عمان الثقافي

البحث عن التعايش والسلام في «كطائر يحلم بالمطر»

يلجأ الشاعر يونس مرهون البوسعيدي في نصه لعدة ظواهر مثل حشد الثنائيات والسخرية والاستهزاء وكسر أفق التوقع حتى يعبر عن النسق الثقافي مستخدما أدوات كثيرة في ذلك، ونظرا للجوء الشاعر لصدمة القارئ ثقافيا، فإن المقال يتناول المنهج الثقافي حتى يتناول الأنساق الثقافية المضمرة في النص مع وجود إشارات لأدوات البناء الأسلوبية أيضا.

فعنوان المجموعة الذي يطل بها الشاعر علينا «كطائر يحلم بالمطر» هو خروج على عناوين النصوص، فما من نص فيها صدر بهذا العنوان، «وهو له وظيفة جمالية تتمثل في تزيين الكتاب وتنميقه، ووظيفة تداولية تكمن في استقطاب القارئ» وقد اعتمد الشاعر على كاف التشبيه، في محاولة لربط الواقع بالمتخيل الشعري، حيث نطرح سؤالا من الذي يشبه الطائر... أين المشبه؟ من اللبنة الأولى للمجموعة يرسخ الشاعر المنهج الذي يقوم عليه في بناء تساؤلاته الوجودية والشعرية أيضا، وتأويل المشبه هنا لا يمكن أن نحجزه في جانب واحد، فهو على حسب المعطيات، فقد يكون الشاعر، وقد يكون المواطن وقد يكون الباحث عن الحرية المطلقة وقد يكون الباحث عن حرية الإبداع.

ثم من الملاحظ أن الشاعر في كل النصوص يطرح فكرة البناء والهدم حيث يبني من المستحيل شيئا ومن الموجود المقدس يساوي به الأرض حتى تتجلى علاقات قد تكون متضادة للنيل من الآخر والتي تستهوي الشاعر، وربما علاقات متجاورة، وفي هذه المجموعة يتوقع القارئ أن النصوص متجاورة بحكم الشكل الذي تبنى عليه، فالنصوص جاءت من البحور الشعرية الخليلية العمودية الوزن وأخرى من شعر التفعيلة الحرة في وقفة القافية، والمدورة في بعضها، تتعاضد هذه النصوص مع نصوص أخرى ذات بعد ثائر على كل الإيقاعات، من قصيدة النثر.

لكن بعد القراءة الفاحصة للنصوص يتبين لك أنها لم تكن متجاورة في المجموعة بل هي أشبه بثورة من الشاعر على الأنساق الثقافية الكثيرة والتي ظهرت بشكل مضمر في عدة أماكن منها وقد تكون بارزة أيضا. أما تجاور هذه النصوص فهي أقرب لتعايش النصوص مع بعضها البعض. وهذا ما يجعل السؤال مطروحا: ما التعايش الذي يتكون من تجاور النصوص المتعددة الأشكال؟

أنواع التعايش في مجموعة كطائر حلم بالمطر:

أولا تعايش الأصناف والأشكال: وهو يقوم على انسجام التفعيلات المتعددة في النص الواحد وهو ماثل في قصيدة «أربع صور لفصول شجرة» حيث قسم الشاعر صور الشجرة التي التقطها على شكل صورة هادئة متكئة على تفعيلة «متفاعلن» ويبرز منها الهدوء الذي يتماهى مع الشجرة ولكن هدوء الحياة والموت، حيث يتناوب الاثنان في تقاسم الهدوء من بعضهما، ومن تزاحم أوصاف اليوم وقدسية الهدوء الذي لا يتعلق بالسكون فقط بل بالحياة أيضا، والرابط بين الموت والحياة هو هذا الزمن المتأرجح بين الواقع واللاواقعي، اللحظة الزمنية المندسة في اليوم تضم في جنباتها عدم الرضا والتسليم لتناهي الوقت بل يندفع الشاعر في محاولة جادة في النيل من الاضمحلال والانتهاء بدفع سخريته في جملة (ونحن صرنا نشبه الكومبارس) حيث صرنا منسحبين في هوس التأمل في السكون.

ما حيلة الإنسان من توالي اليوم أو انتهائه غير محاولته مقاومته بعالم السخرية والاستهزاء لعله يرضى بمضي الأيام، فالصورة الهادئة التي التقطها الشاعر بحروفه وكاميرا التصوير الشعري تتمثل في تسكين حركة اليوم وترويضه حتى يصبح سهلا مطيعا هادئا في رحيله ولا ضير من استخدام أدوات ساخرة تندس خلفها ثقافة دينية مثل الإيمان بالبرزخ:

اليوم يمضي هادئا/ شجر بلا طير/وقلب دون محبوب/ فلا شيء يجرح صفوه/تجري البرازخ مثل نهر بالهباء/ونخن صرنا نشبه الكومبارس/ اليوم يمضي هادئا...

تكرار «اليوم يمضي هادئا» خمس مرات يعكس أيضا النسق الثقافي المضمر في المجتمع من عدم الاهتمام بالوقت والزمن وانتشار اللامبالاة في المجتمع في اليوم الذي يعاش، مما يجعله سريع المضي.

أما الصورة الثانية هي (صورة بطيئة): من العجيب أن يكون الإيقاع سريعا في (صورة بطيئة) فالمقطع هنا من تفعيلة المتقارب فعولن وزحافاتها، ولابد من الانتباه إلا أن نمط البطء هو ما يسيطر على المشهد اليومي، فهنا يعتمد الشاعر على كسر أفق التوقع وهذا النوع من الطرق المعتمدة على النمط المبني على الثقافة المبنية بين الشاعر والمحيط الذي حوله، يرى الباحث أن عدم انسجام الإيقاع والنمط هو من أدوات الهدم والبناء فالخروج عن المألوف في اللغة وإيقاعها مع مضمون البناء يبعث لك بصورة غير متوقعة هي كاسرة لأفق التوقع:

كظلّ على الماء.. أسري/كأوبرا لموزارت في هدأة الحب.. أبكي/ وأمضي لكي لا أحس بأني أشيب/أغير أشجار بيتي كل مساء، لكي لا تمل مقاعدها/وحتى تزور الظلال أماكن أخرى/وكي لا يحاصرني الخوف مثل الجبال

ثانيا: التعايش من خلال كسر أفق التوقع:

من خلال النمط المترسخ في الذهن يكسر الشاعر أفق توقع الواقع فالشاعر يغير رتم الحياة الراسخ بعدة أمور مثل تغيير أشجار البيت وتغيير التكنولوجيا والغناء الذي يتسلى به وكل هذه الأمور هي تحتاج وقت لتنفيذها ولكن مختلف من حالة إلى أخرى فلا يمكن أن يكون زمن الغناء كزمن تبديل شجر البيت وهذه طريقة الشاعر في البناء والهدم الماثل في تشكيل ثقافة جديدة تخص ذاته، ضاربا عرض الحائط كل الثقافات الأخرى غير معترف بها بل هو يهدم البناء التقليدي المنغرس في النمط ويبني نسقا جديدا يأمل أن يكون متبوعا ومرادا.

في الصورة الثالثة (صورة شبه موناليزية):

ثالثا التعايش من خلال حشد الثنائيات: الإيقاع هنا هو «فاعلاتن» من بحر الرمل وزحافاتها ويتحدث الشاعر عن الحب والموت وهي ثنائية طالما ترد في نصوص المجموعة قاطبة، حشد هذه الثنائيات من خلال عدم وجود رابط بينها وجعل وجود رابط يجمعها، وأن كانت متنافرة وهذه من طرق الشاعر في البناء والهدم وجعل بناء الذاتي هو الأصل لا يهتم بالنمط المسبق فالموت والحب (خطان متوازيان لا التقاء بينهما، والعلاقة التي تربطهما والعلاقة التي تربطهما علاقة قيمية لا أكثر):

ما أنا أقرب للموت/ ولا للحب أقرب/أغمضي عيني هذا اليوم/ إني/لا أرى خلفي/

ولا في الأفق ما يدفعني/كي أتهرب/ ككتاب لم أمزق صفحة فيه/ولا بالبيت ماذا/في صحاف العمر يكتب

يبدو نسق اللهو واللعب هو المهرب الأساسي من الموت والمكان الآمن للحب فيهرب الشاعر من الواقع بالمرح واللهو حيث ينتصر الإنسان به.

رابعا: التعايش مع الزمن في صورة أخيرة هاربة:

هذا المقطع يعتمد على البحر البسيط وهو يدل أن النص اعتمد على عدم الانسجام بين الإيقاع في كل مقطع على حدة ولكن من خلال التمازج في النسق الثقافي تجد الانسجام بين المقاطع:

ماذا سأفعل بالأيام ليس بها غير الكهانة تقفو سير كوكبها

أبريل مثل سجاح لا أصدقه أيام أبريل إني من مكذبها النص يظهر نسقا مضمرا مثل الكذب الذي يدخل في ثقافة الناس ويحاربها وكذبة أبريل هي علامة وأيقونة دالة على الكذب وعليه يفضح الشاعر النسق المضمر في وضع الحكمة وهو من طرق الشاعر في التعايش مع الوضع الراهن:

فديت عمرك، لا تحسب لياليها وأنعم بما استطعت في الدنيا وأطيبها

يجعل الشاعر من التنعم هو الهرب من الموت والمشاكل والمنغصات الحياة متجها إلى الذات الشاعر ليستغل الزمن استغلا أمثلا. تغري نصوص المجموعة القارئ كي يبحث عن فضاءات كثيرة مثل التعايش والسلام مع الاخر في ضوء ثقافة النص والتلقي وغيرها من الموضوعات الحرية بالتأمل.

د. عبدالله الكعبي باحث وشاعر عماني