عمان الثقافي

غريزة المقاومة في الإنسان بين مقاومة الاحتلال البرتغالي والاحتلال الصهيوني

 
ترتبط فكرة المقاومة في التاريخ الإنساني مع وحشية الجائر القادم من بعيد بأقصى عقلية عنصرية تستهدف كل أشكال الحياة بطرق وآليات تمثل الخداع المتوحش، تتكرر القصة ذاتها منذ آلاف السنين وقد يذيع صيت قائد مقاوم تحتفظ به صفحات الكتب إلى قرون مديدة أو تختفي تلك القصص في بقايا أنقاض مهدمة تتفحصها عدسة عالم آثار في العصر الحديث. نشاهد حاليا فظائع الاحتلال الإسرائيلي في غزة ويحدث ذلك على مرأى ومسمع من العالم المتحضر، لكن لا شيء يحدث فالحياة اعتيادية جدا في الأنحاء التي تحاصر غزة، الأمر أشبه بشاشة سينمائية هائلة رباعية الأبعاد يشاهدها العالم بأسره قبل وبعد وأثناء إنجاز الشؤون الحياتية التي تتحسس المستقبل بوصفه فرديا أو عمليا على المستوى الشخصي.

في كتاب سجلات أفونسو دلبوكيرك - الصادر عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة عام 2012م ضمن إصدارات دار الكتب الوطنية بترجمة الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ ومراجعة وتقديم الدكتور أحمد عبدالرحمن السقاف – يؤرخ أفونسو دلبوكيرك فظاعات جيشه في المدن التي احتلها بفخر في مراسلاته إلى ملك البرتغال دوم مانويل الذي حكم البرتغال بين عامي 1495 إلى 1521م، مؤلف الكتاب هو براز دلبوكيرك الابن غير الشرعي لأفونسو دلبوكيرك وقد نشر كتابه أول مرة سنة 1557م، أي بعد وفاة أفونسو دلبوكيرك باثنين وأربعين عاما، وكان المجمع الثقافي في أبوظبي قد أصدر الكتاب سنة 2000م بالترجمة ذاتها في مجلدين.

براوة، الصومال

وللتدليل على ذلك نقتبس من هذه المراسلات قصة دخول البرتغاليين لمدينة براوة وما حدث من إبادة لأهلها حيث يقول المؤلف: «أقبل رئيس القباطنة ودخل المدينة بكل رجاله .. فراحت النسوة تقذفن من الشرفات الحجارة على رجالنا فجرحن منهم عددا كبيرا وعندما وصل المسلمون إلى الميدان الكبير الذي يضم مسجدا تجمعوا وترقبوا هجومنا وقد عقدوا العزم على المقاومة حتى الموت..»، نقف هنا أمام هذه الثنائية التي يحملها العنوان، فالمقاومة فطرة في النفس الإنسانية التي تأبى الحياة في قبضة الطغيان، تدرك عقلية الاحتلال أن المقاوم يستصغر الحياة على الرغم من إدراكه أن سبيل المقاومة هي طريق ممهد نحو الموت، هكذا إذن يصور الكاتب في رسالته جبروت المقاومة إذ هي استعداد للموت ورفض للانصياع حتى لو وقف المقاوم أعزلا أمام الزحف المتكبر بالآلة والعتاد والاختراعات المتطورة، إنها صيرورة حتمية لا بد أن تحدث.

يقول: «ومباشرة وصلت هذه الأخبار لمن في القوارب، فغادرها البحارة ورجال المدافع الذين كانوا فيها لتكون في مسؤوليتهم حاملين معهم أحزمة جلدية محملة بعبوات من البارود وغير ذلك من الأسلحة النارية وهرعوا بأقصى سرعة إلى ميدان المسجد في المدينة حيث كان رئيس القباطنة وأحدثوا دمارا هائلا بين المسلمين مستخدمين البارود في العبوات والرماح والأسلحة النارية»، هذه ثقافة متأصلة في الاحتلال، فعلى الرغم من علم المحتل ببدائية الأسلحة التي يمتلكها أصل القاطنين في المنطقة إلا أن آلة الاحتلال تأتي بأعنف ما تملك وهو فعل لا يتجزأ عن ثقافة الخوف والارتباط بطغيان المادة في مواجهة صاحب الحق بالضرورة، يصور الظالم دائما ما يحدث بكثير من التهويل رغبة في إحداث خلخلة فكرية في ذهن القارئ فتنقلب المفاهيم حتى يستحيل المحتل مناضلا والمقاوم ظالما وهو ما يحدث اليوم في غزة فلسطين إذ يدعي الاحتلال أنه صاحب حق حتى لو أباد عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين فالتبرير دائما حاضر في إعلامه ولو بدا للمشاهد تبريرا أشبه ما يكون بمسرحية تتبنى غرض الملهاة الكوميدية.

وهذا ما يظهر جليا في النص: «أتت هذه النجدة لرجالنا فضغطوا بشدة على المسلمين حتى ولوا ظهورهم مدبرين خارجين من المدينة فلم يبق بها أحد خلا النساء اللاتي تبعن أزواجهن محملات بمؤن المنازل، فتعقبهن رجالنا ولحقوا بهن وقتلوا منهن نسوة كثيرات وأخذوا منهن ما كن يحملن، ثم شرع رئيس القباطنة في مهاجمة المسجد وعندما دخله جرحه المسلمون الذين كانوا به بسهم في ساقه فقتلهم جميعا»، هي ذات القصة تتكرر إلا أنها هذه المرة تأتي باعتراف من الجائر القادم من بعيد، إسراف في القتل وسرقة للثروات بكل بشاعة.

هذا هو وقود الاحتلال في كل زمان ومكان، وليس الأمر يقتصر على هذا الحد بل يتعداه إلى تدمير كل أشكال الحياة وتهديم ما تبقى من أنقاض لطمس هذه القصة، يقول: «عندما حان وقت الرحيل أمر رئيس القباطنة بالنفخ في الأبواق استدعاء لرجاله فلما اجتمعوا أشعلوا النيران في نواحي المدينة الأربعة فكان منظر الحريق رهيبا مرعبا بشكل لا يصدق فقد أحرقت بضائع كثيرة لم يكن لدى رجالنا وقت لنقلها بعيدا ولم تكن حالة البحر تسمح بتحميلها».

هذه الحكاية عن مدينة براوة التي يصفها البرتغالي بقوله: «مدينة شاسعة ومساكنها طيبة جدا ومشيدة بالحجارة والملاط، وتقع على حافة الماء.. إزاء ساحل مفتوح وسكانها من مسلمي هذه النواحي» ليست هي الوحيدة في فظاعات البرتغاليين قديما، فقد تكررت في مشاهد مروعة أخرى حدثت على المدن الساحلية لسلطنة عمان قديما وتخبرنا عن مقاومة العمانيين للمحتل واستبسالهم حتى الموت وهو ما يتماثل مع ما يحدث اليوم في غزة في مواجهة الوحشية المطلقة لجيش الاحتلال الإسرائيلي.

سقطرى، اليمن

وإن مما يستحق التخليد في قصص مقاومة الإجرام البرتغالي، قصة مقاومة حاكم سقطرى ومن معه عندما وصلته رسالة قائد الجيش البرتغالي يهدده فيها بتدمير سقطرى أو الاستسلام للبرتغاليين وتسليم الحصن لهم، فقد خلدت هذه السجلات شجاعة أهل سقطرى برد حاسم من قائدها جاء فيه أنه «لا هو ولا رجاله يمكن أن يموتوا من الخوف وإنما مماتهم لا يكون بغير السيف وأن على رئيس القباطنة [البرتغاليين] أن يفعل ما يحلوا له فهو – أي قائد الحصن – لن يغادره حتى يموت كل من معه فتلك عادة الفرتكيين [السقطريين].. لأن الفرتكيين لم يتعودوا أن يرجعوا من المعارك أحياء» وهنا تتمثل إرادة النصر أو الشهادة في قلوب أصحاب الحق وأهل الأرض، فتستحيل النفس جزءا من هذه الأرض والدفاع عنها هو دفاع عن الجسد والروح، هذا ما جسدته الأحداث التي تلت هذه المخاطبات، فقد استبسل أهل سقطرى في الدفاع عن وطنهم بالرغم مما أصابهم من قتل وتنكيل وفظائع لا يرعوي عن ارتكابها المحتل.

رأس الحد ورأس الحكمان، سلطنة عمان

وعندما عبر الأسطول البرتغالي شواطئ عمان، يروي الكاتب مشهدا آخر عن غريزة التدمير للمحتل تجاه الشعوب المقاومة، فيقول: «وقد وجدوا هناك في ذلك الميناء الذي قضوا الليل فيه ثلاثين سفينة صيد أو أربعين أتت قادمة من هرمز وقلهات، وكل هذا الساحل لصيد السمك.. حيث كانت قائمة آنذاك تجارة رائجة في هذه الأسماك لنواحي كثيرة، فقام البرتغاليون بإحراق هذه السفن كلها.. ووجدوا على هذا الساحل أربعة سنابيك فأحرقوها..»، وقد اختلفت ترجمات اسم هذا الساحل بين عدة مناطق من رؤوس شواطئ عمان المطلة على المحيط الهندي وهي رأس الحد أو رأس الحكمان أو رأس ألاقيت.

لا يخفي الكاتب أيضا نشوة الفرح النرجسية التي تعبر عن غريزة تدميرية في مشاعره عند هذه الأحداث وهي ذاتها التي رأيناها في مقاطع الاحتلال الإسرائيلي التي تصور مشاهد الرقص والطرب على أنقاض الحارات المدمرة أو على صور الجثث المتناثرة، يقول: «وصلوا إلى قرية صغيرة ذات أكواخ من حطب.. قرية صيادي السمك، فتجمع على الساحل خلق كثير راجلين وراكبين خيولا أو جمالا وراحوا يتحركون على الساحل في مقابلة أسطولنا حتى كانوا على مرأى من مدينة قلهات، وعندما واجهوا الميناء تماما أمر أفونسو دلبوكيرك القباطنة أن يرفعوا أعلامهم استعدادا للإبحار وأن يرفعوا أعلامهم ويجعلوا مدافعهم مستعدة.. وتم كل هذا والفرح يغمرهم..».

ومن شأن المقاوم أن يبذل أقصى ما في وسعه للدفاع عن وطنه بالقوة أو الحيلة، وإظهار مظاهر الاستبسال في سبيل النصر أو الشهادة، ولعل أروع مثال على ذلك ما أرخه دلبوكيرك في سجلاته عند دخول الأساطيل البرتغالية مدينة قريات وما جرى هنالك من شجاعة أهلها في الدفاع عن مدينتهم ووحشية المحتل البرتغالي التي تعدت كل الحدود فما أشبه ذلك بالعدوان الإسرائيلي على غزة وللتاريخ عبرة وعظة.

قريات، سلطنة عمان

يصور البرتغالي مقاومة أهل قريات بقوله: «أقاموا حواجز خشبية ووضعوا خمس سيقان نخيل بالعرض غطوها بالتراب لتحمي مدخل المكان ووضعوا بينها أربعة مدافع وكثيرا من الرماة بالسهام وآخرين حاملين رماحهم الطوال ليحرسوا المكان وأقاموا استحكامات أخرى على حافة الماء على شكل حامية تحيط بها الأخشاب وعلوها بالتراب»، لكن وحشية العقل التدميري وبشاعته لا تكافئها أخلاق الحرب، هي ذاتها في كل مكان وزمان رغبة في الإبادة وتعطش إلى انتهاك أدنى أخلاقيات الإنسان، يعترف دلبوكيرك بالجرائم التي اقترفها جيشه في أهل قريات بكل وضوح، يقول: «..لقد أعملوا السيف في رقابهم رجالا ونساء وأطفالا وهم في طريقهم هاربين إلى المناطق الداخلية.. وجد أفونسو دلبوكيرك بعض المسلمين فأعمل السيف فيهم جميعا.. وأمر برفع علمه فوق قبة المسجد.. وحالما جُمعت المؤن وكل ما يقدرون على حمله من الأسلاب أمر بإشعال النار في المكان ولا سيما مخازن المؤن لمنع المسلمين من الاستفادة منها».

تصف السجلات مشاهد تدمير قريات بتصوير متخيل مثل المقاطع التي نشاهدها اليوم في قنوات وسائل التواصل الاجتماعي في غزة: «لقد كانت النيران عنيفة لم تترك منزلا ولا مبنى إلا أتت عليه وأتت أيضا على المسجد الذي كان واحدا من أجمل المساجد التي رأيناها على الإطلاق أما المسلمون الذين تم القبض عليهم فقد أمر بقطع أنوفهم وآذانهم وإرسالهم إلى هرمز ليكونوا شاهدا على ما حاق بهم من خزي، واستولى أفونسو في هذا الموضع على خمسة وعشرين مدفعا وعددا كبيرا من القسي والسهام والرماح وأسلحة أخرى، وأحرقنا ثمانيا وثلاثين سفينة ما بين كبيرة وصغيرة».

مسقط، سلطنة عمان

وقد نال مدينة مسقط ما نال قريات من تدمير وتنكيل في صراع دام أبلى فيه أهل مسقط والمدد الذي وصلهم من المناطق الأخرى بلاء حسنا من الاستبسال في المقاومة باعتراف هذه السجلات البرتغالية على الرغم من الإبادة التي ارتكبها هذا الجيش الدموي المتوحش، تقول السجلات: «أما المسلمون الذين كانوا داخل الاستحكامات فقد دافعوا عن أنفسهم ببسالة وصمدوا لمدة طويلة».

لكن الأسطول المتوحش الذي دخل مسقط باستعداداته المسبقة وتهيئه الكامل لارتكاب فظاعاته دون أدنى حد يردعه أخلاقيا وإنسانيا يؤرخ لنفسه هذه الجرائم والانتهاكات في سجلاته فهو لا يراعي أخلاقيات الحروب بل يسرف في القتل والتدمير حتى تطال آلته الدموية نساء مسقط وأطفالها: «تابع رئيس القباطنة حشدا من النساء كن يتراجعن إلى التلال وقتل منهن نسوة كثيرات.. وتعقب بعض المسلمين الذين احتموا في واد أدنى المدينة وقتل منهم خلقا كثيرا كذلك قتل النساء والأطفال الذين كانوا معهم من دون أن يبقي منهم أحدا، فقد أعدمهم جميعا في مجزرة هائلة وقتل بعض المسلمين من أولي الشأن في المدينة.. ليعملوا السيف في كل المسلمين ونسائهم وأطفالهم فلا تأخذهم فيهم شفقة ولا رحمة»، نهب البرتغاليون مدينة مسقط وسلبوا ثرواتها ثم «أمر دلبوكيرك بإشعال النار في المدينة فأحرقت مؤن ومعدات كثيرة.. ثم أشعلوا النيران في المسجد فأتت عليه كله ولم تترك منه شيئا وأمر أفونسو دلبوكيرك بجدع أنوف الأسرى المسلمين الكثر رجالا ونساء وقطع آذانهم..».

تمثل هذه النصوص التي أرختها سجلات البرتغاليين أقصى درجات الوحشية التي خلدها مرتكبيها بأنفسهم بوضوح بالغ يعبر عن عداء يستهدف إبادة الآخر واستباحة ثرواته، وهي ذات الوحشية التي تتكرر اليوم بكثافة هائلة ومسرحها غزة المقاومة على مسمع ومرأى العالم، لكن التحرير مصير حتمي مهما طال الزمن، والمقاوم لا تندثر صفحته فهو يولد كل يوم ويخرج من بين الحطام، فقد ثار أهل براوة على القوات البرتغالية ونالوا حرية أرضهم، وكذلك فعل أهل سقطرى في مواجهة البرتغاليين فما لبثوا أن أعادوا تشكيل صفوفهم وطردوا المحتل، تماما كما سجلت وثائق التاريخ كيف ثار العمانيون على المحتل البرتغالي ووحدوا صفوفهم فحرروا شواطئ الخليج العربي بكل بسالة وهمة وهبوا لنجدة أهل البصرة وتمكنوا من تحريرها وطاردوا البرتغاليين إلى سواحل أفريقيا لتحريرها، وكذلك اليوم يقاوم الفلسطينيون من أهل غزة عربدة الاحتلال الصهيوني ودمويته حتى ينال هذا الشعب المكافح حريته الحتمية والآتية عما قريب بدون أدنى شك.