عمان الثقافي

«الترجمة المشتركة».. تعاون بين شريكين أم معركة بين غريمين؟

 
تضطر الظروفُ دارَ النشر، أحيانًا، أن تستعين بمترجميْن أو أكثر لإنجاز كتاب، إما لأن العمل صعب، أو ضخم، وإما لأنها في حاجة إلى إصداره بسرعة شديدة ليلحق بأحد معارض الكتب، وهي غالبًا تترك للمترجم الأكثر خبرة مهمة اختيار شريكه، أو ترشح له بعض الأسماء، وفي جميع الحالات يحاول الاثنان أن يتوافقا على لغة العمل، وغالبا يُعهَدُ لأحدهما بأن يراجع الكتاب ويمنحه نغمته، فلا يصح أن تبدو إحدى الترجمتين ناتئة عن الأخرى. هذا التحقيق هو محاولة للاطلاع على تجارب الترجمة المشتركة لدى بعض المترجمين المجيدين في العالم العربي.

اشترك الروائي والمترجم المصري ياسر عبداللطيف مع الشاعر والمترجم المصري محمد مجدي في ترجمة «رسائل فان جوخ»، كان هو يعيش في كندا ومجدي يعيش في مصر فكيف أنجزا العمل؟ يقول: «في الواقع، وقتها كان محمد مجدي قد غادر مصر إلى شيكاجو في الولايات المتحدة، فصار الفارق التوقيت بيننا بسيطًا، وصار بمقدورنا التواصل على الإنترنت أثناء العمل، ما سمح بالتشاور بيننا في بعض المعضلات. ترجمتُ النصف الأول من الكتاب وما يزيد عن ذلك قليلًا وترجم مجدي أو «هرمس» حسب اسمه الأدبي، النصف الثاني من الكتاب إلا قليلا. كان عملا مرهقا، ليس فقط لأن الكتاب ضخم (1300 صفحة) ولكن لأننا أيضا عايشنا شخصية فنسنت المرهقة بكل تقلباتها من خلال يومياته التي يدوِّنها في رسائله، لشقيقه تيو في الأغلب ولبعض أصدقائه وأقاربه أحيانًا».

وكيف منحا الناس إحساسًا بأن المترجم واحد وليس اثنين؟ يقول ياسر عبد اللطيف كان لا بد من عملية تحرير شاملة؛ لتوحيد المعجم الأدبي والاحتفاظ باللكنة الشخصية للكاتب. ويعلق: «أنا وهرمس ككاتبين لكل منا خياراته من المفردات ومعجمه الأدبي المختلف عن الآخر. كان لا بد أيضًا من الحفاظ على الطابع العفوي البسيط للغة الرسائل، حتى لو كان يتناول أحيانًا مسائل فنية أو أدبية تشغله، فهو في النهاية يكتب خطابًا».

وما الذي شدَّه إلى رسائل فان جوخ؟ يقول إن الاختيار كان للناشرة كرم يوسف مديرة دار «الكتب خان» المصرية، فهي من تحمَّست للكتاب خاصة بعد وفاة شقيقها «محمد»، الرسَّام والشاعر، الذي كان متيمًا بفان جوخ. وهو، أي ياسر، تحمَّس بدوره للرسائل؛ لأنه كان يعرفها منذ زمن طويل عن طريق الروائي الراحل الأستاذ علاء الديب، فقد كانت لديه نسخة إنجليزية من مختارات أخرى من الرسائل أصغر حجمًا. كما كان ياسر قد قرأ أيضًا رواية الكاتب الأمريكي إيرفنج ستون عن حياة فان جوخ وشاهد الفيلم المأخوذ عنها من بطولة بيرت لانكستر في دور فنسنت، فبدت له تجربة الرسائل عملا مثيرا ومهما، وكان لا بد من الاستعانة بمحمد مجدي لإنجاز الكتاب الضخم في وقت معقول. يستدرك: «مع ذلك لم تكن الصعوبة في حجم الكتاب فقط، وإنما في الرسائل نفسها، ولذلك استغرقنا وقتا أكثر من المتوقع. والحقيقة أن الكتاب هو بمثابة بانوراما للحياة الفنية والثقافية الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر، مع غياب تام لأي ملامح سياسية للعصر».

هل يفضِّل ياسر الترجمة المنفردة أم المشتركة ولماذا؟ يجيب: «لكل شخص طريقة خبرة مختلفة. مشاركة عقل آخر في العمل خبرة ممتعة، لا تحدث كثيرا في مهنة الكتابة الأدبية والترجمة التي نمارسها منفردين بطبيعة الحال»، وهل يمكن أن يكرر تجربة الترجمة المشتركة؟ ولماذا؟ يجيب: «كررتها بالفعل في ترجمة كتاب «زائر عيد الشكر» وهو مختارات قصصية للكاتب الأمريكي ترومان كابوتي. كان زميلي هذه المرة الكاتب والمترجم محمد هاني. وتجربة العمل المشترك هنا كانت مختلفة تماما عن التجربة مع محمد مجدي في كتاب فان جوخ. هاني في الأصل يكتب ويترجم في مجال السينما، وكانت هذه أول تجربة له في الترجمة الأدبية، وهو صديق قديم فأدخلني في المشروع معه مُعاونا ومراجعا، والحقيقة أن قصص كابوتي القصيرة كانت تستحق أن تُقرأ بالعربية لشاعريتها البالغة وللتجربة الأمريكية المختلفة التي تقدمها. ونعم، قد أعيد تجربة الترجمة المشركة مرة أخرى لو سمحت الظروف».

فهم التراث البلاغي

المترجم المغربي محمد الولي اشترك مع عائشة جرير في ترجمة كتاب «البلاغة.. المدخل لترجمة الصور البيانية» لفرانسوا مورو، ومع محمد العمري «بنية اللغة الشعرية» لجان كوهين. يقول: «كنا خلال ثمانينيات القرن الماضي، أنا والعمري، أستاذين في شعبة الأدب العربي بجامعة فاس. نتقاسم المشارب الفكرية: الحداثة الشعرية والبلاغة المعاصرتين. كنا من أنصار التحديث في المعرفة والحياة الاجتماعية والأسرية والسياسية، وكانت كل نقاشاتنا في الجامعة وفي البيوت والمقاهي متعلقة بتجديد الدرس الأدبي، وبطبيعة الحال نشأ عندنا مزاج نافر ممن يكرهون الحداثة التي كنا نستعين بها لفهم التراث البلاغي والنقدي».

في هذا السياق كان الاثنان، الولي والعمري، يعتبران المؤلفات الغربية في اللسانيات والشعرية والبلاغة خير تعبير عن الرأي الذي يتطلعان لامتلاكه. وكانا أيضا يحاولان استثمار هذه النظريات في دروسهما في المدرجات الجامعية والمحاضرات والمقالات التي كانا ينشرانها، كما كانا يشجعان طلبتهما على أن يحذوا حذوهما في البحث والتحصيل، وقد أصبح عدد منهم الآن جامعيين مرموقين.

يحكي: «في هذا السياق تعرفنا على أهم كتاب في الشعرية البنيوية ألا وهو «بنية اللغة الشعرية». في البداية كنا ننظم لقاءات أسبوعية في بيوتنا نقدم خلالها عروضاً حول كتب ما، منها «بنية اللغة الشعرية». كان معنا من الجامعين مبارك حنون ومحمد أوراغ وحميد لحميداني، وهي نفس المجموعة التي أصدرت في منتصف الثمانينيات أجمل مجلة مغربية «دراسات أدبية ولسانية»، وهي المجلة التي لم تعمر طويلا مع الأسف، إلا أن توقفها نشأ عنه ولادة خمسة باحثين كبارا لحسن الحظ».

ويضيف: «تنامى اهتمامنا وراودتنا فكرة الترجمة إلى العربية، وقسَّمنا الكتاب إلى جزأين. الأول متعلق بأمور الإيقاع والقافية والمقومات اللفظية، تكلف الأستاذ العمري بترجمته. والثاني المتعلق بالبيان قمت أنا بترجمته. بعد إنجاز العمل تم تبادل الجزأين المترجمين. هنا بدأت عملية التدقيق المفصل وإعداد الاقتراحات التصحيحية والاصطلاحية. وعلى إثر ذلك انتقلنا للمرحلة الحاسمة بالجلوس حضوريا والبدء في النظر في التصحيحات المقترحة، وحرصا على توطين هذه المعرفة البلاغية الجديدة والوافدة كنا نراعي في ترجماتنا احترام الاصطلاحية البلاغية العربية ما أمكن. هذه المراجعات والتعديلات الكثيرة هي التي جعلت لنص الترجمة أسلوبا خاصا، مزيجا من أسلوبي المترجميْن، وبعد التصفية النهائية عرضنا الترجمة على الناشر، دار توبقال المغربية. وللحقيقة فإن الناشريْن وهما الشاعر محمد بنيس والناقد ناظم عبد الجليل ناشران وباحثان ومراجعان».

كل ترجمة مشتركة تكتسب طعما خاصا، بالنسبة للولي، تبعاً للأطراف المشاركة، أي تبعا لسعة تمكُّنهما من المعرفة الخاصة بمجال العمل المُترجَم، وتبعا للتمكن من اللغة المُترجَم إليها ومنها، والأسلوب الذي يختاره المترجمان ويعتبرانه الأنسب للقارئ المفترض. يعلق: «مسألة الفهم تتطلب التعاون حقاً لأجل زيادة زوايا النظر والإمساك بالمعنى، أما التأويل فيضطر إليه المرء حينما يترجم نصوصا إبداعية، مع التأكيد على أن التأويل لا تكفيه الكفاءة اللغوية وحدها».

أما بالنسبة إلى الكتاب الثاني «البلاغة» فيعتبره الولي من أجمل المداخل المدرسية إلى الصورة الأدبية. يقول: «هذا الكتاب لا يطرح مشاكل نظرية، واصطلاحاته أميل إلى تلك الرائجة في البلاغة. قمت بمفردي بترجمة هذا الكتاب، إلا أنني كنت أعرض كل فصل أترجمه على زوجتي جرير عائشة، وهي خريجة شعبة الفرنسية؛ لأن فرنسيتي تحتاج إلى مراقبة المختص».

ويتابع: «لا شك أن الترجمة المشتركة تجعل المشارك أكثر ثقة في عمله، فالنظرة إلى النص من زاويتين قد تجعل المترجمين أقل عرضة لأخطاء المترجم المنفرد. وعلى الرغم من الحرية الرائعة التي يتمتع بها المترجم المفرد فإن قيود الترجمات المشتركة لها نقاط قوة مقابل تقييد الحرية التي يمكن أن تكون مضرة أحيانا»

تجربة مثمرة

المترجم المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس اشترك مع المترجم المصري المقيم في سويسرا يوسف ليمود في ترجمة مختارات للشاعرة النمساوية إنجبورج باخمان فكيف اختار أحدكما الآخر؟ يقول جريس إن المشروع في البداية عُرض على الشاعر والفنان التشكيلي يوسف ليمود، نظرا لمكانة إنجبورج باخمان في الشعر الألماني الحديث، وعدم ترجمة قصائد لها في ديوان واحد، اللهم إلا قصيدة في صحيفة هنا، أو مجلة هناك، وغالباً عبر لغة وسيط، ثم عرض يوسف بدوره عليه أن يُترجما معا الديوان، وهو ما رحَّب به للغاية.

يحيلني جريس بعد ذلك إلى ما كتبه ليمود في مقدمة الديوان: «على الرغم من شهرتها الكبيرة، وعلى الرغم من عشرات الترجمات ومئات الكتب والدراسات التي كُتبت عنها في لغات العالم المختلفة، لا يكاد القارئ العربي يعرف اسم إنجبورج باخمان؛ إذ لم يترجَم من أعمالها إلى العربية سوى المجموعة القصصية «العام الثلاثون»، أما شعرها فلم يُترجم منه، حسب علمنا، سوى نثار يُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، وتم ذلك في الغالب عبر لغة وسيطة، وليس من الأصل الألماني. ولعلها المرة الأولى هنا، التي يشترك فيها مترجمان، لغتهما الأم هي العربية، في ترجمة كتاب شعر من لغة أخرى. المألوف أن تكون العربية لغة أحدهما الأم، والمترجَم منها هي اللغة الأم للآخر. السؤال هو ما جدوى هذه التجربة وقد كان بإمكان أحدهما أن يقوم بالمهمة منفردا؟ النص المترجم وما مرَّ على مسوداته من تعديلات كان الجواب. ترجم كل منا نصف القصائد وأرسله للآخر ليُعمِل فيه ملاحظاته واقتراحاته، خصوصًا في بعض الكلمات أو السطور الملتبِسة، المتناثرة في العديد من قصائد باخمان، خاصة الملحميّ منها. عبر هذه التبادلية أخذت النصوص المترجمة شكلها شبه الأخير. وكان قد أوكل لي سمير مهمة الصياغة النهائية لتعميد النصوص كلها في ماء واحد، مثلما أوكل لي مهمة كتابة هذه المقدمة. لا يفوتنا هنا أن نقدّم الشكر للشاعر المغربي حسن نجمي الذي قام بمقارنة العديد من القصائد بالترجمة الفرنسية وإبداء ملاحظاته التي أفدنا منها».

يعلق جريس: «التجربة كانت مثمرة بالنسبة لي، ومن الممكن أن أكررها، بشرط أن أجد زميلا تتفق ذائقته واختياراته اللغوية معي، غير ذلك أفضِّل العمل وحدي».

شراكة مع الابن

المترجم السوري ثائر ديب أكد أنه مارسَ نوعين على الأقل من الترجمة المشتركة، الأول هو أن يقوم أكثر من شخص بترجمة العمل بدون تنسيق، يكمل: «هذا حدث معي في كتاب إدوارد سعيد «فرويد وغير الأوروبيين»، المترجم الآخر، فاضل جتكر، ترجم جزءا من الكتاب ونشره في مجلة «الكرمل»، أما أنا فقد كلفتني دار «الآداب» بترجمة المقدمات والتعليق على محاضرة إدوارد سعيد، وجُمعت الترجمتان بدون أن نلتقي أنا وفاضل. لكني غير راضٍ عن هذا التعاون، والقارئ لن يعرف أين المشكلة إلا لو كان خبيرا باللغة الإنجليزية واطَّلع على النص وقارن دقة الترجمة، في تلك الفترة كنت مضطرا لهذا العمل، ولم أفكر وقتها في أن ترجمة الشخص الآخر لن ترضيني، وبعد وقت قلت يا ليتني لم أفعل».

ينتقل ثائر إلى النوع الثاني من الترجمات، وهو العمل مع مترجم أو أكثر بشرط أن يكون هناك تنسيق بينهم، بحيث يشارك الكل في مراجعة الترجمات. يقول: «اشتركت مع ابني مهيار في كتابين حتى الآن، أتيح لنا التفاعل وقمت أحيانا بدور المترجم والمراجع، وأحيانا أخرى المراجع فقط».

ويضيف: «اكتشفت شيئا مهما للغاية في الترجمة المشتركة، وهو أنها قد تكون حلا للمسارعة بإنهاء ما لم تترجمه الثقافة العربية. نحن دائما نقول إننا مقصرون في كمِّ ترجماتنا، وبالتالي فإن الترجمة المشتركة تساعد على سرعة الإنجاز، بشرط ألا يكون هناك تعجُّل زائد قد يتسبب في مشاكل وأخطاء. أظن أن مشاريع الترجمة العربية لو كانت جدية وغايتها الإنجاز، كمَّا ونوعًا، يمكنها اللجوء إلى هذه الوسيلة، بشرط اختيار مترجمين ومراجعين جيدين حتى لا تتحول الترجمة إلى عمل تجاري».

بُعد المسافة ليس مشكلة

الشاعر والمترجم أحمد يماني اشترك مع الشاعرة رنا التونسي في ترجمة ديوان للشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك بعنوان «لا شيء يشبه القلب» فلماذا اختار رنا بالذات؟ وكيف منحا الناس إحساسا بأن المترجم واحد وليس اثنين؟

يجيب: «في الحقيقية بدأت فكرة ترجمة مختارات بيثارنيك بشكل عفوي، إذ كانت الصديقة الشاعرة رنا التونسية ترسل إليَّ بين الحين والآخر بعضا من ترجماتها عن الإنجليزية لقصائد بيثارنيك، من جهة أخرى، كنت قد ترجمت لنفس الشاعرة من قبل قصيدة طويلة، ورغم أنها كانت الأساس لفكرة الترجمة لكنها في النهاية لم تُنشر في المختارات. وارتأينا أنا ورنا أنه سيكون جيدا أن نُترجِم لها قصائد أخرى وننشرها في كتاب مشترك، وبدأنا العمل على هذه الفكرة حتى أتممنا الترجمة. كنا نراجع ترجماتنا أولا بأول ونتبادل الآراء حولها، وبعد ذلك نصل إلى صيغة مشتركة، كذلك ضاهينا ترجمة رنا عن الإنجليزية بالنص الأصلي في الإسبانية، والطريف أن مترجمة بيثارنيك إلى اللغة الإنجليزية قد سمحت لنفسها في بعض القصائد بالحذف والإضافة، وهو ما انتبهنا إليه عند المراجعة ومن ثم تلافيه».

أسأله ما الذي شدك إلى ديوان أليخاندرا بيثارنيك؟ فيقول إنها شاعرة عظيمة، وكما ذكر الروائي الأرجنتيني ثيسار أيرا في كتابه عنها فإنها أرادت دائما أن تكون شاعرة جيدة، بغضِّ النظر عن أوضاعها النفسية، والتي كانت بشكل ما سببا في شهرتها. لكنها في الحقيقة شاعرة خاصة للغاية، وقد رأى يماني أن يترجم قصائدها «الصعبة»، التي لم تحظ باهتمام كبير في الترجمات، وهو يصفها بالصعبة؛ لأن لديها طريقة خاصة في اللغة وفي خلق الشعر نفسه. وقد اشتهرت بقصائدها القصيرة بالنبرة المباشرة، لكن في الواقع لديها قصائد شديدة التركيب على مستويات عديدة.

أسأله: «أنت تعيش في إسبانيا ورنا التونسية تعيش في مصر فكيف أنجزتما الترجمة؟»، فيجيب: «لم يعد أمر التواصل صعبا، ومن ثم فإن البُعد المكاني لا يمثِّل أي عائق. ما قمنا بعمله عبر الإنترنت وعبر الهاتف لا يختلف إطلاقا عما كان بإمكاننا عمله إذا التقينا وجهًا لوجه». ويضيف: «كانت تجربة خاصة ومميزة بالنسبة لي، وأعتقد أنها كانت كذلك بالنسبة لرنا. خصوصية التجربة تأتي من العمل المشترك والاستماع لوجهة النظر الأخرى، والوصول إلى صيغة شعرية أمينة ومناسبة».

هل تفضِّل الترجمة المنفردة أم المشتركة ولماذا؟ يجيب: «هناك دائما ترجمة مشتركة بمعنى من المعاني، حتى لو قمت بها بمفردي، فقبل النشر أعرض الترجمة على مجموعة من الأصدقاء الأعزاء؛ لأستأنس برأيهم وملاحظاتهم القيِّمة، وأود هنا أن أذكر تجربة مشتركة مع الصديق العزيز الشاعر والكاتب علاء خالد الذي كتب دراسة بالغة الجمال عن شعر ثيسار باييخو بعد أن قرأ ترجمتي لمختارات من شعره».

هل يمكن أن تكرر تجربة الترجمة المشتركة؟ ولماذا؟ يجيب: «لديَّ في الماضي تجارب سابقة في الترجمات المشتركة من العربية إلى الإسبانية بالاشتراك مع شعراء ومستعربين إسبان، أذكر من بينهم على سبيل المثال: الراحل الكبير آنخل جيندا ومونيكا ريبويار وماريَّا لويسا برييتو ولويس ميجيل كانيادا وميجيل كاسادو وفرناندو خولياه. على أنني تخليت نهائيا منذ سنوات عن الترجمة من العربية إلى الإسبانية. والآن لديَّ مشروع مشترك مع المترجمة المصرية الدكتورة رحاب وهدان لترجمة مختارات للشاعر الإسباني مانويل فوريجا».

حسٌّ مشترك

المترجم العماني حسين العبري اشترك مع حمد سنان الغيثي في ترجمة كتاب «إنسان النياندرتال» لعالم الوراثة السويدي سفانته بيبو فكيف اختار أحدهما الآخر؟ يقول العبري: الاقتراح كان من الغيثي فهو متخصص في الجينات ومهتم بالترجمة، وكان قد قرأ الكتاب وشاركه إياه لمعرفة رأيه في ترجمته. يعلق: «نحن صديقان أساسا، وأنا متخصص في الطب النفسي وأقرأ في العلوم والجينات والتطور، وكنت قد ترجمت كتابا أو كتابين، لذا كان لاقتراحه صدى في نفسي فوافقت».

كتاب سفانته بيبو سيرة لاكتشاف جينات جنس منقرض من نوعنا، والكتاب مكتوب للقارئ غير المتخصص، ورأى فيه الاثنان، أي حسين العبري وحمد الغيثي، تجسيدا للطريقة العلمية والدأب العلمي وراء الاكتشاف، وهذا ما شجَّعهما على ترجمته.

وقد أنجزاه بتقسيم العمل بينهما، يترجم العبري فصلا فيراجعه الغيثي، ويترجم الغيثي الفصل التالي ويراجعه العبري. كانا يضعان النقاط المُختلَف عليها جانبا أثناء الترجمة، ويعودان إليها لاحقا للمناقشة وتوحيد الرأي، ولذا فالكتاب فيه حسٌّ مشترك فهو مزيج من ترجمة الاثنين.

يقول العبري: «بعد ترجمتين مشتركتين، أرى أن الترجمة المشتركة فيها ميزات مثل جمع الخبرات اللغوية والعلمية، وكثير من النقاط قد تفوت المترجم فربما ينبهه شريكه إليها. وبها كذلك سيئات مثل أن ينتصر مترجم لرأيه في ترجمة جملة أو مصطلح مما يجعل العمل عبارة عن تسويات قد لا يتفق عليه الطرفان، ولذلك أصبحت أفضِّل الترجمة المنفردة»، ويخلص من كلامه السابق إلى أنه لن يكرر الترجمة المشتركة، وربما لن يكرر الترجمة ككل. يقول: «أنا هاوٍ فحسب ولا أجدني قادرا على بذل الجهد والوقت في الترجمة، كما أنني أيضا لديَّ أعمالي الأدبية مما يجعلني أُفضِّل إنجاز كتاب، على أن أُترجم كتابا لمؤلف آخر».

تنظيم وتنسيق

الروائي والمترجم المصري محمد عبد النبي يملك تجربتين في الترجمة المشتركة. الأولى مونودراما قصيرة مع صديقه المترجم المصري أحمد شافعي، ترجماها وهما في سن صغيرة، ربما كانا قد تخرجا للتو في الجامعة أو على وشك التخرج، على سبيل اللعب والتجريب والتعلُّم. يقول: «تعلّمت منه الكثير كما لم أزل أتعلَّم منه. كانت تجربة ودِّية لا تطمح إلى أي شيء، لكني فكّرت في نشرها بعد سنوات من ترجمتها، ونُشِرت باسمينا معا في مجلة مسرحنا (توقفت الآن للأسف)، وذلك بعد مراجعة وتحرير النص بالتعاون بيننا كذلك».

التجربة الثانية كانت مجموعة قصصية لستيفن كنج، صدرت عن دار «المحروسة» في مصر قبل نحو عامين بعنوان «وردية الليل»، ترجم عبد النبي نصفها الأوَّل ونظرا لضيق الوقت وظروف خاصة عرض النص الثاني على مترجم آخَر ممتاز هو محمود راضي، يعلق: «لا أظن أنَّ قِسمة الحق هذه أفسدت الكتاب أو نفَّرت قرَّاءه، بل ربما العكس».

عبد النبي ليس لديه مانع من تكرار التجربة، أولا إذا كانت بغرض التجريب والتعلم وتبادل الخبرة، وثانيا إذا اضطرته ظروف النشر المختلفة إلى ذلك، على أن يكون معروفا مُوضّح فيها الأجزاء التي ترجمها كل مترجم لئلا يتفرق دم النص بين المترجمين، سواء أكان جيدا أم رديئا. ويقول: «لستُ ضد الترجمة المشتركة، على أن تكون استثناء من القاعدة، وعلى أن يكون لها أسباب وجيهة، منها أن يختار اثنان من المترجمين، أو ربما أكثر، العمل معًا على نص واحد في إطار ورشة عمل، رسمية أو ودية، يتعلّمون فيها من بعضهم البعض، وينتفع كلٌ بخبرات صاحبه».

ويضيف: «في أحيان أخرى يجتمع مجموعة مترجمين لإنجاز موسوعة أو عمل ضخم، وبالطبع تخضع هذه العملية لتنظيم وتنسيق على درجة عالية من الدقة والحرص وغالبا ما يكون لها مايسترو أساسي يوجِّه ويوزع العمل ويضبط النغمة النهائية. كل تلك الحالات الخاصة لا تنفي أنَّ الأصل في الترجمة أن تكون مِهنة انفرادية، فالمترجم مثل الكاتب مثل القارئ، يُستحسَن أن يكون فردا واحدا، وحتَّى عندما يتدخَّل آخرون من بعده للمراجعة أو التحرير لا بدَّ من الحرص الشديد للاحتفاظ بنبرة صوت المترجم وعدم إصابتها بالخلل أو الاضطراب». وينهي كلامه قائلا: «أحيانا أجد اسم مترجمَين (أو أكثر) على غلاف عمل روائي ما، فتساروني بعض الشكوك مُتسائلا أيهم المسؤول عن إنتاج الروح النهائية للرواية في اللغة العربية؟ من ناحية أخرى هل ترجمَ كل واحد منهم قِسما من الرواية أم ترجمها واحد منهم ثم عمل عليها بالتحرير والتنقيح آخَر أو آخرون؟ فأتشكك أحيانا في التجربة برمتها وأتردد في قراءتها، وربما يتغير موقفي هذا مع الوقت إذا صادفتُ نصا أدبيا جميلا متماسكا».