أعمدة

آلات الموسيقى العُمانية التقليدية والهُوية الثقافية «4»

 
بعد توقف حوالي شهر، نعود مرة أخرى نستكمل هذه السلسلة من المقالات تحت العنوان أعلاه، في محاولة متواضعة للنظر في تاريخ آلات الموسيقى العُمانية وهُويتها الثقافية. ومن المعلوم أن نشأة وتطور الآلات الموسيقية أمر مرتبط بالممارسة الداخلية من جهة والعلاقات الاجتماعية والثقافية مع الشعوب المجاورة من جهة أخرى.

إن تطور أنواع المواصلات عبر العصور زاد من تنقل الناس مع ثقافاتهم وآلاتهم الموسيقية من مكان لآخر. ومن الواضح أن العُمانيين كتبوا جزءا كبيرا من تاريخ منطقة المحيط الهندي والجزيرة العربية وذلك حتى في أدنى أوقات ضعف الكيان السياسي العُماني، غير أن هذا الحضور السياسي المستمر ربما يكون في هذه المرحلة الإصلاحية يخوض نظامه الثقافي التقليدي تجربة جديدة تجاه مسألة الفنون بأنواعها التي كانت قد تعرضت للكثير من الإهمال في القرون الماضية. وفي هذا الشأن أجد نفسي دائما أعبر عن أسفي الشديد لفقدان جزء كبير من التاريخ الثقافي العُماني وخاصة الموسيقي، ومع أن هذه ليست ميزة خاصة بالعُمانيين بل معظم أرجاء الجزيرة العربية، ولكن للأسف عندنا تفوّق كبير على الجميع في إهمال هذا الفعل الإنساني الثقافي من التاريخ حتى سبعينيات القرن العشرين، وهي المرحلة الإصلاحية التي سنتحدث عنها في مقالات لاحقة إن شاء الله.

والآلات الموسيقية سجل تاريخي وفني للموسيقى وصناعتها، وهي مدخل أساسي لدراسة اللغة الموسيقية، ولعلي لا أبالغ إذا ادعيت أن الرزحة فن غنائي وأدائي متوارث عبر قرون طويلة جدا ربما يصلنا إلى زمن الهجرات الأولى لقوم مالك بن فهم، وأنا هنا اعتمد على الخيط السري الممتد لهذا الفن الغنائي والشعري المتصل بالزامل في ظفار بجنوب عُمان ومنها إلى حضرموت وجنوب اليمن عامة وشماله، وأن أي شاعر من هذه الأماكن يستطيع أن يشارك في الأداء مع الطرف الآخر شعرا ولحنا، ومن ذلك الماضي السحيق نجد آلة البرغوم، البوق يصنع من قرون الوعل الجبلي كآلة أساسية من آلات الرزحة، ولا بد أن اختيار قرن الوعل تحديدا متصل بأساطير صيد الوعل ورمزيته في الثقافة العربية الجنوبية.

وهكذا فإن التعمق في هذه المقارنات الثقافية والتاريخية تبرز أهمية دراسة هذه الممارسات الفنية ليس باعتبارها فنون غناء معاصرة فقط بل هي كذلك قديمة وربما موغلة في القدم، وقد لا حظنا في المقالات السابقة كيف أن بعض المصادر من التاريخ المكتوب والمكتشفات الأثرية قد زودتنا بالمعرفة الأكيدة عن قدم بعض الآلات المستعملة في موسيقانا التقليدية. إن ما ترسخ عبر القرون من فنون الغناء وغيرها من الأنماط الثقافية الفنية ليس من السهولة استبدالها بأخرى، ذلك أن عملية التغيير في الأنماط الموسيقية وصيغها الفنية تأخذ الكثير من الزمن طالما لا تزال لها وظيفة اجتماعية وثقافية، ولكن في المقابل تتعرض أساليب الأداء الفني إلى التغيير المباشر بسبب متغيرات الذوق المستمرة بين الأجيال، كما هو الحال في هذا الزمن الذي يسوده الجمود الفني مع ظهور الأغنية الهجينة التي تقتبس ألحانها وضروبها الإيقاعية في معظم الحالات من التراث الغنائي، وتستعمل في أدائها أساليب التوزيع الفني الشائعة في عصرنا ومختلف الآلات الموسيقية الشرقية والغربية، ويتعاون في أدائها الفني موسيقيون من مختلف الدول لا يعرفون في معظم الحالات بعضهم بعضا، وتحولت الأغاني الحديثة إلى صناعة بالتجميع لا هُوية لها، تجمع قطع غياراتها من مصانع متعددة، وقد فقدنا منذ فترة طويلة ذلك الفنان المتواضع والمبدع الذي ينجز كامل عمله الفني ويضع فيه بصمته الثقافية المتميزة ولو على آلة موسيقية واحدة، أو بدونها حتى. وقد كان هذا الواقع مدى قرون طويلة جدا لم تكن في عُمان والجزيرة العربية كلها سوى عدد قليل جدا من الآلات اللحنية لعل في مقدمتها: المزهر والقصبة، وأنواع عديدة من المزامير. من هنا سنواجه صعوبة في المقالات الخاصة بمرحلة عُمان الإصلاحية بشأن تعريف آلات الموسيقى العُمانية المستعملة في الغناء الحديث أو الأغنية الهجينة، بعد تراجع دور آلات الموسيقى التقليدية في صياغة الذوق الفني المعاصر، فلا نجد في التعليم المعاصر مثلا اختصاص آلات موسيقى عُمانية أو تاريخها على الأقل، ولا بطبيعة الحال أستاذا لهذا الاختصاص ولا طلابا... وللمقال بقية..

مسلم الكثيري موسيقي وباحث