية عُمان 2040»، التي ترتكز على بناء اقتصاد متنوع ومستدام قائم على رأس المال البشري والابتكار.
ففي ظل البنية الديموغرافية الشابة لسلطنة عُمان، حيث تمثل فئة الشباب نسبة كبيرة من إجمالي السكان، يبرز هذا المعطى كقوة شرائية واعدة قادرة على تحريك السوق الداخلي، وتعزيز جاذبية الاستثمار في قطاعات حيوية مثل التعليم، والسياحة، والخدمات اللوجستية. ومع تطوير سياسات داعمة للابتكار وريادة الأعمال، يمكن لهذا الزخم الشبابي أن يتحول إلى أداة نمو طويلة الأمد تدعم التحول من اقتصاد قائم على الموارد إلى اقتصاد قائم على المعرفة.
ومع إدراك أن حركة الأموال والأفكار والمهارات لم تعد مقتصرة على الحدود الوطنية، فإن تسخير هذه الديناميات العالمية عبر آليات محلية مرنة ومبنية على المعرفة، سيمنح الاقتصاد العُماني قدرة أعلى على التكيف، ويعزّز من موقعه الإقليمي كمركز اقتصادي متقدم ومتوازن.
يمكن لسلطنة عُمان أن تُفعّل الاستفادة من تحويلات مواطنيها في الخارج عبر إنشاء قنوات استثمارية آمنة وشفافة تعزز من ثقة الجاليات العُمانية، وتتيح لها الإسهام المباشر في مشاريع التنمية الوطنية. وتشمل هذه القنوات المحتملة صناديق استثمارية مخصصة للمغتربين، أو برامج تمويلية مشتركة بين القطاعين العام والخاص، تُوجه نحو قطاعات استراتيجية كالتعليم، والرعاية الصحية، والطاقة المتجددة، والسياحة.
تأتي هذه المبادرات كخطوة نوعية نحو تعميق الشراكة الاقتصادية بين الدولة ومواطنيها في الخارج، وتحويل التحويلات المالية من مجرد مصدر دخل فردي إلى رافعة استثمارية طويلة الأجل تُسهم في تنويع مصادر الدخل الوطني، وخلق فرص عمل مستدامة، وتوطين رؤوس الأموال. كما أن توفير حوافز ضريبية، وتسهيلات قانونية واضحة، سيساهم في تعزيز بيئة الاستثمار وجذب أموال المغتربين نحو مشاريع تحقق أثرًا تنمويًا ملموسًا.
على الجانب الآخر، يُمثل الوافدون المقيمون في سلطنة عُمان شريحة استهلاكية فعّالة ذات قدرة شرائية مؤثرة، ما يفتح المجال أمام تطوير سياسات مدروسة تهدف إلى إعادة تدوير أموالهم داخل السوق المحلي. ويُمكن تحقيق ذلك من خلال توفير منتجات وخدمات مخصصة تلبي احتياجاتهم، وتحفّزهم على الإنفاق المحلي، بدلًا من تسرب أموالهم إلى الخارج في شكل تحويلات دورية. وتشير إحصائية صادرة عن البنك المركزي العُماني إلى أن حجم تحويلات الأيدي العاملة الوافدة خارج سلطنة عُمان بلغ في عام 2022 نحو 3.488 مليار ريال عُماني، بزيادة قدرها 367 مليون ريال عُماني عن عام 2021، ما يعكس الحاجة الملحّة إلى آليات اقتصادية تُبقي جزءًا أكبر من هذه الأموال ضمن الدورة الاقتصادية الوطنية.
وللحد من تسرب هذه الموارد، يمكن لسلطنة عُمان أن تستلهم نماذج الدمج الاقتصادي الذكي المعمول بها في عدد من الدول الأوروبية، من خلال تسهيل بيئة ريادة الأعمال للمقيمين، لا سيما في القطاعات منخفضة المخاطر مثل التجارة والخدمات الرقمية. كما يُمكن ربط هؤلاء المستثمرين بنظام ضريبي عادل ومنظّم، يضمن استفادة الدولة من مساهماتهم، ويحفّزهم على البقاء والمشاركة الفاعلة في الاقتصاد المحلي، ضمن منظومة تُحقق التوازن بين الجاذبية الاستثمارية والعدالة الاقتصادية.
وفي هذا السياق، أوصت مؤسسات استشارية رائدة مثل «ماكينزي» و«ديلويت» بضرورة مواءمة سياسات الهجرة والعمالة مع الخطط الاقتصادية الاستراتيجية، خصوصًا في دول الخليج العربي التي تتعامل مع تركيبة سكانية متحركة وسوق عمل سريع التغير. وتكمن القيمة المضافة لهذا الربط في تحقيق فائدة مزدوجة: من جهة، تُسهم هذه المواءمة في خلق سوق أكثر مرونة واستجابة للتحولات؛ ومن جهة أخرى، تعزّز من الاستقرار الاجتماعي طويل الأمد، عبر دمج القوى العاملة الوافدة ضمن منظومة اقتصادية منتجة ومستقرة.
وفيما يتعلق بسلطنة عُمان، فإن من أبرز الأولويات في هذا المجال تطوير قاعدة بيانات وطنية دقيقة وشفافة، تُعنى بتتبع التحويلات المالية، وأنماط الإنفاق والادخار لكل من المواطنين والمقيمين. وجود مثل هذه المنظومة المعرفية من شأنه أن يُمكّن صانع القرار من تصميم سياسات اقتصادية قائمة على الأدلة والتحليل الواقعي، عوضًا عن الافتراضات أو المعالجات الظرفية.
وإلى جانب ذلك، يمثل الاستثمار في التعليم المهني والتقني محورًا استراتيجيًا يمكّن سلطنة عُمان من تقليص اعتمادها على الأيدي العاملة الأجنبية مستقبلاً، عبر بناء قوى عاملة وطنية مؤهلة وقادرة على سد احتياجات السوق في القطاعات الحيوية كالتقنية، والتصنيع، والخدمات اللوجستية. هذا الاستثمار لا يخدم فقط أهداف الاكتفاء المحلي، بل يسهم أيضًا في ترسيخ مفهوم التمكين الاقتصادي القائم على الكفاءة لا على العدد، وهو ما يشكل أحد أعمدة الاستدامة في أي اقتصاد يتطلع إلى تنمية شاملة ومتوازنة.
ديناميات الاقتصاد الكلي
أصبحت الهجرة والتحويلات المالية اليوم جزءًا لا يتجزأ من ديناميات الاقتصاد الكلي، ولم تعدا تُصنّفان كظواهر هامشية أو منفصلة عن آليات السوق، بل غدتا ركيزتين محوريتين في بناء مرونة اقتصادية قادرة على الصمود في وجه الأزمات، خصوصًا في الدول التي تعتمد على تدفقات العاملين الوافدين وتحويلاتهم. فالهجرة تُسهم في سد فجوات سوق العمل، وتتيح انتقال المهارات والخبرات عبر الحدود، بينما تشكّل التحويلات المالية مصدرًا حيويًا للنقد الأجنبي، وعاملًا محفزًا للطلب المحلي والاستثمار في القطاعات غير النفطية.
وعندما تُدرج هذه التدفقات البشرية والمالية ضمن سياسات وطنية متكاملة ومبنية على أسس تحليلية دقيقة، فإنها تتحول من تحدٍّ إلى فرصة تنموية قادرة على توليد قيمة مضافة مستدامة. وفي هذا الإطار، تملك سلطنة عُمان فرصة استراتيجية لتطوير منظومة تشريعية مرنة تُحفّز المقيمين على استثمار أموالهم محليًا، وتعزّز من تدوير رأس المال داخل قطاعات إنتاجية واعدة كالخدمات الرقمية، والتجارة، والطاقة المتجددة.
كما أن إجراء دراسات معمقة لفهم أنماط التحويل والاستهلاك والادخار لدى المقيمين، وربط هذه المعطيات بـ«رؤية عُمان 2040» واستراتيجيات التنويع الاقتصادي، من شأنه أن يُرسي قاعدة معرفية تُسهم في تحسين كفاءة السياسات المالية، وتعزيز جاذبية السوق العُماني للمقيمين والمستثمرين على حد سواء.
إن استغلال هذه الثروة المالية والبشرية الكامنة، من خلال أدوات مبتكرة وتشريعات ذكية، لا يسهم فقط في تعزيز النمو الاقتصادي، بل يُرسّخ الاستقرار المالي والاجتماعي لسلطنة عُمان على المدى الطويل، ويضعها في موقع متقدم ضمن الاقتصادات الأكثر قدرة على التكيّف والابتكار في المنطقة.
يوسف بن محمد البدواوي كاتب في الشؤون الاقتصادية