أفكار وآراء

التأمل أم التفلسف؟

لا يبدو للتمييز الذي يظهر أحيانًا بين الفلسفة والتأمل - بخاصة بين مؤيدي إحدى هذه الممارسات أو تلك - أي معنى إنه أكثر من مجرد صدى، أكثر من كونه تمفصلًا يمكن أن يربط بين هذين النشاطين، وأكثر من تعقيد حقيقي يحركهما. فإن كان بإمكان أحدهما العمل من دون الآخر، فلأنه أقل وضوحًا وأقل أهمية؛ يمكن لمزيج هذين النشاطين أن يقودك إلى طريقة جديدة للحياة: الحصول على تجربة بدلا من التنظير والتساؤل واستعادة حريتك. انسَ أحكامك على مستواك الأكاديمي في الفلسفة، وامنح نفسك بعض الوقت للتدرب!

إذا كان التأمل موجودًا على أغلفة جميع المجلات، فهل أنت متأكد من أنك تعرف ما الفلسفة أولاً؟ أو قبل كل شيء هل تفهم ما «الفلسفة»؟ «حب الحكمة» كما تُعرفه كلمة فلسفة، ليس له معنى آخر سوى مساعدتك على العيش بشكل أفضل، لتكون أفضل في وجودك. ومع ذلك، كيف يمكنك أن تفعل ذلك؟ كيف تبدأ بالفلسفة؟ هل يجب أن نركز على «الانتقادات الكنطية الثلاثة»؟ قراءة أعمال سقراط؟ هل عليك أن تتعلم أفكار الإمبراطور الرواقي الشهير أو حتى تستوعب أحدث كتب ميشيل اونفراي؟ إذا كانت بعض هذه القراءات الفلسفية قادرة على أن تكون حاسمة، فإنها لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تضمن التزامًا حقيقيًا بالحكمة والعيش الكريم. لأنه منذ البدايات، هي الممارسة، أكثر من النظرية، التي أشادت بها الفلسفة باعتبارها الطريق الحقيقي إلى التحول. فقط، التنسيق المثالي بين النظرية والتطبيق العملي، والتوازن الجيد بين الفكر والأفعال، يجعل من الممكن تقييم الصفات الحقيقية للفيلسوف. لذلك يجب عليك أن تمارس وتنفذ، وهذا يشمل ما أسماه بيير هادو «التمارين الروحية». لأنه على الرغم من كونه حاسمًا، فإن الجانب النظري، الذي يمكن أن يدعى أيضًا تأمليًا أو استطراديًا، من خلال التعاليم والخطب والمؤتمرات، ليس كافيًا. إن الانتقال إلى فعل التفلسف ممكن من خلال عدد كبير من الممارسات والتمارين، وإذا كانت القراءة والكتابة والاهتمام بالجسد والحوار جزءًا من التمارين الروحية «الكلاسيكية»، فإنها تمر عبر كل ذلك من خلال التأمل، ويمكننا حتى أن نتجادل أنه لا توجد تمارين روحية بدون تأمل.

الشيء نفسه ينطبق على التأمل. كم من مقالة كُتِبت عن ممارسته في الشركات، في المستشفيات، في المدارس... لكن ماذا يعني ذلك؟ مصطلح «التأمل» له مصدره من المصطلح اليوناني «ميليتي»، والذي يعني «الممارسة» وهدفه هو العمل على ما يريد المرء رؤيته يتحقق عنده: تحسن، تحول، تعديل الذات، بهدف العيش بشكل أفضل. إنه أيضًا هدف الاعتناء بنفسك الذي يشغل تفكيرك، وتفكيرك قبل كل شيء تجاه نفسك؛ إنها الرغبة في تقدير الذات من خلال معرفة الذات وانتقاد الذات وتحسين الذات وتحويل الذات في النهاية.

التأمل هو في الواقع أداة لتنفيذ التمارين الروحية. ويجب على الفيلسوف أن يركز، وأن يعد نفسه، وأن يتأمل فيما يرغب في العمل عليه كتمرين، ومن ثم نفهم أن ما يمكن أن نسميه «التأمل الفلسفي» ليس فقط نقطة العبور، بل أيضًا نقطة الارتكاز بين النظرية والممارسة، بين الخطاب والتجربة. ومن دون هذا العبور، تظل الفلسفة سطحية ونظرية وخطابية. التحدي المتمثل في التأمل هو جلب ما نريد أن نكون في مرحلة الوجود. إنها الانتقال من الإرادة إلى الفعل، إنها اللحظة التي لم تعد فيها الفلسفة مجرد فكرة، بل أصبحت حقيقة، أصبحت فكرة في العمل.

ربما كان شخص منّا سيئًا في الفلسفة في سنته الدراسية الأخيرة، لكن التأمل أمر بسيط للغاية. علاوة على ذلك، فإن الفلسفة والتأمل هما عالمان قريبان للغاية في نهاية المطاف عندما نذهب إلى ما هو أبعد من صورهما الكاريكاتورية.

إن التأمل هو بمثابة التشكيك في الخبرة كما هو عليه، مثل الفلسفة (على عكس التحيزات التقليدية). كلاهما لديه هذا الاهتمام بالحصول على تجربة بدلا من التواجد في تصور مفاهيمي خالص ومجرد إلى حدّ ما. ومع ذلك، من خلال الحصول على تجربة (الجلوس في صمت لمدة 10 دقائق، أو طرح الأسئلة في فصل الفلسفة، وما إلى ذلك) فإننا نفتح أنفسنا للعالم.

وكما اقترحت بعض التيارات في تاريخ الفلسفة، فإن التأمل يسمح لك أيضًا بتحرير نفسك عن طريق ترك الأمور حتى لا تتجمد أفكارك، وعواطفك، وما إلى ذلك في فئات معينة.

ومن خلال التشكيك في آليات الاغتراب من حولك وفي داخلك.

ومن خلال التشكيك في المعرفة التي تكون في بعض الأحيان فرضية للغاية من دون التحقق من صحتها بشكل كامل (العقلانية الزائفة المنتشرة في كل مكان، وثقافة الكفاءة، وما إلى ذلك).

ومن خلال التشكيك في شخصية المعلم فيما يتعلق بمعرفة العالم ومعرفة الذات لأن النقطة المرجعية الوحيدة للمتأمل هي الخبرة التي يمتلكها.

التأمل ليس أداة للرفاهية ولكنه يسمح لك، من خلال الرعاية الذاتية، باستعادة الحرية. بما أن ممارسة اليقظة الذهنية تسمح لك بمراقبة الأفكار التي تنشأ وتختفي في عقلك، يمكنك عندها أن تدرك من يفكر أحيانًا نيابةً عنك، بداخلك: ذاتك، تربيتك، ردود أفعالك، عواطفك .... وبذلك قد تستعيد الحرية التي قد تتخلى عنها في بعض الأحيان. الفلسفة منذ بدايتها هي سؤال. التأمل أيضًا: تجربة التركيز على تنفسك هي في النهاية سؤال: ما هي الحياة بالنسبة لك؟ التأمل يبقيك فضوليًا دائمًا ويفتحك على السؤال الحاسم حول المعنى. من خلال التساؤل وتركيز الاهتمام على القلق والمعاناة والظلم، يمكن للمتأمل أن يفهم كرامة الإنسان بشكل أفضل قليلاً.

إن التأمل، باعتباره تمرينًا فلسفيًا ونفسيًا وروحيًا أو مجرد تمرين للدماغ، يعني اتخاذ موقف خاص تجاه العالم: أن تكون منتبهًا، أثناء العمل، واضحًا، من دون البحث عن أي شيء. كتبت حنة أرندت: «يصبح التأمل نوعًا من الوضع المبارك للروح، حيث لم يعد العقل ينحني إلى الوراء لمعرفة الحقيقة، بل يستقبلها للحظات من خلال الحدس».

ولكن كيف يمكن التأمل بشكل ملموس وبالتالي «التفلسف» على أساس يومي؟

لا حاجة لك بتاتًا لكتاب أو نظرية: التأمل الرسمي يتلخص في الجلوس لبضع دقائق كل يوم، مع الانتباه إلى اللحظة الحالية. هذا كل ما في الأمر: بسيط، عميق، لكنه صعب للغاية.

ستكون حينها في وضع المراقب أمام أدائك العقلي، من دون إصدار أحكام، من دون تحليل. يمكنك أيضًا خلال يومك إعادة الاتصال بأنفاسك أو بأحاسيسك الجسدية لبضع ثوانٍ أو بضع دقائق.

من الواضح أن التدرب قبل دروس الفلسفة والمناقشات والقراءة الفلسفية أمر مثالي !

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان