أعمدة

هجاء للكتابة المتزنة والمحايدة

بكتابتي لهذا المقال الأسبوعي خلال سنوات؛ طرحتُ على نفسي العديد من الأسئلة عن جدوى الكتابة، وعما ينبغي أن يُكتب عنه، ثم عن الهامش الذي يجعل من هذه المساحة مختبرًا أتطوّر فيه أنا نفسي بتجاوز أفكاري الشخصية، الإخفاق أحيانًا، ثم الانتباه مرة أخرى. كان من المهم بالنسبة لي ألا أفكّر في عمودي الأسبوعي هذا بصفته «منجزًا»، بل أقرب لمساحة مصممة للتجريب، ظننتُ أن في هذا أيضًا ضربا من «دمقرطة» حتى ما يبدو كلامًا شخصيًّا؛ ليصبح أقرب لالتقاط ما يحدث هنا وهناك مع وعد أقطعه على نفسي بالانتباه، الانتباه الكامل أو بتعبير أحبه وأكرهه: اليقظة.

لا أتصوَّر إذن أنني أكتبُ مقالًا مثاليًّا، أو حتى نسخة قريبة من المثالية، بل ما أفكّر فيه هو على النقيض من ذلك تمامًا؛ أي عدم الحكم المعياري على الكتابة. مع ذلك وضعتُ لنفسي حدودًا ينبغي أن ألهو في داخلها، وهي أن أكتب عما يثير فضولي، وما يعكس أفكار امرأة في هذه اللحظة الزمنية في الغرفة التي تجلس فيها الآن وقيظ مسقط لا يتوقف عن مفاجأتها. آمنتُ أن شعوري بالجلد الذي أسكنه يعني الكثير في هذه الكتابة. ومن حدودي الأخرى النظر إلى العالم، الإحساس بالمسؤولية تجاه ما يحدث فيه، الإيمان بأن مزيدًا من المشاركة عن الخير والجمال الذي تنشده أي كتابة -أو هكذا افترض عن الكتابة- ستجعله مكانًا أفضل لنا وللأجيال القادمة.

في كثير من الأحيان لا تتم استعادة عمل أدبي ما، أو منجز صحافي ما لأهميتهما على الصعيد الفني، وفي الحقيقة المختلفة التي قد يقدمها، بل كثيرًا ما يحدث أن تُستعاد كـ«خطاب». يقول لنا ما الذي كان يحدث في هذا اليوم قبل مائة سنة هنا، بماذا كانوا يفكرون؟ لماذا تجاوزوا الكتابة عن أمر ما رغم أنهم كانوا يكابدون العيش معه؟ كل شيء في تلك الكتابة حتى «سكوتها» سيكون له معنى ما في محاولة بناء سردية عما حدث في الماضي. نستطيع دراسة المقالات كخطاب اليوم أيضًا؛ لنتعرف على ما يشغل الناس هنا، أهواؤهم، المرجعيات التي ينطلقون منها، خلفياتهم الاقتصادية والطبقية. ستقول المقالة شيئًا عن هذا ببلاغة إذا ما تلقفها باحث جيد.

لكن هل نريد بكتابتنا لمقالاتنا أن تكون عاكسة فحسب لما يحدث؟ أم أن تفعل شيئًا آخر، أن تلعب دورًا في زحزحة بنى فكرية ما، في إثارة الأسئلة، في التلويح بموقف وجودي مهمش، أن تكون صوتًا لمَن لا صوت لهم؟ أو إن كنا غير متطلبين، أن تكون مقالات قلقة، مسكونة بالشك، وأمام أيديولوجيات التطرف والإيمان الدوغمائي بأي شيء، بدايةً بحقائب هيرميز وصولًا إلى ديانة ما، أن تستمر المقالة في الشك، أن تُشرعن الشك في زمن سائل يريد انتزاع صلابته بالعودة العنيفة للهويات الضيقة، والأنانية، والجشع، وأخلاق المصالح فحسب. أن تكون وببساطة حيوية لا جيفة يتم التمثيل بها بلا ملل.

أثار هذه الأسئلة في ذهني مجددًا مقال الإعلامي العماني سليمان المعمري في عموده هذا الأسبوع «إلى كتبة الذكاء الاصطناعي: ارحمونا» والذي بدأ بالإشارة لافتتاحيات مقالات شائعة هذه الأيام، مولدة بالذكاء الاصطناعي، وصولًا للهوس بالكتابة حتى يصبح الناس جميعهم كتّابًا. تفكر مقالة المعمري في هذه الكتابة وأخلاقيتها، لكنني أريد أن أستأنف مقالته بالإشارة؛ لكون هذه الممارسة هي امتداد لكتابة لم تعتمد على الذكاء الاصطناعي، لكنها وببساطة شديدة لم تفعل شيئًا سوى إعادة إنتاج ما هو موجود بالفعل، حتى وإن حام حول تلك الكتابة الصوت الشخصي الذي لا يكون سوى حيلة للتهرب من موت تلك النصوص، وانتهاء صلاحيتها؛ إذ إنها لا تتحدى شيئًا على الإطلاق، ولا تفعل بنا شيئًا كقراء سوى أن تثبت لنا قدرتنا على أن نكون مستهلكين. لا تذهب بهم الكتابة إلى مكان أبعد من النقطة في آخر السطر، وهو ما يذكرني بمؤسسات إعلامية ضخمة في العالم العربي.

بات جزءا من استراتيجيتها «إغراق» السوق بالمحتوى الذي وإن بدا عبر التقنيات التي يقدم بها جادًا، إلا أنه مصمم لكي يُرفّه فحسب، ويُمنع تجاوز ذلك بمنهجية؛ لإنشاء جيل عربي جديد مستعد لشروط العالم الجديد.

أظن أن الدور الذي تلعبه مقالات الذكاء الاصطناعي في معترك جودة الكتابة هو نفسه ذلك الذي يلعبه الأدب الرديء أمام الأدب «متوسط الأداء»، والمعذرة على عدم القدرة على إيجاد مصطلح أبعد من مصطلحات الاقتصاد التي وفدت على كل شيء، والعجز عن إيجاد مقابل يتوافق والحديث عن الأدب.

عمومًا أنا أستعير هذا المصطلح من أطروحة آلان دونو التي اغتيل عنوانها في ترجمته العربية لـ«نظام التفاهة» بينما كلمة: Mediocracy أقرب لمعنى «الوسطية» هنا وبالعنوان الفرعي الذي تنازلت عنه الترجمة العربية أيضًا كان يمكن أن يُفهم الكتاب على نحو أفضل: Mediocracy: The Politics of the Extreme Centre. وعودة للفكرة التي أريد مناقشتها هنا أن تحديد الأدب الرديء سهل جدًا، أو ربما كان سهلًا إذا ما استدعينا أزمات الوسط الثقافي الخليجي الأخيرة بهذا الصدد، لكن تحديد الأدب «متوسط الأداء» صعب للغاية، مع أن مشكلة هذا الأخير أكبر بكثير من مشكلة ذلك الرديء؛ إذ تبدو الكتابة فيه ممتازة تتوارى تحت لغة جيدة، أو بنية جيدة للنص، أو تماسك رصين، لكنها في حقيقة الأمر تُكرس التقاليد، تعيد إنتاج الواقع البائس، وتُدور البنى الاجتماعية نفسها، تتوافق مع السلطة.

وأنا هنا لا أعني السلطة السياسية، بل كل أنواع السلطة، تُبقي على الامتيازات عند مجموعة من البشر مثلًا، أو تتخذ مسافة من عدم الاشتباك مع الواقع الذي تُكتب عنه أو منه، أو تتكاسل أمام نظام عالمي يريدنا منتجين بشروطه فقط، أو تتخذ مكانًا تصبحُ فيه الكتابة خلاصًا فردانيًّا بدلًا من الإيمان بالخلاص الجماعي، أو أن تكون هي نفسها جاهلة بموقع ما تقوله وأهميته، أو أن تكون متعالية، أو أن تكون طيعة وغير مزعجة لأحد، وأمثلة عديدة لن أتمكن من حصرها الآن. هي كتابة «تجميع» إلا أنها وبعكس كتابة شات جي بي تي «تبدو» لنا غير ذلك.

وبينما يغيب النقد الثقافي عما يُكتب يُصبح ذلك الوسطي متنًا مُكرسًا، متنًا لطيفًا لا يُعادي أحدًا فلا يزعزع شيئًا؛ ليطمئن الأخ الأكبر بأن الأمور ستبقى على ما هي عليه. وقد يظن بعض القراء الآن أنني أستثني من هذا التشخيص المقالات الأدبية؛ إذ إنها إذا ما حققت نوعًا من الالتزام الذي أشير إليه أعلاه تجاه الذات والعالم فإنها ستكون في خارج منطقتها، بل خارج منطقها أيضًا، الذي يشترط «البلاغة» بأدواتها، وعدم الانجرار في الوعظ والتقرير. لكنني في حقيقة الأمر أقصد الكتابة الأدبية أولًا، بل أستطيع التطرف في أن كل كتابة حتى «الصحافية» أدبية على نحو ما؛ فلننظر لرواية «بدم بارد» البديعة جدًا للصحفي ترومان كابوتي والتي وثق فيها جريمة قتل كان قد كُلف بالتحقيق بشأنها.

عمومًا إن لم يكن الأدب هو الأقدر على تحطيم الجمادات، واختراع واقع جديد، ورؤية جديدة حتى وإن كانت كتابة عن رواية أو فيلم مثلًا تقول لنا شيئًا عن العالم الذي ينبغي أن نعيش فيه، وإن لم تكن مجترحة من القلب، منزوعة نزعًا من رموش العين، إن لم تكن كتابة صادرة عن اصطكاك أسنان كاتبها، عن هزيمته، أو ما يمكن أن أقتبس لتوضيحه كتابة لكاتبنا الرائع عبدالله حبيب في إصدار «كثيرة جدًا هذه اليابسة»، «يمكن تعريف الحياد»، و«الموضوعيَّة»، و«العقلانيَّة»، و«الرَّزانة»، و«الاتزان»، و«الحكمة»، و«ضبط النفس»، و«كبح جماح التَّهوُّر»، و«كظم الغيظ»، و«الوقار» إلخ كالتَّالي: أن تكون بلا روح، بلا عاطفة، بلا إنسانيَّة، بلا ضمير، وبلا أخلاق... ومن الأفضل ألف مرَّة أن تكون متطرِّفًا، في نصرة العناد، والكبرياء، والمكابرة، والتَّهور (بل وأحيانًا حتَّى الحماقة والطَّيش والرعونة) عوضًا عن أن تكون «محايدًا» و«موضوعيًّا... عليك دومًا أن تنحاز إلى القتيل؛ إلى القهقهة و/أو الانتحاب وليس إلى الضَّحك أو البكاء. عليك دومًا أن تقف في صف الذين بهم غضبٌ ونَزَقٌ، وليس في حزب «الموضوعيِّين» و«المحايدين».

وتأكيدًا على ما كتبه المعمري في مقاله عن أهمية الذكاء الاصطناعي بالنسبة للكُتاب؛ أقول بأن أول ما سيفعله هو استبعاد كُتاب القطع الميتة، تلك التي إن فحصناها بصدق سنسأل أنفسنا سؤالًا بسيطًا: هل تتحدى هذه الكتابة شيئًا، أي شيء؟