أعمدة

برج الصحوة

 
المشهد هنا متنوع، وإيقاع الحياة حركة ونشاط.. فهذا شاب يجر خلفه حقيبة ترافقه في أسفاره المكوكية بين قريته وجامعته في مسقط، يبحث عن وسيلة نقل اقتصادية، وذاك عامل آسيوي عائد من إجازته وقد خرج من المطار يوقف أي سيارة أو حتى شاحنة ستأخذه إلى القرية التي يعود لها لأي عمل وإن كان جديدا عليه، فهو (كله معلوم). وهذا صاحب سيارة أجرة يحيط به بعض العَبرية (المسافرين) ويبحث عن (خردة)، وعامل مطعم يستميل المارة، وآخر ممتعض من ضعف الخدمات في المكان. وفي البعد القريب أسرة تتوجه إلى إحدى بوابات حدائق الصحوة التي أخذت اسمها من هذا الصرح، لقضاء وقت سعيد، ومجموعة زملاء تواعدوا هنا ليوقفوا بعض سياراتهم ويندمجوا في سيارة أو اثنتين ليتوجهوا إلى إحدى الولايات لتأدية واجب عزاء، وحركة حافلات صغيرة وكبيرة تتأهب للسفر.. من هنا تنقسم هذه الدائرة الكبيرة التي يتوسطها البرج إلى مسارات في الاتجاهات الأربعة، يطل الأول على مدخل معسكر المرتفعة حيث الحصن الحصين للوطن، والثاني يذهب عميقا إلى العاصمة العمانية الأنيقة بتفاصيلها بدءا من أربعة مطارات متجاورة، مرورا بالعرفان والمعارض وغيرها، إلى قلب العاصمة الجديدة والعتيقة، ومنها وصولا إلى قريات وصور وسواحل بحر العرب وبواباته البحرية على العالم، والثالث يبدأ بالسيب حيث خلطة المدينة التي تجمع البيئات الزراعية والبحرية والمدنية الجديدة إلى ساحل الباطنة الطويل الذي ينتهي عند البوابات البرية لعمان على العالم، أما المسار الرابع فينطلق إلى مدى واسع جدا يبدأ من الداخلية، ممتدا إلى الظاهرة والبريمي، وإلى الشرقية، وإلى أقصى ظفار عند (ضربة علي) والبوابة الجنوبية.. فهذا الموقع أشبه بميناء بري ينطلق منه المسافرون برا، أو يبدلون مسارهم لوجهات أخرى. لذلك فقد كانت التسمية الشعبية لهذا الدوار قبل برج الصحوة هي (دوّار عمان) لأنك من هنا تنطلق إلى كل عمان بلا استثناء.. الجميل أنه يوجد نفق صغير بجانب الشارع يمكن من خلاله الدخول إلى الدوار.

في أكتوبر(1985م) مشهد احتفالي داخل هذا الدوار الكبير. عدد كبير من المسؤولين يملؤون جنباته ليُحتفل بافتتاح أكبر نصب تذكاري في عمان هو (برج الصحوة).. إن كانت ذاكرتي نظيفة فقد كان الحفل برعاية صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد، أما كلفته كما ورد في وسائل الإعلام فقد بلغت مليونا وثمانية عشر ألف ريال عماني. رقم كبير بقياس ذلك الوقت.. معلم استثنائي شامخ، له هيبة دولة، وأناقة مدينة، وجمال معماري خاص، وعلى أضلاعه لوحات جدارية أنيقة من صفين، أمامي وخلفي، من بلاط خاص أو الفسيفساء الكبيرة، تختزل الكثير من صور الحضارة العمانية ورمزياتها، تتوج رأس البرج ساعة كبيرة بأربعة أوجه يمكن سماع دقات أجراسها بشكل واضح عند رأس الساعة وربما أجزائها كذلك.

أغرت هذه الدقات وزارة الإعلام بتبنيها في مقدمات نشرات الأخبار، بصورة تحاكي دقات ساعة بيج بن العالمية معلنة توقيت جرينتش حسب خطوط الطول في الكرة الأرضية. فكان التفكير أولا أن يتم تركيب ميكروفون خاص عند أجراسها مربوط بخط هاتفي لتُنقل الدقات على الهواء مباشرة، ولكن لبعض الشك في أي عطل فني قد يحدث فقد فضل المسؤولون تسجيلها وبثها مسجلة، ليظهر المذيع بإذاعة سلطنة عمان - وبكل اعتداد - بعبارة (دقات ساعة برج الصحوة معلنة السابعة صباحا بتوقيت مسقط. نشرة الأخبار، وأستهلها بالموجز....). ولاحقا حذا التلفزيون حذو الإذاعة وصمم شارة خاصة متطورة تسبق النشرة التلفزيونية. تمنيت لو بقيت هذه الرمزية في الإذاعة والتلفزيون كواحدة من ثوابت هوية البث.

كان السلطان قابوس رحمه الله يباهي به ضيوفه. فبعد خروج موكبه من المطار السلطاني الخاص بإمكان الموكب أن يتوجه مباشرة إلى قصر العلم بمسقط، ولكنه كان يحرص على العودة للوراء قليلا للالتفاف حول برج الصحوة قبل التوجه إلى قلب العاصمة العامرة، وربما قال لضيفه: نحن في عمان نهتم برموزنا الوطنية، وتاريخنا، وعلومنا، وعلمائنا.

للأسف عند توسيع المسارات حوله تم تهميش هذا الدوار للقادم من مسقط باتجاه السيب والعكس، بانحناء الطريق وابتعاده عن الدوار، ففقد الموقع جزءا كبيرا من الالتفات له، رغم أن مجسما لا أعلم إن كان لا يزال موجودا أم لا في مدخل وزارة الإسكان يقدم حلا بسيطا وأنيقا، ليظل المسار سالكا في الاتجاهات الأربعة دون الابتعاد عنه.

في فترة مباريات كأس العالم الأخيرة، تم تغطية اللوحات الجدارية بلوحات أو أقمشة إعلانية تروج لحضور المباريات في مركز المعارض. تساءلت: هل ضاقت بهم كل المساحات؟ ألم يجدوا من الدوار إلا هذه الأجزاء الأساسية؟ لماذا لم يختاروا الأطراف مثلا؟ وإذا كان الإعلان اليوم رياضيا فغدا سنرى إعلان حفاظات أو ما شابه.. ماذا بقي له من هيبة ورمزية؟ كل هذا في سبيل المال؟ أطلقت تغريدة بسؤال استنكاري: (هل أصبح برج الصحوة منصة إعلانات تجارية؟!) ولكن ما لم أتوقعه حقا الهجوم الكبير الذي تلقيته من ردود طالتني بشكل شخصي، وهذه أتجاوزها، ولكن طالت هذا المعلم، ودخلت في مقارنات مع الدول الأخرى بانتقاص واضح وصريح للمنجز الوطني، وصلت للمطالبة بإزالته بزعم أنه يعيق الحركة المرورية، ووصفه بأبشع الصور!! فكل العالم يفخر برموزه الوطنية، فهذه ليست خدمة تقدمها لنا هذه الجهة أو تلك وتقبل منا الرضى من عدمه.. برج الصحوة ليس من فئة مبنى التجارة العالمية الذي اشتهر أكثر بعد أحداث 11/سبتمبر، وما شابه. وإنما من فئة رموز ليست العبرة فيها بكلفتها المالية، وإنما برمزيتها، كالجندي المجهول في بعض الدول، ومن فئة قوس النصر في باريس، ونصب أبراهام لنكولن في واشنطن، ورموز انتهاء الحرب وترسيخ السلام في بعض الدول، وربما حتى بقايا جدار برلين، طبعا مع اختلاف القصص والدلالات وراء كل نصب، فالقصة أو القصص وراء برج الصحوة لها دلالاتها ورمزياتها بدءا من اسمه مرورا بموقعه واتجاهاته الأربعة، وليس انتهاء بجدارياته التاريخية..

وإن كان لابد من استثماره كمصدر دخل، أو تطويره بما يلائم العصر، فأتخيل أن هناك أفكارا عديدة يمكن تنفيذها، على أطرافه مثلا. بل ذهب خيالي إلى افتراض ملء فراغات أضلاعه الأربعة بشاشات عملاقة ذكية تعرض أروع المشاهد من عمان، وتمرر الكثير من الرسائل المجتمعية، وتحتفي بالمناسبات الوطنية، وتعرض إعلانات تجارية منتخبة، حتى لا تتكرر ظاهرة إلغاء أو تعطيل رموز وطنية جميلة شكلت ذاكرة جمعية ربما دخلت حتى في الأعمال الإبداعية كالقصص والروايات وغيرها، مثل مجمر ريام الذي لا يعلم كثيرون أن به مصعدا يأخذ الزائر إلى صالة بانورامية أنيقة بها مناظير تعمل بخمسين بيسة، ولكنه اليوم مغلق! وساحة وبرج الساعة في روي الذي كان متوهجا بشاشته العملاقة ومسرحه وفعالياته، ولكنه اليوم مهجور! وحتى الرموز البسيطة مثل كابينات الهواتف العمومية، وصناديق البريد، أو مجمر الوادي الكبير الذي كان يمكن أن ينقل إلى أي موقع آخر، كما نقل مجسم الكتاب من دوار الخوض إلى دوار الجامعة، ولكن استُكثر عليه حتى عدة كشافات تنيره ليلا رغم أنه يرمز لنور العلم، وقلعة دوار الموالح، ودوار الساعة عند المطار القديم، ومجسم (كلش دنيا)... لطالما تمنيت أن أرى ساحة أو ميدانا مرتفعا في مسقط، بل وحتى في المحافظات يتوسطه علم عملاق شاهق الارتفاع، حوله رمزيات وشروحات لدلالات العلم العماني، وحتى الرايات التاريخية، وشعار الخنجر والسيفين، الذي برز ظهوره الرسمي في القرن التاسع عشر على الأقل، وأكشاك تبيع تذكارات منوعة للعَلم، الذي يُعَدّ أول علم عماني متعدد الألوان في تاريخ عمان.. أسعدني مؤخرا خبر مشروع (ساحة الخوير) الذي ستعلو منه أعلى سارية في سلطنة عمان يرفرف على قمتها العلم العماني بارتفاع أربعين طابقا، سنرفع نحوه هاماتنا احتراما وفخرا، وأكفنا (تعظيم سلام).