وحش أمريكا ..كيف دعمت الولايات المتحدة عمليات الاختطاف والتعذيب والقتل في أفغانستان؟ (2ـ 2)
تحقيق استقصائي
الاحد / 17 / ذو القعدة / 1445 هـ - 19:56 - الاحد 26 مايو 2024 19:56
الحرب الأخرى
لم تكن حالات الاختفاء جديدة في قندهار، وهي المنطقة التي مزقتها الحرب لأكثر من أربعة عقود. حتى إنّ عبد الرازق نفسه فقد أحدا من أقربائه.
كان والده سائقا، وكثيرا ما كان يسافر إلى الحدود مع باكستان. وفي أحد الأيام، عندما كان عبد الرازق صبيا، اختفى والده في إحدى رحلاته العادية في الصحراء الشاسعة.
وألقت عائلته المنتمية إلى قبيلة أشاكزاي، باللوم على منافسيهم القدامى قبيلة نورزاي. ظلّت القبيلتان عالقتيـنِ في نزاع مميت امتد عقودا من الزمن، قبل وصول طالبان إلى السلطة بفترة طويلة.
يقول تادين خان، الأخ الأصغر لعبد الرازق، لصحيفة التايمز: 'قُتل أخي لأنه من قبيلة أشاكزاي. لقد اختفى جسده'.
نَفّذ عبد الرازق حملة الاختفاء القسري الأكثر وحشية في بلاده منذ عقود، وكثيرا ما استهدفت هذه الحملة القبيلة المنافسة، قبيلة نورزاي، التي كان العديد من أفرادها يدعم حركة طالبان.
وهذا أمر لم يستطع الأميركيون فهمه واستيعابه، فالتركيبة القبلية والعائلية، وليس مجرد الكراهية لطالبان، هي التي حركت الاندفاع نحو الحرب عند عبد الرازق. في الواقع، كان سكان معظم القرى التي استدعى فيها عبد الرازق الناس وقتل السجينينِ أمامهم ثم هدد المتفرجين، كان معظمهم من قبيلة نورزاي.
يقول حاج دلبار، الذي كان موجودا ضمن الحشد الذي جمعه عبدالرازق ليشهد عمليات القتل: 'لقد قتلهم مثل الكلاب'.
وكما يقول أصدقاؤه، حمل عبد الرازق السلاح لأول مرة عندما كان مراهقا، وكان يقاتل تحت قيادة عمه خلال الحرب الأهلية التي جاءت بعد انهيار الحكومة المدعومة من السوفييت. وفي عام 1994، قُتل عمه على يد حركة طالبان، حيث عُلِّقت جثته في فوهة دبابة.
وعندما بدأ الغزو الأمريكي في عام 2001، بدأ عبدالرازق القتال إلى جانب الأمريكان، وانضم إلى ميليشيا مسلّحة لطرد طالبان من قندهار. بعد ذلك، أصبحت تلك الميليشيا نفسها هي شرطة الحدود تحت قيادة عبدالرازق، الذي كان لا يزال في العشرينات من عمره في ذلك الوقت.
كان أميا إلى حد كبير، وقد عوض ذلك بذكائه وجاذبيته، وميز نفسه كمقاتل شجاع يعرف الصحاري الممتدة على جانبي الحدود، كما فعل والده.
وبحلول عام 2010، مع سيطرة طالبان على الأرض في جميع أنحاء الجنوب، تمكن عبدالرازق من صد المتمردين في المناطق المحيطة بمنطقته الأصلية، والتي تسمى سبين بولداك. عرف القادة الأميركيون أنه فاسد، وكان يدير أعمالا تجارية احتيالية عبر الحدود على غرار المافيا. كان يشتبه في تورطه في تجارة الخشخاش.
كما أن مزاعم القتل خارج نطاق القانون طاردت عبدالرازق لسنوات، ويرجع تاريخها إلى الأيام الأولى للحكومة المدعومة من الولايات المتحدة. يقول شيوخ قبيلة نورزاي إنهم اشتكوا من جرائم القتل إلى المسؤولين العسكريين الأمريكيين، لكنهم تجاهلوها.
يقول اللفتنانت كولونيل أندرو جرين، الذي عمل بشكل وثيق مع عبدالرازق في عامي 2010 و2011، إن تأكيد هذه المزاعم كان مستحيلا لأن الأحداث وقعت في عمق أراضي طالبان.
علاوة على ذلك، يقول جرين إنه لم يكن هناك تطبيق كامل للقانون في أفغانستان، فالمحاكم كانت فاسدة، وكان بمقدور معظم الناس دفع أموال مقابل خروجهم من السجن، مما لم يترك للشرطة سوى خيارات قليلة.
وأضاف: 'في أفغانستان، تطلق الشرطة النار على الناس. وعلى الرغم من أنك لا تستطيع أن تقول إنه أمر جيد، إلا أنّ ذلك ما كانت تقوم به الشرطة'.
انتشرت المخاوف بشأن عبدالرازق، إذ وثق تقرير لوزارة الخارجية حادثة عام 2006 أعدم فيها 16 رجلا اتهمهم بالانتماء إلى حركة طالبان. وفي عام 2009، اتهمته لجنة حقوق الإنسان الأفغانية بالتعذيب والاحتفاظ بسجون خاصة.
وأصبح ما يسمى بزيادة الحملة العسكريّة نقطة تحول رئيسية بالنسبة له. وفي عام 2009، أعلن الرئيس باراك أوباما، أنه سيرسل آلاف القوات الإضافية إلى أفغانستان، مع التركيز على إقليمي قندهار وهيلماند، وهما معقلان لطالبان، على أمل التغلب على الحركة الصاعدة.
أراد الأميركيون شريكا لا يخشى مواجهة طالبان وجها لوجه، مثل عبدالرازق. ومع ذلك، كانوا يناقشون أيضا ما يجب فعله بشأن 'الجهات السيئة' التي قوضت شرعية الحكومة الأفغانية، مثل عبدالرازق.
يقول جرين، الضابط الأمريكي الذي حقق مع عبدالرازق في قضايا أخرى، بما في ذلك الكسب غير المشروع: 'كانت هناك الكثير من المحادثات حول ما إذا كان ينبغي علينا إرشاد عبدالرازق أو سجنه'.
لقد اختار الأمريكان الخيار الأول، فقد كانوا في حاجة إلى خدماته.
بعد اغتيال قائد شرطة قندهار عام 2011، تم تعيين عبدالرازق مكانه، فأصبح جنرالا، فعين قادة من قبيلة أشاكزاي في مناصب رئيسية في قندهار.
وقد أطلق محققو الأمم المتحدة على أربعة منهم لقب 'الفرسان الأربعة'، ثلاثة منهم من أقاربه، بسبب مزاعم التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء العديدة ضدهم. وكان أحدهم، وهو أحد أفراد عائلة عبدالرازق، مسؤولا عن تنظيم فرق الموت، بحسب ضباط الشرطة الذين عملوا معه. لقد جاب رجاله المدينة بسيارات لا تحمل أية لوحات مُرتدِين ملابس مدنية.
يقول ضباط ومسؤولون سابقون إن عبدالرازق كان يعدّ المحاكم فاسدة، لذلك كان يأمر قادته بقتل المشتبه بهم من طالبان، ويطرد أولئك الذين يرفضون قتل الأسرى.
أحد رؤساء منطقة المدينة السابقين، الذي اشترط، مثل البعض الكثيرين، عدم الكشف عن هويته خوفا من الانتقام ذكر أن عبدالرازق كان يقول له: 'لماذا تحضر أعضاء طالبان إلى المجمع؟ لماذا لا تقتلهم؟ ما الذي تخاف منه؟'
ووفقا لضباط شرطة سابقين وتقارير داخلية للأمم المتحدة كان عبدالرازق يأمر بأخذ الضحايا في 'نزهة على الرمال' وإلقائهم في مناطق نائية، أو أسفل الآبار، أو حيث تغطيهم رمال الصحراء المتحركة.
يقول أحد كبار ضباط الشرطة إنه قدم شكوى إلى عبدالرازق بشأن العثور على جثث ملقاة في منطقته.
قلت له: 'إنهم في منطقتي، وسوف يلقى باللوم علي'. ثم يذكر أن عبدالرازق كان يضحك قبل أن يطلب من رجاله أن يكونوا أكثر حذرا مستقبلا.
أشار تقرير للأمم المتحدة صدر عام 2013 إلى ارتفاع عدد الجثث مجهولة الهوية، وبعضها كان لا يزال مقيد الأيدي، ملقاة في مدينة قندهار، وعشرات من حالات الاختفاء المبلغ عنها، مشيرا إلى 'تزايد مستوى الوحشية' والتعذيب في عهد عبدالرازق.
وفي غضون شهرين من تعيينه رئيسا للشرطة، توقف الأميركيون عن نقل المعتقلين إلى قوات الأمن الأفغانية في قندهار بسبب التقارير عن الانتهاكات والإعدامات.
قال ألين، الجنرال الأمريكي: 'لقد حصلت على معلومات عن الرجل. كان الأمر مروعا للغاية'.
ومع ذلك، استمر الدعم الأمريكي في التدفق إلى عبدالرازق، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة بين الضباط الأمريكيين ويعد عنصرا حيويا لكسب الحرب.
وبينما كان العقيد بيل كارتي، قائد القوات الخاصة الأمريكية في قندهار، يزور عبدالرازق في عام 2012، وقع هجوم انتحاري. ألقى كارتي بنفسه على رأس عبدالرازق لحمايته، ثم أعطى عبدالرازق درعه الواقي من الرصاص ليرتديه، وفقا لما ذكره كارتي في كتابه 'مائة انتصار'، وأكده لصحيفة تايمز.
بعدها سأله عبدالرازق: 'لماذا أعطيتني سترتك؟'. أجابه كارتي: 'هناك الآلاف مني، ولكن هناك واحد فقط منكم، مشددا على أهمية دور عبدالرازق كرئيس للشرطة.
ضيوف الجنرال
وفي مقره، استقبل الجنرال عبدالرازق فضل وأفراد الأسرة الآخرين بملابسه المدنية البيضاء. ولأنه لا يستطيع القراءة، قرأ سكرتيره بصوت عالٍ الأسماء الموجودة في القائمة التي قدمها له فضل.
لم يكن الحصول على ذلك الاجتماع مع الجنرال بالأمر السهل. بحلول ذلك الوقت، كانت حركة طالبان قد قامت بمحاولات عديدة لاغتيال الجنرال لدرجة أنه قال مازحا لأصدقائه إنه لم يتمكن من إحصاء عدد القتلى في تلك المحاولات.
رغم كل ما قيل، كان عبدالرازق شخصية مهذبة، كما ينقل ذلك العديد من الحاضرين للاجتماع، وسمح لكل منهم بالتعبير عن رأيه. وعندما انتهى الجميع، تحدث الجنرال.
ينقل الحاضرون قوله إنه لا يثق بالمحاكم، وأن القضاة أطلقوا سراح مجرمين، وأن المدعين العامين لا تأثير لهم، وأن العدالة كان يمكن شراؤها دائما مقابل ثمن معين، لذلك فضل أن يقيم العدالة بنفسه.
وتحدث إلى عدد قليل من أفراد الأسرة مباشرة، بما في ذلك شاه محمد، الذي كان شقيقه نِداء ضمن قائمة فضل. أخبره الجنرال أن نداء متورط في قتل ضباط شرطة، وهو اتهام لم يصدقه؛ إذ كان نداء يبيع الخضار على عربة يدوية في السوق.
وقبل انتهاء الاجتماع، توجه الجنرال إلى سيما، التي اختفى ابنها بالتبني داؤود قبل أشهر. وقال الجنرال دون توضيح أنه سيعيده. ولم يمض وقت طويل حتى أطلق سراح داؤود.
بعد الخروج، أخبر داؤود العائلات كيف احتُجز في زنزانة مظلمة لعدة أشهر في موقع احتجاز غير رسمي. لقد تعرض للضرب والإساءة بانتظام، حتى بعد تدخل الجنرال. ثم نقل إلى سجن رسمي قبل إطلاق سراحه. وأخبر الآخرين أنه لم ير أيا من أقربائهم.
ومع ذلك، غمرت موجة أمل مؤلمة وجوه العائلات. بدأوا يحلمون بأن أطفالهم ربما لا يزالون على قيد الحياة. ولكن هذه هي معضلة وجود الأمل مع عدم المعرفة: فبدون معرفة ما إذا كان الشخص قد مات أم لا، لن يتمكن أحباؤه أبدا من الحداد عليه بشكل مناسب.
بالنسبة للجناة، فإن حالات الاختفاء لها منطق محزن، فبالرغم من أنها قد تشكل جرائم ضد الإنسانية، إلا أنه بدون وجود جثة، هناك شح في الأدلة، خاصة عندما يختطف شخص ما دون شهود أو على يد ضباط يرتدون ملابس مدنية وسيارات مدنية.
ومع ذلك، أحدثت حالات الاختفاء جراحات ومشاكل فريدة للعديد من الأفغان. في كثير من الأحيان، قيل للزوجات إنه لا يمكنهن الزواج مرة أخرى حتى يتم إثبات وفاة أزواجهن. وقد تُركت بعض ممن لديهن أطفال صغار غير قادرات على إعالة أنفسهم.
يقول سيد عبد الكريم، والد أحد الشباب المدرجين في قائمة فضل: 'ما فعله الجنرال عبد الرازق من قتل واختفاء كان أسوأ من كل ما حدث في بقية أنحاء أفغانستان. أتمنى أن نتمكن من دفن عظام ابني في مكان ما، فلو كان لدينا قبرا له، لكان بإمكاننا الذهاب إليه والدعاء له'.
إن المآسي تولد مآسٍ أخرى، مثل ما فعله بعض المحتالين للاستفادة من حالة اليأس التي يعيشها الآباء والأمهات، فقد وقع فضل ووالدته ضحية لعملية احتيال، حيث سافرا إلى كابول لدفع عدة آلاف من الدولارات لمسؤول استخباراتي مقابل عودة أخيه أحمد، وهي رحلة كادت أن تنتهي باختطاف فضل نفسه. ودفع آخرون مبالغ أكثر.
وقررت بعض العائلات أن تجمع بينها وبين أصحاب المآسي الآخرين، حيث تزوجت بنت عم فضل من ابن سائق عربة اليد المفقود، صلاح الدين.
لقد غاب لفترة طويلة حتى أصبح ابنه في ذلك الوقت في سن الزواج.
صعود المتمردين
جاءت الصدمة في 18 أكتوبر 2018 عندما قُتل عبدالرازق برصاص أحد مقاتلي طالبان الذين اخترقوا حرس الحاكم. لقد علت صرخات طالبان.
استعمل مقاتلو طالبان منذ فترة طويلة وحشية عبدالرازق ذريعة لتجنيد المقاتلين وإثارة الغضب عن طريق عرض مقاطع فيديو ومنشورات توضح انتهاكاته.
لكن موته سمح للمتمردين بإظهار قدرتهم على الوصول إلى جميع الجنرالات حتى أولئك المحاطين بحماية كبيرة، وهو القائد الذي كان يسير على بعد خطوات قليلة من ميلر، القائد الأمريكي الأعلى في أفغانستان، وقت وفاته.
وقالت طالبان إنها فضلت استهداف عبدالرازق أكثر من أي شخص آخر في الاجتماع، بما في ذلك الجنرال الأمريكي ذو الأربع نجوم، الذي نجا من الإصابة.
وقال مولوي أبرار أحمد حبيب، أحد قادة طالبان الذي أشرف على الاغتيالات في قندهار خلال تلك السنوات: «لقد كان أكثر أهمية بالنسبة لنا من سكوت ميلر'.
كان فضل والآخرون يأملون أن تتغير الأمور بوفاة عبدالرازق. ولكن لم يتغير شيء.
تولى تادين، شقيق عبدالرازق، منصب قائد شرطة قندهار. وقال لصحيفة التايمز إنه لا هو ولا شقيقه شنوا حملات اختفاء قسري. وقال المسؤولون إن تادين ببساطة واصل اتباع النظام الذي بناه شقيقه.
عندما بدأت الحرب، تصور فضل والآخرون أن الأميركيين سيجلبون الاستثمار والفرص. لقد تصوروا وظائف جيدة ومنازل أفضل ورخاء. لكن آمالهم وحسن نيتهم تبخرت بسرعة مع اختفاء أقربائهم.
وقال السكان إنهم لم يكونوا يشجعون حركة طالبان حبا فيها؛ ولكن كرها في الحكومة الأفغانية والأميركيين الذين دعموها.
وكان هذا التراجع في الدعم، ليس فقط بين عائلات المفقودين، ولكن أيضا بين العديد من الأفغان الذين خاب أملهم بسبب الفساد الكبير والانتهاكات غير المبررة للأمريكيين وشركائهم الأفغان، كان جزءا من انهيار قندهار، كما كان الحال في أي مكان آخر من البلاد.
لقد انتشرت ظاهرة الإفلات من العقاب والإجرام التي عززها عبدالرازق بعد وفاته، فتآكلت قندهار من الداخل. ومع تزايد قوة طالبان، أدت سرقة الأجور والإمدادات داخل القوات الحكومية إلى تدمير الروح المعنوية، كما فعل الاقتتال الداخلي بين قادته، مما أدى إلى شل قدرتهم على القتال.
كانت مجموعة فضل تدعو الله من أجل انتصار المتمردين، وتشبثت بالأمل في أنه بمجرد الإطاحة بالحكومة، قد يكتشفون ما حدث لأقاربهم.
وبمجرد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وانهيار الحكومة الأفغانية عام 2021، انتقلت حركة طالبان من سجن إلى سجن، وأفرغت الزنازين.
وتدفق آلاف الأشخاص من مختلف أنحاء الإقليم إلى مدينة قندهار. وسمع فضل أنه تم إخراج مئات السجناء من قبو مقر الشرطة. وتجمعت حشود ضخمة خارج مجمع المحافظ، وتدافعت لإلقاء نظرة على الخارجين.
وانضم إليهم فضل، مسرعا في وسط المدينة، للبحث في المرافق العامة. ولم يحالفه الحظ في مدينة قندهار، فنزل هو وآخرون إلى منطقة سبين بولداك، حيث كانت بداية صعود عبدالرازق. وانتظر المئات هناك أيضا، لمراقبة الحشود بحثا عن أحبائهم المفقودين. وأحصى فضل الأشخاص الذين حُرِّروا من مراكز الاحتجاز غير الرسمية، لكنّ أخاه لم يكن واحدا منهم.
كان روح الله أخونزاده جزءا من مجموعة فضل، يبحث عن شقيقه في سجن في الطابق السفلي، حيث كانت السقوف الرطبة المنخفضة مؤشرا مروعا لما تحمله الأفغان من مآسٍ هناك، لكن لم يجد له أي أثر.
وقال: 'ما زلنا لا نعرف'.
وبعد أن بحث فضل رحيم، وهو من مجموعة فضل، عن أخيه في كل مكان، اقترب من مقاتلي طالبان ليسأل عن أخبار أخيه، فأخبروه أن جميع السجون قد أفرغت وأن كل من لا يزال على قيد الحياة موجود بالفعل مع عائلاته.
انجرفت الحشود على أمل العثور على مكان آخر يمكن لأقربائهم أن يوجدوا فيه. وتوجه العديد منهم إلى محطة الحافلات المزدحمة في مدينة قندهار للبحث بين السجناء العائدين من قاعدة باغرام الجوية، حيث كان الأميركيون، وثم الأفغان، يحتفظون بآلاف المعتقلين.
ارتفع مستوى الإلحاح واليأس مثل ارتفاع درجة حرارة الحمى عندما لم يعثر على شقيق فضل.
إرث تم تجاهله
منذ انهيار الحكومة الأفغانية، ظهرت مقابر جماعية في قندهار، مما دفع أقاربهم الذين يذهبون إلى المواقع الصحراوية ومشارح المستشفيات، أو يتبادلون صورا لبقايا الهياكل العظمية، لإجراء عمليات بحث متجددة. لكن لا يوجد بحث منظم عن المفقودين في قندهار.
وبعد سنوات من الضغط من الولايات المتحدة، قال ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية إنهم يقللون من أولوية التحقيقات في الانتهاكات التي ترتكبها القوات المدعومة من الولايات المتحدة. وركزت الأمم المتحدة على الانتهاكات التي ارتكبتها حكومة طالبان الجديدة، واتهمتها بحملة من عمليات القتل والتعذيب خارج نطاق القانون.
رفعت صحيفة التايمز دعوى قضائية ضد الحكومة الأمريكية بسبب ملفاتها عن عبدالرازق. وبعد مرور ما يقرب من عام، لم يقم الجيش ووزارة الخارجية بتسليم سوى عدد قليل من الوثائق. لم يكن سوى عدد قليل من القادة العسكريين في تلك الحقبة مهتمين بإعادة النظر في إرث عبد الرازق، وما يكشفه ذلك الإرث عن المجهود الحربي الأمريكي.
قال ألين، الجنرال الأمريكي: 'إن السبب وراء حركات التمرد هو الظلم، وكان عبدالرازق يمثل أسوأ هذا الظلم'. وأضاف: «لقد صنع عبدالرازق الظلم نفسه الذي أعطى طالبان تفوقها علينا'.
لإحياء ذكرى عبدالرازق، بدأت الحكومة الأفغانية السابقة في بناء ضريح له، وهو هيكل عملاق يشبه المسجد بجوار قصر الحاكم، وهو نصب تذكاري مناسب لبطل قومي. وينظر إليه كثيرون بهذه الطريقة، باعتباره بطلا لأولئك الذين يعارضون طالبان.
وبدلا من تدميره، قامت طالبان بتطويق الصرح بجدران خرسانية، حرصا على عدم استعداء قطاع كبير من السكان الذين ما زالوا يقدسون الجنرال. يمنع الوصول إليه لكن يمكن رؤيته، فقبته ومآذنه تطل من فوق الحاجز.
لا توجد آثار للمفقودين، فمن بين 17 شخصا في قائمة فضل الأصلية، ثلاثة فقط عادوا إلى أهلهم أحياء.
تقول مليكة، والدة فضل وأحمد: 'لا يزال لدي أمل في عودته، على الرغم من أنني أعرف أنه ربما يكون قد مات، فدموعي لم تجف منذ اختفائه'.
*ساهم عبد نافع وشير علي فرهاد في إعداد التقارير من قندهار. من إنتاج شون كاتانغي وليو دومينغيز ورومسي تايلور.
** عزام أحمد مراسل التحقيقات الدولية لصحيفة التايمز. وقد كتب عن فضائح وول ستريت، والحرب في أفغانستان، والعنف والفساد في المكسيك وأمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي.
** ماثيو أيكينز كاتب مساهم في مجلة نيويورك تايمز، ويغطي منذ عام 2008 الصراعات في أفغانستان والشرق الأوسط، والعمليات العسكرية الأمريكية في الخارج، والهجرة القسرية، والصراع على حقوق الإنسان. حصل عمله على جائزة المجلة الوطنية وجائزة بولك وجائزة ليفينغستُن. لقد كان جزءا من فريق نيويورك تايمز الذي فاز بجائزة بوليتزر لعام 2022 للتقارير الدولية عن التحقيق في الضحايا المدنيين من الغارات الجوية الأمريكية. كما فاز مقطع الفيديو الذي أنتجه لهذا المشروع بجائزتي إيمي. يحكي كتابه الأول 'العراة لا يخشون الماء' قصة رحلة سرية إلى أوروبا مع اللاجئين الأفغان.
*** خدمة نيويورك تايمز
لم تكن حالات الاختفاء جديدة في قندهار، وهي المنطقة التي مزقتها الحرب لأكثر من أربعة عقود. حتى إنّ عبد الرازق نفسه فقد أحدا من أقربائه.
كان والده سائقا، وكثيرا ما كان يسافر إلى الحدود مع باكستان. وفي أحد الأيام، عندما كان عبد الرازق صبيا، اختفى والده في إحدى رحلاته العادية في الصحراء الشاسعة.
وألقت عائلته المنتمية إلى قبيلة أشاكزاي، باللوم على منافسيهم القدامى قبيلة نورزاي. ظلّت القبيلتان عالقتيـنِ في نزاع مميت امتد عقودا من الزمن، قبل وصول طالبان إلى السلطة بفترة طويلة.
يقول تادين خان، الأخ الأصغر لعبد الرازق، لصحيفة التايمز: 'قُتل أخي لأنه من قبيلة أشاكزاي. لقد اختفى جسده'.
نَفّذ عبد الرازق حملة الاختفاء القسري الأكثر وحشية في بلاده منذ عقود، وكثيرا ما استهدفت هذه الحملة القبيلة المنافسة، قبيلة نورزاي، التي كان العديد من أفرادها يدعم حركة طالبان.
وهذا أمر لم يستطع الأميركيون فهمه واستيعابه، فالتركيبة القبلية والعائلية، وليس مجرد الكراهية لطالبان، هي التي حركت الاندفاع نحو الحرب عند عبد الرازق. في الواقع، كان سكان معظم القرى التي استدعى فيها عبد الرازق الناس وقتل السجينينِ أمامهم ثم هدد المتفرجين، كان معظمهم من قبيلة نورزاي.
يقول حاج دلبار، الذي كان موجودا ضمن الحشد الذي جمعه عبدالرازق ليشهد عمليات القتل: 'لقد قتلهم مثل الكلاب'.
وكما يقول أصدقاؤه، حمل عبد الرازق السلاح لأول مرة عندما كان مراهقا، وكان يقاتل تحت قيادة عمه خلال الحرب الأهلية التي جاءت بعد انهيار الحكومة المدعومة من السوفييت. وفي عام 1994، قُتل عمه على يد حركة طالبان، حيث عُلِّقت جثته في فوهة دبابة.
وعندما بدأ الغزو الأمريكي في عام 2001، بدأ عبدالرازق القتال إلى جانب الأمريكان، وانضم إلى ميليشيا مسلّحة لطرد طالبان من قندهار. بعد ذلك، أصبحت تلك الميليشيا نفسها هي شرطة الحدود تحت قيادة عبدالرازق، الذي كان لا يزال في العشرينات من عمره في ذلك الوقت.
كان أميا إلى حد كبير، وقد عوض ذلك بذكائه وجاذبيته، وميز نفسه كمقاتل شجاع يعرف الصحاري الممتدة على جانبي الحدود، كما فعل والده.
وبحلول عام 2010، مع سيطرة طالبان على الأرض في جميع أنحاء الجنوب، تمكن عبدالرازق من صد المتمردين في المناطق المحيطة بمنطقته الأصلية، والتي تسمى سبين بولداك. عرف القادة الأميركيون أنه فاسد، وكان يدير أعمالا تجارية احتيالية عبر الحدود على غرار المافيا. كان يشتبه في تورطه في تجارة الخشخاش.
كما أن مزاعم القتل خارج نطاق القانون طاردت عبدالرازق لسنوات، ويرجع تاريخها إلى الأيام الأولى للحكومة المدعومة من الولايات المتحدة. يقول شيوخ قبيلة نورزاي إنهم اشتكوا من جرائم القتل إلى المسؤولين العسكريين الأمريكيين، لكنهم تجاهلوها.
يقول اللفتنانت كولونيل أندرو جرين، الذي عمل بشكل وثيق مع عبدالرازق في عامي 2010 و2011، إن تأكيد هذه المزاعم كان مستحيلا لأن الأحداث وقعت في عمق أراضي طالبان.
علاوة على ذلك، يقول جرين إنه لم يكن هناك تطبيق كامل للقانون في أفغانستان، فالمحاكم كانت فاسدة، وكان بمقدور معظم الناس دفع أموال مقابل خروجهم من السجن، مما لم يترك للشرطة سوى خيارات قليلة.
وأضاف: 'في أفغانستان، تطلق الشرطة النار على الناس. وعلى الرغم من أنك لا تستطيع أن تقول إنه أمر جيد، إلا أنّ ذلك ما كانت تقوم به الشرطة'.
انتشرت المخاوف بشأن عبدالرازق، إذ وثق تقرير لوزارة الخارجية حادثة عام 2006 أعدم فيها 16 رجلا اتهمهم بالانتماء إلى حركة طالبان. وفي عام 2009، اتهمته لجنة حقوق الإنسان الأفغانية بالتعذيب والاحتفاظ بسجون خاصة.
وأصبح ما يسمى بزيادة الحملة العسكريّة نقطة تحول رئيسية بالنسبة له. وفي عام 2009، أعلن الرئيس باراك أوباما، أنه سيرسل آلاف القوات الإضافية إلى أفغانستان، مع التركيز على إقليمي قندهار وهيلماند، وهما معقلان لطالبان، على أمل التغلب على الحركة الصاعدة.
أراد الأميركيون شريكا لا يخشى مواجهة طالبان وجها لوجه، مثل عبدالرازق. ومع ذلك، كانوا يناقشون أيضا ما يجب فعله بشأن 'الجهات السيئة' التي قوضت شرعية الحكومة الأفغانية، مثل عبدالرازق.
يقول جرين، الضابط الأمريكي الذي حقق مع عبدالرازق في قضايا أخرى، بما في ذلك الكسب غير المشروع: 'كانت هناك الكثير من المحادثات حول ما إذا كان ينبغي علينا إرشاد عبدالرازق أو سجنه'.
لقد اختار الأمريكان الخيار الأول، فقد كانوا في حاجة إلى خدماته.
بعد اغتيال قائد شرطة قندهار عام 2011، تم تعيين عبدالرازق مكانه، فأصبح جنرالا، فعين قادة من قبيلة أشاكزاي في مناصب رئيسية في قندهار.
وقد أطلق محققو الأمم المتحدة على أربعة منهم لقب 'الفرسان الأربعة'، ثلاثة منهم من أقاربه، بسبب مزاعم التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء العديدة ضدهم. وكان أحدهم، وهو أحد أفراد عائلة عبدالرازق، مسؤولا عن تنظيم فرق الموت، بحسب ضباط الشرطة الذين عملوا معه. لقد جاب رجاله المدينة بسيارات لا تحمل أية لوحات مُرتدِين ملابس مدنية.
يقول ضباط ومسؤولون سابقون إن عبدالرازق كان يعدّ المحاكم فاسدة، لذلك كان يأمر قادته بقتل المشتبه بهم من طالبان، ويطرد أولئك الذين يرفضون قتل الأسرى.
أحد رؤساء منطقة المدينة السابقين، الذي اشترط، مثل البعض الكثيرين، عدم الكشف عن هويته خوفا من الانتقام ذكر أن عبدالرازق كان يقول له: 'لماذا تحضر أعضاء طالبان إلى المجمع؟ لماذا لا تقتلهم؟ ما الذي تخاف منه؟'
ووفقا لضباط شرطة سابقين وتقارير داخلية للأمم المتحدة كان عبدالرازق يأمر بأخذ الضحايا في 'نزهة على الرمال' وإلقائهم في مناطق نائية، أو أسفل الآبار، أو حيث تغطيهم رمال الصحراء المتحركة.
يقول أحد كبار ضباط الشرطة إنه قدم شكوى إلى عبدالرازق بشأن العثور على جثث ملقاة في منطقته.
قلت له: 'إنهم في منطقتي، وسوف يلقى باللوم علي'. ثم يذكر أن عبدالرازق كان يضحك قبل أن يطلب من رجاله أن يكونوا أكثر حذرا مستقبلا.
أشار تقرير للأمم المتحدة صدر عام 2013 إلى ارتفاع عدد الجثث مجهولة الهوية، وبعضها كان لا يزال مقيد الأيدي، ملقاة في مدينة قندهار، وعشرات من حالات الاختفاء المبلغ عنها، مشيرا إلى 'تزايد مستوى الوحشية' والتعذيب في عهد عبدالرازق.
وفي غضون شهرين من تعيينه رئيسا للشرطة، توقف الأميركيون عن نقل المعتقلين إلى قوات الأمن الأفغانية في قندهار بسبب التقارير عن الانتهاكات والإعدامات.
قال ألين، الجنرال الأمريكي: 'لقد حصلت على معلومات عن الرجل. كان الأمر مروعا للغاية'.
ومع ذلك، استمر الدعم الأمريكي في التدفق إلى عبدالرازق، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة بين الضباط الأمريكيين ويعد عنصرا حيويا لكسب الحرب.
وبينما كان العقيد بيل كارتي، قائد القوات الخاصة الأمريكية في قندهار، يزور عبدالرازق في عام 2012، وقع هجوم انتحاري. ألقى كارتي بنفسه على رأس عبدالرازق لحمايته، ثم أعطى عبدالرازق درعه الواقي من الرصاص ليرتديه، وفقا لما ذكره كارتي في كتابه 'مائة انتصار'، وأكده لصحيفة تايمز.
بعدها سأله عبدالرازق: 'لماذا أعطيتني سترتك؟'. أجابه كارتي: 'هناك الآلاف مني، ولكن هناك واحد فقط منكم، مشددا على أهمية دور عبدالرازق كرئيس للشرطة.
ضيوف الجنرال
وفي مقره، استقبل الجنرال عبدالرازق فضل وأفراد الأسرة الآخرين بملابسه المدنية البيضاء. ولأنه لا يستطيع القراءة، قرأ سكرتيره بصوت عالٍ الأسماء الموجودة في القائمة التي قدمها له فضل.
لم يكن الحصول على ذلك الاجتماع مع الجنرال بالأمر السهل. بحلول ذلك الوقت، كانت حركة طالبان قد قامت بمحاولات عديدة لاغتيال الجنرال لدرجة أنه قال مازحا لأصدقائه إنه لم يتمكن من إحصاء عدد القتلى في تلك المحاولات.
رغم كل ما قيل، كان عبدالرازق شخصية مهذبة، كما ينقل ذلك العديد من الحاضرين للاجتماع، وسمح لكل منهم بالتعبير عن رأيه. وعندما انتهى الجميع، تحدث الجنرال.
ينقل الحاضرون قوله إنه لا يثق بالمحاكم، وأن القضاة أطلقوا سراح مجرمين، وأن المدعين العامين لا تأثير لهم، وأن العدالة كان يمكن شراؤها دائما مقابل ثمن معين، لذلك فضل أن يقيم العدالة بنفسه.
وتحدث إلى عدد قليل من أفراد الأسرة مباشرة، بما في ذلك شاه محمد، الذي كان شقيقه نِداء ضمن قائمة فضل. أخبره الجنرال أن نداء متورط في قتل ضباط شرطة، وهو اتهام لم يصدقه؛ إذ كان نداء يبيع الخضار على عربة يدوية في السوق.
وقبل انتهاء الاجتماع، توجه الجنرال إلى سيما، التي اختفى ابنها بالتبني داؤود قبل أشهر. وقال الجنرال دون توضيح أنه سيعيده. ولم يمض وقت طويل حتى أطلق سراح داؤود.
بعد الخروج، أخبر داؤود العائلات كيف احتُجز في زنزانة مظلمة لعدة أشهر في موقع احتجاز غير رسمي. لقد تعرض للضرب والإساءة بانتظام، حتى بعد تدخل الجنرال. ثم نقل إلى سجن رسمي قبل إطلاق سراحه. وأخبر الآخرين أنه لم ير أيا من أقربائهم.
ومع ذلك، غمرت موجة أمل مؤلمة وجوه العائلات. بدأوا يحلمون بأن أطفالهم ربما لا يزالون على قيد الحياة. ولكن هذه هي معضلة وجود الأمل مع عدم المعرفة: فبدون معرفة ما إذا كان الشخص قد مات أم لا، لن يتمكن أحباؤه أبدا من الحداد عليه بشكل مناسب.
بالنسبة للجناة، فإن حالات الاختفاء لها منطق محزن، فبالرغم من أنها قد تشكل جرائم ضد الإنسانية، إلا أنه بدون وجود جثة، هناك شح في الأدلة، خاصة عندما يختطف شخص ما دون شهود أو على يد ضباط يرتدون ملابس مدنية وسيارات مدنية.
ومع ذلك، أحدثت حالات الاختفاء جراحات ومشاكل فريدة للعديد من الأفغان. في كثير من الأحيان، قيل للزوجات إنه لا يمكنهن الزواج مرة أخرى حتى يتم إثبات وفاة أزواجهن. وقد تُركت بعض ممن لديهن أطفال صغار غير قادرات على إعالة أنفسهم.
يقول سيد عبد الكريم، والد أحد الشباب المدرجين في قائمة فضل: 'ما فعله الجنرال عبد الرازق من قتل واختفاء كان أسوأ من كل ما حدث في بقية أنحاء أفغانستان. أتمنى أن نتمكن من دفن عظام ابني في مكان ما، فلو كان لدينا قبرا له، لكان بإمكاننا الذهاب إليه والدعاء له'.
إن المآسي تولد مآسٍ أخرى، مثل ما فعله بعض المحتالين للاستفادة من حالة اليأس التي يعيشها الآباء والأمهات، فقد وقع فضل ووالدته ضحية لعملية احتيال، حيث سافرا إلى كابول لدفع عدة آلاف من الدولارات لمسؤول استخباراتي مقابل عودة أخيه أحمد، وهي رحلة كادت أن تنتهي باختطاف فضل نفسه. ودفع آخرون مبالغ أكثر.
وقررت بعض العائلات أن تجمع بينها وبين أصحاب المآسي الآخرين، حيث تزوجت بنت عم فضل من ابن سائق عربة اليد المفقود، صلاح الدين.
لقد غاب لفترة طويلة حتى أصبح ابنه في ذلك الوقت في سن الزواج.
صعود المتمردين
جاءت الصدمة في 18 أكتوبر 2018 عندما قُتل عبدالرازق برصاص أحد مقاتلي طالبان الذين اخترقوا حرس الحاكم. لقد علت صرخات طالبان.
استعمل مقاتلو طالبان منذ فترة طويلة وحشية عبدالرازق ذريعة لتجنيد المقاتلين وإثارة الغضب عن طريق عرض مقاطع فيديو ومنشورات توضح انتهاكاته.
لكن موته سمح للمتمردين بإظهار قدرتهم على الوصول إلى جميع الجنرالات حتى أولئك المحاطين بحماية كبيرة، وهو القائد الذي كان يسير على بعد خطوات قليلة من ميلر، القائد الأمريكي الأعلى في أفغانستان، وقت وفاته.
وقالت طالبان إنها فضلت استهداف عبدالرازق أكثر من أي شخص آخر في الاجتماع، بما في ذلك الجنرال الأمريكي ذو الأربع نجوم، الذي نجا من الإصابة.
وقال مولوي أبرار أحمد حبيب، أحد قادة طالبان الذي أشرف على الاغتيالات في قندهار خلال تلك السنوات: «لقد كان أكثر أهمية بالنسبة لنا من سكوت ميلر'.
كان فضل والآخرون يأملون أن تتغير الأمور بوفاة عبدالرازق. ولكن لم يتغير شيء.
تولى تادين، شقيق عبدالرازق، منصب قائد شرطة قندهار. وقال لصحيفة التايمز إنه لا هو ولا شقيقه شنوا حملات اختفاء قسري. وقال المسؤولون إن تادين ببساطة واصل اتباع النظام الذي بناه شقيقه.
عندما بدأت الحرب، تصور فضل والآخرون أن الأميركيين سيجلبون الاستثمار والفرص. لقد تصوروا وظائف جيدة ومنازل أفضل ورخاء. لكن آمالهم وحسن نيتهم تبخرت بسرعة مع اختفاء أقربائهم.
وقال السكان إنهم لم يكونوا يشجعون حركة طالبان حبا فيها؛ ولكن كرها في الحكومة الأفغانية والأميركيين الذين دعموها.
وكان هذا التراجع في الدعم، ليس فقط بين عائلات المفقودين، ولكن أيضا بين العديد من الأفغان الذين خاب أملهم بسبب الفساد الكبير والانتهاكات غير المبررة للأمريكيين وشركائهم الأفغان، كان جزءا من انهيار قندهار، كما كان الحال في أي مكان آخر من البلاد.
لقد انتشرت ظاهرة الإفلات من العقاب والإجرام التي عززها عبدالرازق بعد وفاته، فتآكلت قندهار من الداخل. ومع تزايد قوة طالبان، أدت سرقة الأجور والإمدادات داخل القوات الحكومية إلى تدمير الروح المعنوية، كما فعل الاقتتال الداخلي بين قادته، مما أدى إلى شل قدرتهم على القتال.
كانت مجموعة فضل تدعو الله من أجل انتصار المتمردين، وتشبثت بالأمل في أنه بمجرد الإطاحة بالحكومة، قد يكتشفون ما حدث لأقاربهم.
وبمجرد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وانهيار الحكومة الأفغانية عام 2021، انتقلت حركة طالبان من سجن إلى سجن، وأفرغت الزنازين.
وتدفق آلاف الأشخاص من مختلف أنحاء الإقليم إلى مدينة قندهار. وسمع فضل أنه تم إخراج مئات السجناء من قبو مقر الشرطة. وتجمعت حشود ضخمة خارج مجمع المحافظ، وتدافعت لإلقاء نظرة على الخارجين.
وانضم إليهم فضل، مسرعا في وسط المدينة، للبحث في المرافق العامة. ولم يحالفه الحظ في مدينة قندهار، فنزل هو وآخرون إلى منطقة سبين بولداك، حيث كانت بداية صعود عبدالرازق. وانتظر المئات هناك أيضا، لمراقبة الحشود بحثا عن أحبائهم المفقودين. وأحصى فضل الأشخاص الذين حُرِّروا من مراكز الاحتجاز غير الرسمية، لكنّ أخاه لم يكن واحدا منهم.
كان روح الله أخونزاده جزءا من مجموعة فضل، يبحث عن شقيقه في سجن في الطابق السفلي، حيث كانت السقوف الرطبة المنخفضة مؤشرا مروعا لما تحمله الأفغان من مآسٍ هناك، لكن لم يجد له أي أثر.
وقال: 'ما زلنا لا نعرف'.
وبعد أن بحث فضل رحيم، وهو من مجموعة فضل، عن أخيه في كل مكان، اقترب من مقاتلي طالبان ليسأل عن أخبار أخيه، فأخبروه أن جميع السجون قد أفرغت وأن كل من لا يزال على قيد الحياة موجود بالفعل مع عائلاته.
انجرفت الحشود على أمل العثور على مكان آخر يمكن لأقربائهم أن يوجدوا فيه. وتوجه العديد منهم إلى محطة الحافلات المزدحمة في مدينة قندهار للبحث بين السجناء العائدين من قاعدة باغرام الجوية، حيث كان الأميركيون، وثم الأفغان، يحتفظون بآلاف المعتقلين.
ارتفع مستوى الإلحاح واليأس مثل ارتفاع درجة حرارة الحمى عندما لم يعثر على شقيق فضل.
إرث تم تجاهله
منذ انهيار الحكومة الأفغانية، ظهرت مقابر جماعية في قندهار، مما دفع أقاربهم الذين يذهبون إلى المواقع الصحراوية ومشارح المستشفيات، أو يتبادلون صورا لبقايا الهياكل العظمية، لإجراء عمليات بحث متجددة. لكن لا يوجد بحث منظم عن المفقودين في قندهار.
وبعد سنوات من الضغط من الولايات المتحدة، قال ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية إنهم يقللون من أولوية التحقيقات في الانتهاكات التي ترتكبها القوات المدعومة من الولايات المتحدة. وركزت الأمم المتحدة على الانتهاكات التي ارتكبتها حكومة طالبان الجديدة، واتهمتها بحملة من عمليات القتل والتعذيب خارج نطاق القانون.
رفعت صحيفة التايمز دعوى قضائية ضد الحكومة الأمريكية بسبب ملفاتها عن عبدالرازق. وبعد مرور ما يقرب من عام، لم يقم الجيش ووزارة الخارجية بتسليم سوى عدد قليل من الوثائق. لم يكن سوى عدد قليل من القادة العسكريين في تلك الحقبة مهتمين بإعادة النظر في إرث عبد الرازق، وما يكشفه ذلك الإرث عن المجهود الحربي الأمريكي.
قال ألين، الجنرال الأمريكي: 'إن السبب وراء حركات التمرد هو الظلم، وكان عبدالرازق يمثل أسوأ هذا الظلم'. وأضاف: «لقد صنع عبدالرازق الظلم نفسه الذي أعطى طالبان تفوقها علينا'.
لإحياء ذكرى عبدالرازق، بدأت الحكومة الأفغانية السابقة في بناء ضريح له، وهو هيكل عملاق يشبه المسجد بجوار قصر الحاكم، وهو نصب تذكاري مناسب لبطل قومي. وينظر إليه كثيرون بهذه الطريقة، باعتباره بطلا لأولئك الذين يعارضون طالبان.
وبدلا من تدميره، قامت طالبان بتطويق الصرح بجدران خرسانية، حرصا على عدم استعداء قطاع كبير من السكان الذين ما زالوا يقدسون الجنرال. يمنع الوصول إليه لكن يمكن رؤيته، فقبته ومآذنه تطل من فوق الحاجز.
لا توجد آثار للمفقودين، فمن بين 17 شخصا في قائمة فضل الأصلية، ثلاثة فقط عادوا إلى أهلهم أحياء.
تقول مليكة، والدة فضل وأحمد: 'لا يزال لدي أمل في عودته، على الرغم من أنني أعرف أنه ربما يكون قد مات، فدموعي لم تجف منذ اختفائه'.
*ساهم عبد نافع وشير علي فرهاد في إعداد التقارير من قندهار. من إنتاج شون كاتانغي وليو دومينغيز ورومسي تايلور.
** عزام أحمد مراسل التحقيقات الدولية لصحيفة التايمز. وقد كتب عن فضائح وول ستريت، والحرب في أفغانستان، والعنف والفساد في المكسيك وأمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي.
** ماثيو أيكينز كاتب مساهم في مجلة نيويورك تايمز، ويغطي منذ عام 2008 الصراعات في أفغانستان والشرق الأوسط، والعمليات العسكرية الأمريكية في الخارج، والهجرة القسرية، والصراع على حقوق الإنسان. حصل عمله على جائزة المجلة الوطنية وجائزة بولك وجائزة ليفينغستُن. لقد كان جزءا من فريق نيويورك تايمز الذي فاز بجائزة بوليتزر لعام 2022 للتقارير الدولية عن التحقيق في الضحايا المدنيين من الغارات الجوية الأمريكية. كما فاز مقطع الفيديو الذي أنتجه لهذا المشروع بجائزتي إيمي. يحكي كتابه الأول 'العراة لا يخشون الماء' قصة رحلة سرية إلى أوروبا مع اللاجئين الأفغان.
*** خدمة نيويورك تايمز