رأي عُمان

غزة تشظي النظام العالمي وتفضحه

F3G_LaJWAAAvi1z
 
F3G_LaJWAAAvi1z
كان البعض يعتقد أنّ الحرب الروسية على أوكرانيا هي أوضح مثال على تداعي النظام العالمي القائم على القواعد، بالقدر نفسه الذي أوضحت فيه تلك الحرب التي ما زالت مشتعلة حتى الآن سقوط نظرية «نهاية التاريخ» للمفكر السياسي فوكوياما. ولا شك أن تلك الحرب أسقطت نظرية «نهاية التاريخ» وأكدت للأنظمة الغربية على وجه التحديد أن الإنسان الحي ما زال قادرا على بلورة أنظمة أكثر قدرة على إرساء العدالة والمساواة والحرية والحكم الرشيد مما قدمته النسخة الغربية للديمقراطية الليبرالية التي اعتقد البعض أنها ذروة التطور الأيديولوجي للإنسان. وإذا كان النظام العالمي «القائم على القواعد» أعقد بكثير من أن ينتهي ويتلاشى كما يتلاشى الظلام في الغرفة المعتمة بعد ثوان بسيطة من الكبس على زر الطاقة الكهربائية، إلا أن هذا النظام يمر بأسوأ أيامه على الإطلاق خاصة منذ بداية حرب الإبادة التي يشنها منذ أكثر من ستة شهور جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.

لا أحد يستطيع القول إن الحرب على غزة هي القشة التي ستقصم ظهر هذا النظام وتنهيه ولكنّ المؤكد أنها الحرب التي فضحته تماما، وكشفته أمام أكثر مؤيديه من الجماهير الغربية التي رأت حكوماتها متورطة بشكل فاضح في دعم جرائم إبادة وحشية لا يمكن لأي فطرة سوية أن تتقبلها أو تقرها.

قدمت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مرارا وتكرارا بأنها القائد الأكبر للغرب والمنظّر الأهم بل والحامي للنظام العالمي القائم على القواعد.. ومنذ وصل الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة كان يؤكد دائما أنه يقف بحزم ضد الدول التي تهدد هذا النظام وتهدد قواعده، وأنه يدعو للعمل معا لحماية النظام باعتباره الحامي للديمقراطية والليبرالية والعدالة والمساواة وكل الحريات، وكان يلوح دائما بخطر الصين وروسيا على هذا النظام.

لا أحد يشكك أن أمريكا والغرب يعملون جميعا على حماية النظام العالمي لأنه نظامهم ومنه يستمدون قوتهم، لكنّهم فشلوا تماما، وفي مقدمتهم أمريكا، في أول اختبار حقيقي لهذا النظام عندما تعلق الأمر بحماية قطاع غزة من الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من ستة شهور.. فشلوا في حماية البشر، وفي حماية الأطفال والنساء والمدنيين، وفي توفير ممرات آمنة لإدخال المساعدات لأكثر من مليوني مدني جميعهم على حافة المجاعة.. كما فشلوا في حماية الحريات وفي حماية الصحفيين.. ليس هذا وحسب، بل فشلوا في الحفاظ على القيم الأمريكية وفي حماية القانون الدولي. لقد فشلت إدارة الرئيس بايدن في بناء الشراكات مع الدول العربية وفق ما طرحه في قمة جدة مع الدول الخليجية والأردن ومصر في عام 2022. لقد كبر الفشل الأمريكي وخرج عن كل الحدود إلى درجة أن العرب لم يعودوا وحدهم من يرى هذا الفشل، بل إن الكونجرس الأمريكي بات يرى في المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل شيئا من الهوان الأمريكي! وظهرت الكثير من الأصوات المؤثرة التي تدعو إلى ضرورة امتثال المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل بالقانون الأمريكي وبالقوانين الدولية، فلا يمكن أن تكون المساعدات مطلقة دون شروط خاصة إذا كانت تنتهك حقوق الإنسان أو ترتكب بها إبادات جماعية كما هو الحال في غزة. وقبل أيام بعث أكثر من 40 عضوا ديمقراطيا من مجلس النواب برسالة إلى بايدن ووزير خارجيته تطالبهم بضرورة أن تكون المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل ملتزمة بشروط القانون الأمريكي، وكذلك فعل أعضاء من مجلس الشيوخ الذين حثوا الرئيس بوقف مؤقت للمساعدات العسكرية لإسرائيل.

إن النظام العالمي بكل قواعده لن يكون كما كان عليه قبل الحرب على غزة، وإذا كان العالم أصبح يتحدث بصوت مسموع جدا حول أهمية بناء نظام عالمي جديد بعد الحرب الروسية الأوكرانية فإن الأمر تحول خلال حرب الإبادة على غزة إلى ما يمكن أن يسمى زلزالا خلخل تلك القواعد وكشف حقيقتها، ولن ينسى هذا الزلزال وتأثيره في اللحظة التي يسقط فيها النظام ويذهب إلى عهدة التاريخ.