ثقافة

عن أم الغريب وعن الحضارة أيضا

 
وحدها سينما الحمراء في يافا، بشارع جمال باشا، تكفي لإثبات أن يافا ليست فقط عربية ولكنها مزدهرة ومتطورة أيضا. سموا يافا (أم الغريب)؛ لأنها تحب الضيوف الغرباء وتستضيفهم، دون أدنى توتر هوياتي، فيصبحون بعدها يافويين. ففي عام 1937 قرر عدد من إعلاميي فلسطين وهم: محمد زكي ورضوان الحلاق ومحمد سعيد العدلوني، ومحمد موسى الحسيني أن يبنوا سينما فلسطينية حديثة في يافا، فيها كل مواصفات دور السينما في العالم، وذلك استجابة للحيوية الثقافية الفريدة لمدينة يافا التي كانت مركز إشعاع ثقافي واقتصادي وعلمي في العالم العربي، ولسد عطش أهل يافا وفلسطين عموما، للحياة الثقافية الموّارة، فقد بدأت عشرات الفرق المسرحية والموسيقية العربية أول عروضها في يافا، وعشرات الأفلام السينمائية المصرية التي اختارت يافا لتعرض فيها أولى عروض أفلامها.

وأحد أهم الأفلام المصرية التي عرضت في سينما الحمراء هو فيلم( نشيد الأمل) لأم كلثوم، وقد لاقى إقبالا واسعا بحيث لم يبق مقعد فارغ في قاعة السينما حسب ما ورد في ذكريات المؤرخ عجاج نويهض، مدير إذاعة القدس، ومن أشهر الفرق المصرية المسرحية التي كانت تعرض مسرحياتها في سينما الحمراء فرقة رمسيس بقيادة الفنان الكبير يوسف وهبي، كما قدمت الفرقة في يافا فنانين كان لهم دور كبير في ازدهار الفرقة وتطورها، مثل فاطمة رشدي وستيفان رستي، وآخرين، وقد ورد في مذكرات الكاتب حنا أبو حنا أن الناس في يافا كانوا يسمون يوسف وهبة بيوسف نهبة، دلالة على غلاء سعر تذاكر عروض فرقته.

في كتابه المهم جدا والصادر العام الماضي، (فلسطين في النهضة الموسيقية العربية - النصف الأول من القرن العشرين،) يعرض الكاتب والفنان نادر جلال سيرة حياة يافا وسينما الحمراء تحديدا في استقبال الفرق وتطوير الحياة الإبداعية، وتحت عنوان (كانوا هنا.. عروض الفنانين العرب في فلسطين، أو 'موسيقيون ومغنون عرب زاروا فلسطين) فقد ورد في الفصل السابع سردا تاريخيا دقيقا لعروض وزيارات موسيقيين ومغنين عرب إلى فلسطين، هم: بديعة مصابني، وفتحية أحمد، وسامي الشوا (أمير الكمان)، وصالح عبد الحي، ومحمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، والمطربة نادرة الشامية، ولور دكاش، وفريد الأطرش، وليلى مراد، وصباح، وسهام رفقي، وفرقة عز الدين الاستعراضية، وفرقة ناديا العريس..واختتم الكتاب بفصل ثامن تحت عنوان 'التسجيلات الأولى'، اشتمل على معلومات وتسجيلات نادرة أتيحت للقراءة بتقنية 'كيو آر'، لمن وصفهم الكاتب بـ'الجيل الأول من الموسيقيّين الروّاد'، وهم: الشيخ أحمد الشيخ (أحمد الحيفاوي)، ورجب الأكحل، وإلياس عوض، ونمر ناصر اليافاوي، ويحيى السعودي، وثريّا قدورة (كروان فلسطين)، ونوح إبراهيم.

كل هؤلاء الفنانين وكل هذه الفرق، خصّت سينما الحمراء بعروضها، انبهارا بالتقنيات الحديثة فيها ولسمعتها الجادة فنيا.

كانت سينما الحمرا تحتوي على 1100 مقعد، تراوحت أسعار بطاقات الدخول لعروض الأفلام السينمائية فيها ما بين 5 قروش للطلبة و7 قروش للمواطنين العاديين، أما أسعار بطاقات الدخول لعروض المسرحيات فكانت نصف جنيه للطلبة و3 أرباع جنيه للعموم كما يستدل من أحد الإعلانات المنشورة في جريدة الدفاع.

تعرض المبنى بعد النكبة لتطورات عديدة عملت خلاله عدة مؤسسات مختلفة من بينها مسرح محلي، وفرع لبنك 'دسكونت' الإسرائيلي ومصالح أخرى حتى تم شراء المبنى قبل عدة أعوام من قبل جماعة 'الساينتولوجي' العالمية، وهى مجموعة انشقت عن الكنائس وأنشأت تيارا دينيا جديدا.

يقول المسن الفلسطيني الذي بقي في يافا، والذي طالما حضر عروض الأفلام والموسيقى والمسرح، في سينما الحمراء أواخر الأربعينيات، (حازم مخول): إنه كان يذهب إلى (بنك دسكونت) مع أولاده، لبعض المعاملات المالية، وكان يجلس في قاعة الانتظار والدموع تسح من عينيه؛ فقد كان يتذكر حشود العرب، وكان هو واحدا منهم، وهم يتدفقون على سينما الحمراء، لحضور حفلات أم كلثوم ويوسف وهبة وأنور وجدي، وآخرين.