أعمدة

حياة الكتب السرية

 
ينقل لنا الراغب الأصفهاني في كتابه الضخم محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء في المجلد الأول منه «كل صناعة تحتاج إلى ذكاء، إلا الكتابة فإنها تحتاج إلى ذكاءين؛ جمع المعاني بالقلب، والحروف بالقلم». تنطبق هذه العبارة على الكتب الصادرة عن مسكيلياني التونسية، فكتبها المترجمة والعربية الأصل على السواء قمة في الذوق الأدبي والبيان العذب السلس، كأنما هي نهر جار ينساب برفق. فتشعر بأن الكتب المترجمة وكأن أصلها مكتوب بالعربية، لا أنها منقولة إلينا من لغة أخرى، بتراكيبها وقواعدها الخاصة وأحجياتها المتمثلة في التلاعب اللفظي بالكلمات. وقد اخترت من هذه الدار كتابا بدا لي طريفا في موضوعه، وقد تحقق الشعور الأول تجاهه حقيقةً ماثلة، فهو من تلك الكتب التي ما إن تشرع في قراءتها، إلا وتجد نفسك تقلب الصفحة الأخيرة وفي قلبك شجو وشجون ولكأنك تودع عزيزا مهاجرا، أو صديقا لا تدري إن كنت ستلقاه بعد يومه ذاك. والقراءة الأولى لا يعدلها شيء في المتعة واللذة والدهشة، أما الثانية فإنها قراءة تدبر وتفكر لا لذة واكتشاف؛ لذلك فإن طعم الوداع يكون أشد مرارة في الأولى، منه في الثانية.

كتابنا اليوم هو جزء من سلسلة لعالم اللغة والأديب الإسباني سانتياغو بوستيغيو، يحمل الجزء الأول من هذه السلسلة -وهو موضوع مقالتنا اليوم- عنوان «حياة الكتب السرية» أما السلسلة ذاتها فهي «تاريخ الأدب المنسي»، وقد صدرت من هذه السلسلة الماتعة ثلاثة أجزاء كلها بترجمة الأديب والناقد السينمائي المغربي عبداللطيف البازي. وقبل أن نشرع في الالتذاذ بالحديث عن هذا الكتاب المدهش، يتوجب أن نشيد بالبراعة الفائقة للمترجم الممتاز، فمن يقرأ هذا الكتاب سيشعر بأنه يقرأه بلغته الأصلية مباشرة.

حسنا، يتحدث هذا الكتاب العذب عن خبايا وخفايا الكتب وأنسابها ومؤلفيها كما في فصل «المؤلف السري»، فهو يأخذ القارئ في رحلة أسطورية يتعرف عبرها القارئ على الأسباب التي أُلِّفت فيها كتب بعينها، كما يتحدث عن المؤلفين المجهولين كما في الفصل السادس «ألكسندر دوما وظِلُّ أوجست ماكيه الطويل»، والمؤلفين المزيفين كذلك كما هو الحال في الفصل «هل كتب شكسبير أعمال شكسبير؟»، بل ويدلنا على الأسباب التي أدت إلى كتابة بعض روائع الأدب العالمي كما في الفصل الذي خصصه المؤلف للحديث عن ثلة من أعمدة الأدب الأوروبي الحديث وهم اللورد بايرون والزوجان بيرسي بيش شيلي وزوجته الروائية الشهيرة ماري شيلي، وكيف أسهمت رحلة الزوجين وفرارهما من الحكومة الإنجليزية إلى جبال الألب السويسرية في كتابة ماري شيلي لروايتها الشهيرة «فرانكشتاين». وبما أن الحديث عن هنا عن الكتب والمؤلفين، فإن الكتب محتاجة للمكتبات!، لذلك لم يغفل المؤلفُ الحديثَ عن الترتيب الألفبائي المُتَّبع في تصنيف الكتب وفرزها في المكتبات ومن أنشأ هذا الترتيب والسبب الداعي إليه. كما نتعرف من خلال الكتاب على المدينة الأوروبية التي أنجبت العديد من المؤلفين والعباقرة المبدعين وطابعها الخاص، بما يذكّر القارئ العربي بالمقولة العربية الشهيرة «القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ».

ولأن الإبداع البشري مرتبط بالألم، فإنه يخبرنا عن المؤلف الذي نجا من الموت وماتت الفرقة الحربية التي كانت معه، وكيف كتب هذا المؤلف العديد من روائع «الرواية السوداء» التي تنبع من الألم الإنساني اللاذع والصادق في آن. كما يخبرنا المؤلف عن الخدمة الجليلة التي قدمها للأدب صديق أحد أشهر أدباء القرن العشرين لصديقه بأن لا يستمع لوصية صديقه التي أمره فيها بأن يُحرق كل ما كتبه، ويقرر أن يطَّلع على كتابات صديقه، فيتفاجأ بأنه يقرأ شيئا باهرا يستحق النشر، وهو ما حصل بالفعل خلافا لوصية الصديق الأديب. كما يتعرف القارئ في الفصل ذاته على ما فعله جهاز الاستخبارات النازية وعلاقته بالأدب في تلك الفترة المظلمة من تاريخ البشرية. هل ذكرنا الاستخبارات النازية؟ أوه! ؛ يجب أن نذكر المخابرات السوفييتية أيضا وعلاقتها بـ«المخطوط القاتل»، الذي قتلت بسببه المرأة المسؤولة عن رقمنته، ونجا مؤلفه لأنه كان أشهر من أن يمكن اغتياله. مؤلف هذا المخطوط -الذي نُشِرَ فيما بعد- تحدث عن ما كان يحصل في الاتحاد السوفييتي إبان قيادة ستالين، وعن معسكرات الاعتقال والمنفى السيبيري الوحشي. «في الطبعة الأولى، قدَّمَ المؤلف اعتذارا، ليس إلى المخابرات ولا إلى الحكومة السوفييتية، بل إلى رفاقه الذين ماتوا في سيبيريا: (أرجو أن تسامحوني، فأنا لم أُشاهد كل شيء، ولم أتذكر كل شيء، ولا قلتُ كل شيء)- ليستدرك بوستيغيو مكملا حديثه عن المؤلف- أؤكد لكم أن المؤلف رغم تواضعه، قد رأى الكثير وتذكر الكثير وقال الكثير». لينتهي القارئ من هذا الفصل وفي حلقه غُصَّة، وفي الحقيقة فإن المؤلفين في تلك الحقبة كان لهم من الوزن ما يجعل المساس بهم صعبا، أما اليوم ومع التطور الهائل في التقنيات، إلا أن الميزان الأخلاقي أصابه العطب فلم يعد والحال هذه لبشري أية أهمية أو حرمة، وما يحدث في غزة يؤكد هذه الانتكاسة التي أصابت العالم.

يشعر المرء وهو يقرأ لبوستيغيو بأنه يقرأ للجاحظ الإسباني، فسخريته السوداء تجعلك في حيرة إن كنت ستبكي أم تضحك من المعلومة أو العبارة التي تقرأها في سياق حديثه، وعباراته اللطيفة التي تشبه الشعر لعذوبتها، والإحالات اللغوية والتلاعب بها؛ فضلا عن الموسوعية الهائلة التي يتحدث بها عن الكتب والمؤلفين والطبعات. كما لا أغفل عن انتقاده اللاذع للاستعمار ؛ لكأنما فيه نفحة من العروبة القديمة، فلربما كان آباؤه من عرب الأندلس القدماء!. ولكنها روح الإنسان الحر التي تدفعه للدفاع عن المظلومين بغض النظر عن لونهم وعِرقهم وجنسهم. فعبارات من جنس «محاولا الإسهام في إعادة القوانين الأمريكية إلى الرشاد» إنما هي في سياق الحديث عن حقوق المؤلف في أمريكا!، فتتخطى العبارة النص الأدبي لتنتقد السياسة الأمريكية بشكل لاذع. أو عبارته في موضع آخر «أجل، إننا نكرّمه اليوم. ولكننا في سنة 1597، وضعناه في السجن. هكذا نحن». وهي معضلة عالمية تكاد تتكرر مع الكثير من العظماء عبر العصور، فهم مجهولون مطمورون في حياتهم؛ ومحتفى بهم بعد مماتهم.

وبعد هذا الفصل، يأتي الدور على فصل له علاقة بالمؤلف شخصيا، يقول فيه: «ولم أتخيل قط أن ما فكرت فيه طفلة بريطانية عمرها ثماني سنوات في تلك الغرفة الصغيرة بمنزلها، سيؤثر يوما ما في حياتي. ولكن ذلك ما حدث». بهذه العبارة يعيدنا المؤلف إلى ما يعيشه كل القراء في أنحاء العالم، فهنالك نوع خاص من الكتب التي تلامس الروح الدفينة لقارئيها، وأخرى تؤثر في قارئيها وتحدد مسار حياتهم العملي. وما بين هذا وذاك ؛ تولد كتب عظيمة تظل منسية تحتضر في الظلام حتى ينفض عنها قارئ فضولي الغبار، ويعيد إليها الحياة.

علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني