أعمدة

أعيدوا «الأمبا» الساجد على الأرض !

فـي طريق عودتي من صحار، وبينما الشمس المُلتهبة فـي كبد السماء، شاهدتُ عددا من سيارات «البيك آب» تُحاذي الشارع العام على امتداده، سيارات مُعبأة بثمر «الأمبا»، فقررتُ أن أقف عند إحداها. سألتُ الشباب عن مصدر «الأمبا» فقالوا لي: «من شناص وصحار وصحم». ثم راقبتُ الحبّات التي انتقاها وهي تغلي بين يديه من شدة السخونة حتى استوت قشرتها الخارجية، فأفصحتِ الرائحة المُترفة بالعصارة عن نفسها. راقبتُ العروق النافرة فـي جبهة الشاب الصغير وعنقه، والاحمرار على يديه ووجنتيه، جرّاء الشمس التي يصطلي جسده تحتها النهار بطوله لقاء ريالات قليلة!

وآنذاك نظرتُ إلى الأمر من زاويتين، الأولى: تتعلقُ بالشباب الذين يجلسون لساعات طويلة فـي ظروف غير إنسانية، فـي انتظار زبون مُفترض، دون بنية أساسية تسويقية أو مردود مالي مُستدام! والآخر: يتعلقُ «بالأمبا» الذي يفقدُ بعض خصائصه خارج الظروف الملائمة، لرقة طبقته الخارجية وقلبه الرخو!

فـي العيد الفائت، زرتُ زوجين مسنين، وما إن دخلتُ بيتهما حتى طالعتني خمسُ شجيرات «أمبا» تتعالى إلى ارتفاع مُذهل، وتفرشُ الأرض بثمر ذهبي يانع. طلب المُسنان مني برجاء أن أجمع منه قدر حاجتي، فانتابني شعور بالأسى للكمية المُهدرة. قالت الزوجة: «إنّه فوق حاجتنا ولدى جيراننا ثمرهم أيضا، وغالبا ما يهمدُ الأمبا تحت أمّه». كان من ألذ ما ذُقت، حلاوة محلية معجونة بأيام طفولتي، مذاقٌ لا يُوازيه ثمر السوق بشيء.

آلمني ما آلت إليه مزارع الباطنة، تلك التي كانت على امتداد البصر، نركضُ بين جنباتها وكأنّها لا نهائية الامتداد. كانت الأفرعُ تنوءُ بأحمالها فنراه ساجدا يلمسُ الأرض، نجمعه فـي كراتين خشبية، يمضي بها جدي إلى السوق. يبيعُ بعضها ويعود ببعضها دون أن يُمس، فـيضعُ فـي يد كل واحد منا بعض وريقات من فئة المائة بيسة، ما يدفعنا لفرح غير محدود، كمن امتلك على نحو مُفاجئ ثروة.

ولا أدري حقا أين اختفت تلك الوفرة؟ فقدتْ التربة معادنها ودخلتْ الملوحة إلى آبارنا، فقتلت مزارعنا، وضاعف المأساة طمع الوافدين الذين أغرقوها بشوالات الكيماوي! فعندما كبر الفلاحون فـي السن، تخلى الأبناء عن أدوارهم فـي سبيل كسب سريع، كما اقتطعت المساحات الخضراء لمزيد جبروت الإسمنت!

ورغم وجود الكثير من أنظمة الري الحديثة التي تُقنن الاستهلاك، وتُرينا الطرق الآمنة للقضاء على أمراض الأشجار وعِلاتها، وكيفـية استعمال الأسمدة وتقنين المُبيدات الضارة.. وقبل هذا وذاك لدينا رأس المال البشري، وأعني الطلبة الذين تخرجوا من تخصصات الزراعة الذين يتسابقون على مقاعد الوظائف الحكومية -ولا أحد يلومهم بالتأكيد- فمشاريع من هذا النوع تتطلب وجود استراتيجية مدروسة ومدعومة من قبل الدولة!

إلا أنّه من الضرورة بمكان أن نخرج من دائرة البيع الفردي العشوائي، والمؤطر بفكرة محدودة تدعو «لستر الحال»، لندخل منظومة مُغايرة تجعلهم -أي الشباب- ينظرون لأنفسهم كرواد أعمال لا مجرد باعة متضائلين وشديدي الهشاشة!

قد تثيرُ «موسوعة المانجو العُمانية» التي وثقت تاريخ هذه الشجرة فـي عُمان والعالم وحفظت أصنافها، بمشاركة أكثر من ٦٠ دولة، وفريق بحث عالمي ضمّ ٣٥٠ خبيرا، واستغرق العمل عليها عشر سنوات، عديد الأسئلة، أهمها: كيف يمكننا ربط المعرفة النظرية بالتحولات التي تُصيب الزراعة فـي عُمان؟ كيف نُخرج زراعة المانجو من واقعها الفلكلوري التقليدي إلى قطاع إنتاجي مُتقدم -على الأقل لتغذية السوق المحلي- لنصبح إزاء خريطة زراعية ذكية متكاملة؟

فهي -وإن بدت ثمرة موسمية- يمكن أن تستثمر طوال العام عند تحويلها لعصائر ومربى ومخللات وأشياء أخرى. ويمكن للتقنيات الحديثة الآن أن توفر فرصا ترويجية عالية التأثير عبر صفحات «السوشيال ميديا»، فتخرج من المزارع المُجهزة بمخازن التبريد إلى الجهات المقصودة فلا تفقد الثمرة مذاقها الطازج.

يمكن لهذه الثمرة أن تضيف لاقتصادنا بُعدا غير مرئي، فتطبع هوية المكان على نحو ما يحدث فـي الجبل الأخضر مؤخرا، والذي بتنا نراه غير منفصل عن مفردات من قبيل: «ورد، رمان، عنب».

دعونا لا نتحدث فـي الخطوة الأولى عن «التصدير» العربي والعالمي، نريد أولا وقبل كل شيء أن نرى «الأمبا» العُماني فـي سوقنا المحلي مُنافسا كل «الأمبا» المستورد، مُبردا ومخزنا بطريقة آمنة، ليغدو «خيارنا الأول»، فلا نرى شابا عُمانيا تحت فوهة الجحيم ولا نرى ثمارا مُهدرة على الأرض!

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»