حين لم نكن متصلين دائمًا
الثلاثاء / 6 / ذو الحجة / 1446 هـ - 20:10 - الثلاثاء 3 يونيو 2025 20:10
قرأت مؤخرًا مقالًا نُشر فـي جريدة «عمان» للكاتبة إيزابيل بروكس، تتحدث فـيه عن الحنين إلى عصر ما قبل الإنترنت، برغم أنها لم تعش تلك المرحلة، بل وُلدت بعدها. ما شدّني فـي المقال لم يكن نغمة الحنين وحدها، بل تلك المفارقة اللافتة: جيل وُلد فـي حضن التقنية، وتربى على إيقاع الشاشات، بات يحنّ إلى زمن لم يعرفه، ويبدي توقه إلى ماضٍ لم تطأه أقدامه.
صار الماضي البسيط، كما يُروى لهم، مغريًا بجمالياته: أحاديثه الشفوية، ودفء لقاءاته، وانعدام الحاجة إلى وسائط إلكترونية لقول «صباح الخير» أو للسؤال عن الحال أو لتهنئة قريب.
لكنني -وعلى خلاف الكاتبة- عشت ذلك الزمن أي زمن ما قبل الإنترنت، بل حتى الزمن الذي قبله؛ يوم لم تكن هنالك طرق معبّدة، ولا كهرباء، ولا ماء يصل إلى المنازل، ولا هواتف، ولا شبكة إنترنت، بل لم يكن هنالك معنى متداول لكلمات «مدنية» و«تنمية» و«تطوير»، ومع هذا، لم تكن الحياة جافة ولا خاوية؛ بل كانت عامرة بما يعجز عن تقديمه عالم اليوم رغم كل تيسيره.
ذلك الزمن -رغم بساطته وشظف عيشه- كان غنيًا بالقيم، نابضًا بالعلاقات، صادقًا فـي مشاعره. لم تكن السعادة فـيه مادية، وهذا ما عنته الكاتبة فـي مقالها، وهو ما بات يُعرف اليوم بـ«النوستالجيا» أو الحنين إلى الماضي؛ ذلك الشعور الإنساني العميق الذي يفطر عليه الإنسان بطبيعته، إذ يجد فـي استرجاع ما مضى سلوى ومأوى، بينما يكتنفه القلق أمام ما يحمله المستقبل من غموض.
«النوستالجيا» ليست ترفًا عاطفـيًا، بل هي حالة وجدانية مركّبة، تستحضر لحظات الصفاء وسط ضجيج الحاضر. فالإنسان، حين يُنهكه التقدم والمدنية، يعود بفطرته إلى ما كان بسيطًا ونقيًا، كما لو أنه يعيد ترتيب ذاته على مقاس الطمأنينة التي افتقدها.
ولعل هذا الحنين هو ما يدفع بعض أبناء الجيل الجديد إلى التعلق بتفاصيل لم يعيشوها، وإلى توقٍ لزمنٍ لا يعرفونه إلا من حكايات، لكنهم يتخيلونه زمنًا مثاليًا، خاليًا من منغصات الواقع، حتى وإن كان فـي حقيقته موشّحًا بالتعب والمشقة.
ولأكون منصفًا، لا أستطيع أن أصف ذلك الزمن بالصفاء المطلق، ولا أن أُضفـي عليه هالة من المثالية، كما لا يمكنني أن أصفه بالشقاء الخالص؛ فقد كان مزيجًا من الجمال والقسوة، من الصفاء والمكابدة. أقول هذا لا من موقع القارئ أو المستمع، بل من موقع من عاش تلك التفاصيل بكل صفائها وقساوتها، حين كان الوصول إلى معلومة بسيطة يتطلب جهدًا شاقًا، لم تكن المكتبات ولا الكتب متوفرة أو فـي متناول الجميع. كنا نترقّب وصول كتابٍ أو صحيفة أو مجلة مستعملة كمن ينتظر هدية العمر، ونمشي مسافات طويلة للوصول إلى مدرسة أو مركز صحي أو حتى دكان فـي آخر الحارة، كانت الإجراءات الرسمية تستغرق شهورًا، والمراسلات تنتظر أسابيع، وربما شهورًا لتصل. أما اليوم، فكل ذلك بات فـي متناول اليد بلمسة زر المعلومة، والتواصل، والخدمة، والعمل، بل حتى الاستشفاء والتعليم.
وأنا على يقين أن أولئك الذين يتغنّون بتلك الأيام، لو قُدّر لهم أن يعودوا إليها بكل ما فـيها من قسوة، لما طاب لهم المقام، ولسارعوا بالحنين إلى حاضرهم بما فـيه من سعة ويسر.
ومع ذلك، قد تكون الكاتبة محقّة فـي إشارتها إلى أن هيمنة التقنية ووسائل التواصل على تفاصيل حياتنا قد أفقدتنا شيئًا من جماليات العيش. فقد صار الواقع يُرى من خلف شاشات، لا كما هو بعفويته وحرارته ومفاجآته. كل شيء بات مؤطرًا بإطار رقمي اللقاءات، المناسبات، اللحظات الخاصة، وحتى المشاعر. وهذا -دون شك - من أبرز سلبيات العصر الحديث؛ حيث أدى الاستخدام المفرط للتقنية إلى نوع من التبلد الحسي والجفاف العاطفـي، حتى صار الناس يتفاعلون أكثر مع رموز الوجوه التعبيرية مما يفعلون مع تعبيرات الوجوه الحقيقية.
وقد يكون هذا أحد الأسباب التي تدفع كثيرًا من أبناء الجيل الجديد إلى التعلق بذلك الماضي، رغم أنهم لم يعيشوه؛ فهم يرونه -من خلال ما يسمعون أو يشاهدون- زمنًا دافئًا، مليئًا بالإنسانية، نقيًّا من شوائب السرعة واللهاث الرقمي.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن الإنصاف يقتضي أن نقرّ بأن لكل زمن عيوبه كما له محاسنه. فالحياة قبل الإنترنت، وإن كانت عامرة بالعلاقات والبساطة، إلا أنها لم تكن سهلة ولا خالية من المعاناة. لذا، لا يصح أن ننظر للحاضر بعدسة سوداء ولا للماضي بعدسة وردية. فالفهم الناضج للحياة يتطلب منا أن نُبصر الجانبين معًا، ونُقدّر ما نحن فـيه، دون أن نُنكر ما فقدناه، ولا أن نُغفل ما كسبناه.
صار الماضي البسيط، كما يُروى لهم، مغريًا بجمالياته: أحاديثه الشفوية، ودفء لقاءاته، وانعدام الحاجة إلى وسائط إلكترونية لقول «صباح الخير» أو للسؤال عن الحال أو لتهنئة قريب.
لكنني -وعلى خلاف الكاتبة- عشت ذلك الزمن أي زمن ما قبل الإنترنت، بل حتى الزمن الذي قبله؛ يوم لم تكن هنالك طرق معبّدة، ولا كهرباء، ولا ماء يصل إلى المنازل، ولا هواتف، ولا شبكة إنترنت، بل لم يكن هنالك معنى متداول لكلمات «مدنية» و«تنمية» و«تطوير»، ومع هذا، لم تكن الحياة جافة ولا خاوية؛ بل كانت عامرة بما يعجز عن تقديمه عالم اليوم رغم كل تيسيره.
ذلك الزمن -رغم بساطته وشظف عيشه- كان غنيًا بالقيم، نابضًا بالعلاقات، صادقًا فـي مشاعره. لم تكن السعادة فـيه مادية، وهذا ما عنته الكاتبة فـي مقالها، وهو ما بات يُعرف اليوم بـ«النوستالجيا» أو الحنين إلى الماضي؛ ذلك الشعور الإنساني العميق الذي يفطر عليه الإنسان بطبيعته، إذ يجد فـي استرجاع ما مضى سلوى ومأوى، بينما يكتنفه القلق أمام ما يحمله المستقبل من غموض.
«النوستالجيا» ليست ترفًا عاطفـيًا، بل هي حالة وجدانية مركّبة، تستحضر لحظات الصفاء وسط ضجيج الحاضر. فالإنسان، حين يُنهكه التقدم والمدنية، يعود بفطرته إلى ما كان بسيطًا ونقيًا، كما لو أنه يعيد ترتيب ذاته على مقاس الطمأنينة التي افتقدها.
ولعل هذا الحنين هو ما يدفع بعض أبناء الجيل الجديد إلى التعلق بتفاصيل لم يعيشوها، وإلى توقٍ لزمنٍ لا يعرفونه إلا من حكايات، لكنهم يتخيلونه زمنًا مثاليًا، خاليًا من منغصات الواقع، حتى وإن كان فـي حقيقته موشّحًا بالتعب والمشقة.
ولأكون منصفًا، لا أستطيع أن أصف ذلك الزمن بالصفاء المطلق، ولا أن أُضفـي عليه هالة من المثالية، كما لا يمكنني أن أصفه بالشقاء الخالص؛ فقد كان مزيجًا من الجمال والقسوة، من الصفاء والمكابدة. أقول هذا لا من موقع القارئ أو المستمع، بل من موقع من عاش تلك التفاصيل بكل صفائها وقساوتها، حين كان الوصول إلى معلومة بسيطة يتطلب جهدًا شاقًا، لم تكن المكتبات ولا الكتب متوفرة أو فـي متناول الجميع. كنا نترقّب وصول كتابٍ أو صحيفة أو مجلة مستعملة كمن ينتظر هدية العمر، ونمشي مسافات طويلة للوصول إلى مدرسة أو مركز صحي أو حتى دكان فـي آخر الحارة، كانت الإجراءات الرسمية تستغرق شهورًا، والمراسلات تنتظر أسابيع، وربما شهورًا لتصل. أما اليوم، فكل ذلك بات فـي متناول اليد بلمسة زر المعلومة، والتواصل، والخدمة، والعمل، بل حتى الاستشفاء والتعليم.
وأنا على يقين أن أولئك الذين يتغنّون بتلك الأيام، لو قُدّر لهم أن يعودوا إليها بكل ما فـيها من قسوة، لما طاب لهم المقام، ولسارعوا بالحنين إلى حاضرهم بما فـيه من سعة ويسر.
ومع ذلك، قد تكون الكاتبة محقّة فـي إشارتها إلى أن هيمنة التقنية ووسائل التواصل على تفاصيل حياتنا قد أفقدتنا شيئًا من جماليات العيش. فقد صار الواقع يُرى من خلف شاشات، لا كما هو بعفويته وحرارته ومفاجآته. كل شيء بات مؤطرًا بإطار رقمي اللقاءات، المناسبات، اللحظات الخاصة، وحتى المشاعر. وهذا -دون شك - من أبرز سلبيات العصر الحديث؛ حيث أدى الاستخدام المفرط للتقنية إلى نوع من التبلد الحسي والجفاف العاطفـي، حتى صار الناس يتفاعلون أكثر مع رموز الوجوه التعبيرية مما يفعلون مع تعبيرات الوجوه الحقيقية.
وقد يكون هذا أحد الأسباب التي تدفع كثيرًا من أبناء الجيل الجديد إلى التعلق بذلك الماضي، رغم أنهم لم يعيشوه؛ فهم يرونه -من خلال ما يسمعون أو يشاهدون- زمنًا دافئًا، مليئًا بالإنسانية، نقيًّا من شوائب السرعة واللهاث الرقمي.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن الإنصاف يقتضي أن نقرّ بأن لكل زمن عيوبه كما له محاسنه. فالحياة قبل الإنترنت، وإن كانت عامرة بالعلاقات والبساطة، إلا أنها لم تكن سهلة ولا خالية من المعاناة. لذا، لا يصح أن ننظر للحاضر بعدسة سوداء ولا للماضي بعدسة وردية. فالفهم الناضج للحياة يتطلب منا أن نُبصر الجانبين معًا، ونُقدّر ما نحن فـيه، دون أن نُنكر ما فقدناه، ولا أن نُغفل ما كسبناه.