أفكار وآراء

كيف يتحقق الحوار العقلاني عند الاختلاف الفكري؟

لا شك أن الحوار الذي يطرحه بعض الكتاب والمثقفين في مناقشاتهم الفكرية والسياسية، في الصحافة، وفي وسائل الإعلام الأخرى، مسألة إيجابية أن يتقدم الحوار العقلاني والاختلاف الفكري، في قضايا الفكر والثقافة ويأخذ بعدًا حضاريًا وتقليدًا متقدمًا، تتبارى فيه الآراء وتتقاسم جوانب الطرح والمناقشة لملامسة واقعنا القائم دون أن يشوب الحوار التجريح أو التسطيح اللفظي، وكل يدلي برأيه ونبعد عن ارتهاننا للرأي الواحد النشاز الذي اكتوينا بسلبياته وعانينا من محدوديته في العقود الماضية.

فالحوار الموضوعي المتاح لكل الأطراف في ساحتنا الفكرية والثقافية والإعلامية، خطوة على الطريق الصحيح، الذي نتوخّاه ونعوّل عليه الكثير لوضع الأسس والمنطلقات الواقعية بعيدًا عن العواطف والاتهام الجزافي والأهواء الضيقة، وقد استوقفني منذ فترة في إحدى الصحف العربية، مناقشة بين كاتبين حول قضايا الفكر والثقافة، لكنه لفت نظري لأحد الكتاب تكرار عبارة «الفكر الماضوي» و «المثقف الماضوي» والماضوية المتسترة «وهي مصطلحات كان بودنا ألا تُطرح في قضايا الحوار والنقاش؛ لأنها تمثل عوائق للحوار السجالي وكأنها (أحكام مسبقة) غير موضوعية لإلغاء الحوار نفسه إذا ما أردنا أن نؤسس ونرسخ في الحوار جدلية عقلانية واعية مفتوحة لمناقشة أزماتنا الحضارية وتخلفنا العلمي؛ فالتخوين والتكفير في قضايا الحوار مبدأ عقيم ومقاييس متحجرة لا نرتجي منها إلا مزيدًا من الاختلاف الذي لا يحقق هدف الإصلاح والتجديد، فكيف نستطيع أن نلامس إشكاليات هذا الواقع المتأزم إذا تخلينا عن هذا المبدأ الثابت (الحوار)، والارتفاع به إلى ما هو أجدر وأقوم بالطرح المنطقي الرزين، بعيدًا عن الاصطلاح المفاهيمي الذي عفا عليه الزمن (الأحكام المسبقة)، وأصبح أسلوبًا باليًا ومنغلقًا عن عصره وراهنه، وقد جاءت هذه العبارات ردًا على ما قاله الكاتب الآخر: «إننا لا نحسب أن مرجعيتنا الدينية في ذاتها تمثل عائقًا أو مانعًا يحول بيننا وبين ولوج العصر؛ لأن الإسلام بروحه البسيطة والمتفتحة وتجرده من الكهانة الرسمية ليس فيه ما يعجز العقول والضمائر عن التحرك بكامل الحرية والمسؤولية».

وهذا القول ليس فيه ما يخرج عن المنطق والرد المقبول، ولا توجد به أية إشارة اتهام أو تستر لاتهام أحد .. ومع ذلك فإن هذا الكاتب جاء رده عنيفا: «إن المثقف الماضوي لا يستطيع أن يفهم هذا التميز فهو وإن تستر عن اتهام الآخر في دينه فإن الاستعمالات اللفظية في نصه تفضح الخلط القاسم في ذهنه بين الدين من جهة والفكر الديني باعتباره معطى بشريًا يخضع للآليات الذهنية السائدة والظروف التاريخية لتطور المعرفة».

ولا أدري كيف استساغ هذا الكاتب لنفسه أن يطلق على الفقرة التي اقتبسها من التعقيب بأن استعمالاتها اللفظية توحي بتستر لاتهام الآخر في دينه !! وأنها تخلط بين الدين والفكر الديني مع أن الإشارة واضحة ومتجردة من التستر والغموض حيث أبرز كاتب التعقيب، مفهوم الإسلام كمرجعية تجاه انطلاقة العقل والفكر والإبداع، وهي قضية أساسية، لا يستطيع أي مفكر أو باحث حتى من غير المسلمين الجادين أن ينكرها أو يقفز على بديهياتها.. بل إن الدكتور محمد أركون في كتابه «الإسلام بين الأمس والغد»، والذي استشهد به الكاتب في مقالته تلك قال ما نصه : «إن فورة الحداثة الفكرية والعلمية والتقنية في الغرب انطلاقًا من القرن السادس عشر تجد أصولها في الجهد الخلاق للفكر والعلم العربيين خلال «العصر الذهبي» بل إن الثورة الاجتماعية ذاتها وبواكير الديمقراطية قد تحققت أو دونت في القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي نهج الصحابة». ولقد أعطى المفكر الراحل محمد أركون مفهوم الإسلام ومكانته وفضله على حضارة الغرب والحداثة نفسها والديمقراطية أكثر مما أورده المعقب في تعقيبه، لكن هل يستطيع هذا الكاتب أن يشكك في نزاهة وتجرد وعدالة أركون في هذا القول ـ مع أننا نختلف مع محمد أركون في بعض أفكاره ـ كما لا أعتقد أنه سيتهمه بالماضوية المتسترة أو بالسلفية المتحجرة! ولذلك يجب أن نترفع عن النظرة الأحادية والأحكام المسبقة عند الاختلاف والتباين في الحوار.

فأركون ـ كما يعرف هذا الكاتب معروف على الساحة الفكرية بنقده الشديد للتراث الإسلامي، كما يقول هو نفسه، وربما أحيانا يكون في نقده أكثر شدة من بعض المستشرقين أنفسهم، كما قال محمد أركون والمقتبس من كتابه (الإسلام بين الأمس والغد)، قيلت في السبعينيات، وطبعت قبل هجوم المثقفين الفرنسيين عليه بسبب نقده لفكر الأنوار وموقفه من قضية سلمان رشدي آنذاك. ولذلك فإن تلك الفقرة الإيجابية التي قد يتذرع البعض بأن لها سياقا آخر ـ لم تكن متأثرة بالحملة عليه، أو بتجريحه في عدالته النقدية. إذن صاحب التعقيب لم يتجاوز حدود الحوار العقلاني في رده. قال هذا الكاتب : «إن الثقافة الذاتية «ويقصد الثقافة العربية الإسلامية، ممزوجة حتى النخاع بالتراث الإغريقي» ويضيف في فقرة أخرى أكثر تعميمًا من ذي قبل: «إذا لا يمكن الحديث عن نقاوة التراث العربي/ الإسلامي حتى في مرحلته القديمة». والغريب أن هذا الكاتب وهو يتناول هذا الموضوع، يطلق تعميمات وكأنه خارج لتوه من المشرحة أو معمل علمي تجريبي، مع أن هذه القضايا لا تجوز فيها مثل الآراء القاطعة الجازمة، وأقصد مقولته عن امتزاج الثقافة العربية الإسلامية بالتراث الإغريقي؛ لأن الكثير من هذه الأقوال خضعت للأهواء والأيدولوجيا، خاصة من بعض المستشرقين الذين حاولوا تحقير ثقافة الآخر المختلف مع الاعتراف أن بعضهم كان متجردًا وأمينًا في أبحاثه وجهوده العلمية، لكن الذي أود قوله في هذا السياق أن الفلسفة العربية الإسلامية قد تأثرت لا شك بالفلسفة اليونانية.. بل إن الفلسفة بالذات اختراع يوناني، وهذه من الحقائق التي لا تقبل المنازعة أو الاعتراض، لكننا لا نستطيع إنكار الدور الذي اضطلع به الفلاسفة المسلمون في الارتقاء بهذه الفلسفة شرحًا وإضافة، حيث تناولوها بالشرح المستفيض والمقارنة البناءة والاستيعاب الدقيق لمضامينها، ينم عن مقدرة عقلية جديرة بالاحترام، وهذا باعتراف علماء الغرب أنفسهم، وهو قول لا نحتاج إلى تكراره مرة أخرى. لكننا لا نوافقه أن العلوم الإسلامية كالأصول والفقه وعلم الكلام وعلم النحو وأصول الدين «ممزوجة بالتراث الإغريقي حتى النخاع» فهذا القول مغالطة تنقصه الأدلة سواء في نشأة هذه العلوم أو تطورها، وهناك من البراهين والوقائع ما تدحض هذا القول وتنسفه من أساسه، فهذه العلوم بالذات نشأت نشأة إسلامية خالصة، والفقه الإسلامي نضج وازدهر في الحجاز ثم في العراق في أوج ازدهار المدارس الفقهية الإسلامية المعروفة كمدرسة الحديث ومدرسة الرأي وغيرهما من العلوم الأخرى، وفوق هذا وذاك فإن الفقه الإسلامي يعتمد أساسًا على الكتاب والسنة ويمتنع كما يقول د.صوفي أبو طالب: «على الفقهاء المسلمين استعارة أي مبدأ قانوني أو قاعدة قانونية من تشريع أجنبي». أما قوله: إن «آليات القياس المعروفة مستمدة إلى حد كبير من المنطلق الإغريقي» فقول مردود، ذلك أن القياس كان معروفًا عند العرب، وسابقًا على الاتصال بالثقافة والفلسفة الإغريقية، والأدلة في هذا المضمار كثيرة، منها كتاب الخليفة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، فالقياس كان معروفا وشائعا في الحضارات السامية وعند العرب قبل الإسلام، لكن الفقهاء المسلمين بحق أضافوا إلى منطلقاته المنطقية الشيء الكثير.

أما علوم النحو وغيرها من علوم اللغة والأدب، فربما لا تحتاج إلى مناقشة على قول هذا الكاتب بتأثر هذه العلوم بالتراث الإغريقي، فالنحو بالذات صناعة عربية خالصة، وقد أنشئ لحماية اللسان العربي من التحريف بعد الاحتكاك بالشعوب والحضارات الأخرى، ويعد أبو الأسود الدؤلي هو من اشتغل بالنحو في البصرة، ويقال إنه تلقى هذا العلم على يد الإمام علي بن أبي طالب (رَضي الله عنه)، وكنتيجة منطقية برز عن هذا الجهد المبدع نشأة الإعراب ووضع قواعده ثم استكمل علماء اللغة مثل أبي إسحاق الحضرمي ثم الخليل بن أحمد الفراهيدي وغيرهم هذا العلم ووسعوا الكثير من المسائل والقواعد. وأرى أن ثمة رؤية مختزلة أرادها هذا الكاتب أن تكون بعيدة عن الحوار أو على الأصح تحجب عنه، وهذا يبرز في قوله: «فحالما يوظف المثقف الحداثي النظرة الخطية للمصير البشري باسم المعاصرة يقفز المثقف الماضوي على الفرصة ليطعن أولًا في هذا التوظيف باسم الإحالة ثم يكرره بطريقة ملتوية ليدافع عن مرجعيته الخاصة بعد ذلك».

لن أناقش مسألة «الثنائيات الساذجة» التي كررها كثيرا الكاتب الجامعي مثل «المثقف الحداثي» و «المثقف الماضوي»، لكنني أعتقد أن الخوف من المصارحة والمناقشة الجادة في النقاشات الحوارية والتذرع أن بعض الآراء إذا قيلت قد يستغلها أحد الأطراف ضد الآخر، تصور في غير محله. فحاجتنا إلى الحوار الصادق المبني على حقائق الأمور وعقلانية النقاش لا يجب أن نستبدله «بالأطياف الخادعة» والمقولات الواهمة فطرح كل الآراء وبسطها للنقاش مطلب أساسي في راهنا العربي، فبدون هذه الأسس لا نستطيع أن نتقدم خطوة أو خطوات إلى الإمام، فالقضية الأهم في هذا السجال القائم ليس استغلال الثغرات وتتبع الثقوب، لكن الهدف الذي يجب وضعه، هو كيف نسد هذه الثغرات ونردم الثقوب ؟هذا لا يتأتى إلا بالحوار العقلاني الصادق بعيدا عن التعتيم والتجريم والأحكام المسبقة.