عمان الثقافي

تفكيك علاقة العنف بالديانة المسيحية في العصر الوسيط

 
هذا الكتاب في أصله محاضرة ألقاها المؤرخ «فيليب بوك» Ph. Buc يوم 30 أبريل 2010 بجامعة «أفينيون»، قارب فيها العلاقة المتشابكة والمعقدة بين العنف والديانة المسيحية، منطلقا من معطيات العصر الوسيط.

ولأن قضايا الكتاب جاءت في شكل فقرة طويلة مسترسلة، ذات أفكار وقضايا وأسئلة يأخذ بعضها بأعناق بعض دون عناوين فرعية، فقد حاولت رصد أجزائها عبر تقسيمها إلى المحاور الآتية:

* وصف الكتاب.

* راهنية الكتاب وإشكالياته.

* تفكيك علاقة العنف بالديانة المسيحية في العصر الوسيط.

* العنف الديني ميزة كثير من المجتمعات.

* خاتمة

أولا: وصف الكتاب

ضمن طبعة أنيقة راقية من الحجم الصغير، وفي مائة وأربع وأربعين صفحة، قدم «فيليب بوك» -المؤرخ المتخصص في العصر الوسيط- مقاربته لعلاقة الديانة المسيحية بالحروب، ولمظاهر العنف التي توالت في الحضارات الغربية الأوربية والأمريكية من العصر الوسيط إلى بدايات القرن 21م.

تضمن الكتاب مقالات تمهيدية وتقريظية للكتاب بأقلام د: محمد سبيلا، ود: حسن الغرايب، ود: «جاي لوبريشان»، ود: عبد النبي ذاكر. كما حوى رسائل عن الكتاب للسيد عبد الكبير الإسماعيلي العلوي مدير منشورات الزمن، ثم مقدمة للمترجم د: محمد جليد.

هذا، وقد اتسمت ترجمة د: محمد جليد بالدقة في اختيار المفاهيم والمصطلحات، والأمانة العلمية المتمثلة في عدم التصرف في مضامين النص الأصلي، نظرا لخصوصيته المعرفية التاريخية، وحساسيته الدينية، مع سلاسة جعلت الكتاب يبدو كأنه مؤلف أصيل للدكتور جليد.

ثانيا: راهنية الكتاب وإشكالياته

تتمثل أهمية الكتاب في معالجته قضية قلما تفارق النقاشات العلمية والسياسية والاستراتيجية اليوم، تشير إلى العلاقة بين الدين ومظاهر العنف بين الدول، أو تلك الناتجة عن الاقتتال الداخلي ضمن القطر الواحد، أو بسبب التطرف، والإرهاب العابر للأقطار.

كما أننا حين نطالع التساؤلات الكامنة في هذا الكتاب عن علاقة المسيحية بالعنف، نجدها تماثل ما يطرح اليوم عن العلاقة المفترضة بين العنف وكثير من الديانات، وذلك من قبيل: كيف أسهم الدين في نشوء الحروب الداخلية بين طوائف المجتمع الواحد؟ كيف سُوِّغت الحروب ضد الدول التي تتشاركُ العقيدة نفسها؟ كيف تحكَّم الدين في صُناع القرار الحداثيين واللائكيين اليوم حتى بَرَّر حروبهم واقتتالهم؟ هل ينبغي سفك الدماء في سبيل قضية رحيمة، كنشر الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والتدخلات الأممية؟ ما المقصود بالحرب المقدسة والحرب العادلة؟ أين تبدآن، وأين تنتهيان؟ ما دور النصوص الدينية المقدسة بذخائرها الرمزية في كل منزلقات العنف التي نعيشها؟ ما مدى مشروعية ربط العنف بالدين؟ هل العنف فطرة بشرية تتخذ من الدين مطية لتفرض منطقها؟ ما مدى تشابك المسوغات الدينية بالأطماع السياسية، والاقتصادية، والأهواء النفسية عند قادة الصراعات العنيفة؟ هي تساؤلات وأخرى جعلت هذا الكتاب على قصره ذا أهمية كبيرة في تفكيك أطراف معادلة قديمة، ما زالت تتحكم في عالمنا الحديث.

ثالثا: تفكيك علاقة العنف

بالديانة المسيحية في العصر الوسيط

بتعمقنا في الكتاب أمكننا تحديد بعض الأسباب التي دفعت المؤلِّف إلى ربط المسيحية بالعنف الوسيطي، من ذلك:

أ-استغلال أصحاب الأهواء السياسية والاقتصادية والطبقية العنصرية للدين. دليل ذلك ظهور العنف في بيئات لائكية حداثية، تبين للمؤلِّف حين فحصها أنها سلالات «مُعَلْمَنَةٌ» من الثقافة الدينية، ألبست نزوعات الشرف الأرستقراطي الطبقي الوسيطي لَبوسا مسيحيا، ألغى أقوال المسيح أمير السِّلم في المسيحية. إنها أهواء سياسية مصلحية لم تتورع عن إباحة محظور ديني هو الطلاق، والتحلل من الالتزامات الزوجية لمن أراد المشاركة في الحملات العسكرية الصليبية، مما شكل «فضيحة» على حد قول المؤلِّف. دون أن ننسى اعتبار هذه المشاركة وسيلة للتكفير عن الذنوب والمعاصي، ومطية للتخلي عن كل التكاليف المدنية.

ب- استلهام عنف العهد القديم التوراتي حين أُلحِقت نصوصه بالعهد الجديد الإنجيلي. استلهامٌ برر لـ«جان دارك» عذراء أورليان الفرنسية فكرة أن «السِّلم الحق لا يتحقق إلا بحدِّ الرماح». وهذا ما حرَّك حروبها ضد الإنجليز، والفرنسيين المتعاونين معهم، ثم دفعها نحو ما اعتبرته تطهيرا للبلاد والعباد من جميع الرذائل الأخلاقية، استعدادا لاسترداد ما وصفته بالأراضي المقدسة من يد المسلمين. كل ذلك بتحفيز من نبوءات دينية زعمت رؤيتَها.

مكنت هذه الحقيقة المؤلِّف من تفكيك تلك العلاقة الثنائية الخطيرة الجامعة في الكتاب المقدس بين ربٍّ أبٍ منتقم توراتي، هو سيد الجيوش، وربٍّ ابنٍ رحيم مسيحي، لا يجد أتباعه غضاضة في الحرب لأجل تحقيق نبوءات توراتية غابرة.

أمام هذا الفهم العنيف، أعلن المصلح الديني «بيتر شِيلْسِيكي» صراحة أن كلَّ ما جاء في العهد القديم من أعمال الإكراه والحرب، أمست أعمالا وثنية حين جاء المسيح، وكلَّ إشراع للسيف هو محاولة أخيرة من الشيطان لإسقاط الكنيسة الحقَّة.

ج- تبادُل المسيحيين التهم بخدمة مؤامرة غيبية كونية، يمسك خيوطها الشيطان، مستعينا ببعض المسيحيين الخونة، وقطاعِ الطرق، والخارجين عن القانون، والعاهرات، والوثنيين، والمرتدين، والهراطقة، واليهود «قتلةِ الرب»، والمسلمين المتخفِّين، لإطاحة حكم الكنيسة والمَلِك المؤمن بها الخادم لها.

د- الإيمان بحرب يوم القيامة أو يوم الدينونة التي سيشنُّها ملائكةُ الإبادة، وعمالُ الحصاد الأخير لتنقية «الحنطة من الزُّوَان»، وإلقاء الأعشاب الضارة في النار . بهذا، سيُقضي على جميع الشر الذي يمثله الوثنيون واليهود إذا لم يتَنَصَّرُوا. أما المهرطقون فسيُقتلون دون استتابة، وذلك حتى تُبني مملكة السلام الأبدي. المثير في هذه الحقيقة الإيمانية، تأكيد المؤلِّف أنها غذت الممارسات البُلشفية العلمانية، والنازية ، وحروب أمريكا الملطَّفة منها والعنيفة !

هـ- الاقتتال المسيحي الداخلي الناتج عن التكفير المتبادل، أو عن التنابز بالألقاب القدحية كالهرطقة، أو عن القذف بالتشبه بالمسلمين أو الأتراك الروحانيين، أو عن اجتهادات رجال الدين المسيحيين الذين فوضوا الحق في استعمال العنف للقياصرة، والملوك، ثم للقضاة، وحتى للعامة في حالة غياب المَلِك.

رابعا: العنف الديني ميزة كثير من المجتمعات

ضمن هذا الكتاب، يأخذنا «فيليب بوك» في رحلة تاريخية وجغرافية، ليكشف في الآن نفسه عن المضمر العنيف الحاضر في ثقافات غير غربية، تخص شعوب أمريكا اللاتينية «ما قبل الكولومبية» واليهود والمسلمين، ثم ليميط اللثام عن مستور ديني عنيف، وَسَمَ جبين المجتمعات الحديثة خاصة الغربية الأوروبية والأمريكية.

1- ديانة التضحية

استهل المؤلف رحلته الزمنية في عالم الحروب بالعودة إلى التضحيات البشرية التي كانت جزءا من معتقد شعوب أمريكا اللاتينية كـ«المايا» و«الأزتيك»، حيث درج سكانها على تمزيق أبناء جنسهم وعقيدتهم من الأسرى في إهراماتهم المقدسة، حتى لا تأتي نهايتهم، ويختفي كونهم، ولتمتد دورة شُموسهم مرة أخرى، مما شكل عنفا مستمرا لا ينقطع.

2- إبادة هنود الأمريكيتين

تمت هذه الإبادة بدعوى تطهير الهنود من وثنيتهم، وهمجيةِ تضحياتهم البشرية السالفِ ذكرها. مما حدا بـ«فيليب بوك» إلى التساؤل متعجبا: «ألم يكن على إسبانيا المسيحية أن تتدخل لوقف الرعب الناتج عن التضحية والاستبداد؟» عوض اجتثاث عِرق بكامله، وطرد من تبقى منه إلى مجاهل الأدغال!.

ميَّز هذا التصرف العنيف نفسه مستوطني أمريكا الشمالية من «البيورتانيين» التطهيريين المسيحيين في القرن 17م، حين برروا لأنفسهم ولمعتقَدهم حرق الهنود الحمر، بدعوى تحالفهم مع الشيطان والكنديين الفرنسيين. وهو أمر تمَّ دون شفقة، لأن هذه الأخيرة -وفي هذا السياق «الكالفيني» المقدَّس- ستُعتَبَر «فشلا ذريعا في الحرب المقدسة» ، من ثم، كان الحرق أمرا مفرحا للرب، جعله يضحك وهو يرى أعداءه يُرموْن في السعير الأرضي!.

3- الحرب الأهلية الأمريكية في القرن 19م

حرب جددت العقيدة الإنجيلية داخل الجيشين الشمالي والجنوبي، والسكان المدنيين، مع استنادٍ لإصلاحات أخلاقية، ذات نزعة دينية تمظهرت بشكل خفي في خطب «أبراهام لنكولن».

4- حرب «لويس التاسع» الصليبية

حيث أقنع «لويس التاسع» محاربيه وشعبه أنه فردٌ منهم، وأنَّ حربَه حربُهم وحربُ كنيستهم، إنْ انهزم معهم سيدخلون الجنة جميعا، وإن كان الفوز حليفهم، فذلك لِمَجْد الرب وفرنسا، لا لمجده الشخصي . بهذا، عزم على شن حرب داخلية تقضي على المهرطقين، واليهود، والقساوسة الكذبة، وكل الرذائل، حتى يتجه لحرب المسلمين وهو في قوة ومنعة، وقُدسية خلعها عليه أتباعه، جعلت يؤسر بتونس بعد ذلك!

5-الثورة الفرنسية

يثيرنا المؤلف في هذه النقطة، حين يكشف بكل جرأة عن حقيقة هذه الثورة التي تتقدم للجمهور العريض بوصفها علمانية، جاءت لدكِّ صروح الأنظمة السياسية الكنَسية المستبدة الفاسدة بأوروبا والعالم، في حين أنها قامت كغيرها من الطوباويات الأوربية -التي جاءت بعدها- على «تلازمٍ بين الحرب المقدسة الخارجية، والإصلاح، وتطهير المجتمع، حتى وإن اقتضى ذلك حربا أهلية». وهو ما تمظهر جليا في حروب المؤمنين بها على الإنجليز، والبروسيين، والنمساويين، والمهاجرين، والكهنة المتمردين، والملكيين، والغاضبين من الثورة، والمشبوهين. بل تحولت هذه الثورة إلى صراع ضد «جميع الرذائل التي تضر بالمواطنين»، لتنتِج في الأخير ثنائية سماها المؤلف بـ«الرعب والفضيلة» .

خاتمة

رغم قصر هذا «الكتاب-المحاضرة»، إلا أنه صدم قارئه باستحضار الحقائق التاريخية بكل صراحة وشجاعة، حتى يحللها بمنهجية صارمة. كما كشف استناد أصحاب الأهواء السياسية إلى الكتب الدينية المقدسة وأدبياتها الرمزية، ليحققوا مطامعهم الدنيوية البعيدة كل البعد عن التدين الحقيقي المسالم، المؤمن بمبدأ الحوار، والعيش المشترك. حقائق فتحت الكتابَ على مجالات وتخصصات لها علاقة بظاهرة التدين، وعلوم النفس المركزة على الأهواء النفسية الفردية والجمعية.

هذا دون أن ننسى أن المؤلف أشار بكل وضوح إلى أن استغلالَ الدين والتدثر بعباءته لممارسة العنف، يؤشر في الحقيقة على حالة أزمة يعيشها كل شعب يرى نفسه مختارا متميزا عن غيره. كان ذلك في الماضي الوسيط، وهو حاضر في عصرنا، وللأسف قد يلازم مستقبلنا.

مصطفى لكزيري أستاذ الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين فاس-مكناس المغرب