عمان الثقافي

في ذكرى طه حسين: الكاتب بطلا

 
نعرف جميعًا أن الصورة العامة للبطل في ثقافتنا، تكاد تحصر معنى البطولة في الرجل العظيم، سواء أكان مقاتلًا، أو حاكمًا قيض له أن يقوم بأعمال ضخمة تبوّئه مكانة خاصة، قد تكون ذات طابع استثنائي. من ينتج هذه الصورة؟ ينتجها السياق وحاجة الجماعة إلى بطل يكون هو صورة وتمثيلًا لما تؤمن به الجماعة به، فالبطل «متخيل» تصوغه الجماعة بوصفه ممثلا أعمق ما فيها، بوصفه فارسًا أو مقاتلًا، أو أخص خصائصها وقد تكثفت في شخص، قامت هذه الجماعة بإعداده ورعايته وادخاره لينوب عنها، ويمثلها. البطل نائب عن الجماعة وممثل لها وشاهد على عبقريتها. فلا بطل دون جماعة، أو «أمة» تخلقه خلقًا وتتخيله على هواها وأحلامها. هذا يعني أن البطل الفرد –ربما- يدل على مأزق، أو يعبر عن حالٍ يجب تجاوزه، والانتقال بالجماعة إلى حال أخرى مختلفة، من الهزيمة إلى النصر، من التفرق إلى التوحيد، من الظلام إلى النور...إلخ، لذلك يرتبط دائما في الخطاب مثل: السرد التاريخي، أو الأسطوري أو الشعري، بمجازات محددة، كلها تعبير عن خصائص هذه الجماعة بداية من التكوين البدني، مرورا بلغته وخطابه، وصولا إلى «عبقريته» و«فرادته».

هكذا تصورت الجماعة العربية بطلها المثال، ووضعت هذه الصورة أمامها سواء في لحظات مجدها أو في لحظات ضعفها، لتلوذ بها حين تكون بصدد تجاوز الضعف، أو «بناء المجد»، على حد تعبير أحمد شوقي في شعره الذي تغنت به أم كلثوم. لكن هذا البطل المثال يعلو فوق الزمن، ويتجاوز المكان الذي تحيا فيه جماعته التي أسسها ليصبح ملكا لمن استجابوا لدعوته من جماعات أخرى تشكل «أمة الاستجابة» وهي جماعات تبنته وانتمت إليه، فأصبح البطل العابر للإثنيات والعرق والقوميات، صار بطلًا كونيًا.

تغري موضوعه البطل على هذا النحو، بالتأمل والتحليل، لكني هنا بصدد الحديث عن بطولة من نوع آخر في زمن محدد، هو العصر الحديث، الذي يمثل نصف البطل، فيما نصفه الآخر موصولا بالعصور الموغلة في القدم، حيث كان البطل ضرورة لتأسيس جماعة، وحين كانت الجماعة تأخذ صورة «سرب تتقدمه حمامة» على حد تعبير نجيب محفوظ. في العصر الحديث اختلف تخيل البطل، لم يعد هو المخلص المنقذ الذي يعبر بالجماعة من مأزق تاريخي، فهو ليس بديلًا عن جماعته، لكنه فرد ممتاز دال على خصائصها، وفي الوقت نفسه علامة على متخيل جديد، دور جديد، سردية جديدة في عالم متغير، ولذلك لم يعد مقتصرا على مجال البطولة التقليدية للبطل المحارب، بل هو ابن فضاء جديد، ومجالات لم يعرفها الأسلاف، وفي هذا المجال يبدو لي، أن طه حسين نموذج لهذه البطولة، التي استبدلت بالسيف القلم، وبقوة البدن قوة الكلمة، وشجاعة الاختلاف في قراءة ماضي الجماعة وموقعها من العالم. إنه شخص نحيل، فقد البصر وتحدر من فضاء «المعذبين في الأرض» وصار سلاحه العقل النقدي المبدع، فصار إيقونة للحداثة وملهما لمن يحلمون بأن يكونوا جزءًا فاعلًا في العصر وحداثته.

حين نقول إن البطل متخيل، لا يعني هذا أنه ينتمي إلى الوهم، بل إنه تمثيل لمعان غالبًا ما تكون جديدة، وصورة تعبر عن واقع أو عن برهة متطلبة للتحقق. في هذه البرهة تمتلئ الجماعة بتوق لشيء جديد، يخايلها وتهفو لتحقيقه. وتجد في شخص ما العلاقات التي تنبئ عن مواهبه وصقلها، تتفاعل معه، ليكتمل النموذج تضعه في «حدث» في فعل ملائم لوظيفة محددة تكون الجماعة في حاجة لمن ينهض به.

لنحدد أولا تلك البرهة التي شاركت في إنتاج البطل؟ وهي بلا شك فضاء الثورة الوطنية في سنة 1919، والتي تمثل إحدى لحظات التحول في تاريخ مصر الحديثة من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث.

كانت السلطة بيد طرفين، الطرف الأول الاحتلال البريطاني، والطرف الثاني هو القصر الملكي الذي يجلس على العرش فيه، الملك فؤاد المتحدر من إثنية غير الإثنية التي ينتمي إليها غالبية السكان، وهو ملك شرقي مستبد، يمثل سلطة تقليدية هي سلطة الدولة العثمانية قبيل انهيارها، الذي حدث مع تأسيس كمال أتاتورك لسلطة جمهورية تحتذي النمط العلماني. وبعد ثورة 1919 أصبح لدينا طرف ثالث هي الجماهير التي قادها الوفد وكان عمادها طبقة جديدة بازغة سميت تاريخيًا بالأفندية من أبناء المدارس الحديثة على النمط «الغربي» وأسفر جهادها عن دستور 1923. في هذه البرهة التاريخية الجديدة انفتحت مصر، بقوة، على الحداثة، أو ذلك النمط من الحياة والاقتصاد الذي تأسس في الغرب وارتحلت كثير من قيمه وتقاليده، وأدرجت على «أجندة» كثير من الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار.

في سياق أحداث 1919 تأسست ليبرالية منهكة هشة يمكن أن نسميها مع بعض المؤرخين «شبه الليبرالية»، إذ عجزت الثورة عن إنجاز المهام التقليدية التي أنتجتها الثورات الحديثة ومن ضمنها تغيير الخريطة الاجتماعية، وترسيخ القيم الديمقراطية. لكن أهم ما تحقق في هذا السياق كان ذا طابع ثقافي، تمثل في انتشار الصحافة، وتأسيس فنون المسرح والرواية، وتحرير الغناء من طابعه التقليدي. وفي هذا السياق نتذكر أسماء مثل سيد درويش وطلعت حرب ولطفي السيد وغيرهم من الفنانين والأدباء ورواد الحداثة في النحت والفنون التشكيلية، ورواد العلوم الحديثة في علوم الجغرافيا والسكان ودراسة الموروث الشعري والأدبي. باختصار بدأ الجميع يتحدثون عن قضايا مثل هوية مصر وهوية العرب، وحرية البحث العلمي، وتطور اللغات والموقف من الآخر.....إلخ، هذه قضايا فرضها ضغط الحداثة وهي قضايا وضعت المثقف التقليدي في موقع الدفاع.

في هذه اللحظة التاريخية بدأت صورة الكاتب البطل في التشكل. أستاذ مصري في الجامعة الوليدة يصدر كتابا بعنوان «في الشعر الجاهلي» يتبنى فيه نظرية جديدة تشكل في مرحلة ما قبل الإسلام، أو بتعبير آخر أورده المؤلف في مقدمته، «إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليًا، ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلفة بعد ظهور الإسلام»، ولهذا يقترح أن علينا ألا نعتمد على هذا الشعر في استخراج الصورة الصحيحة للعصر الجاهلي، وأننا نستطيع أن نتصوره تصورًا واضحًا قويًا صحيحًا إذا اعتمدنا على القرآن من ناحية، وعلى التاريخ والأساطير من ناحية أخرى. ومن الواضح أن مثل هذه النظرية تشكك في الرواية التقليدية عن الشعر الجاهلي بل عن صورة التاريخ الثقافي، أي صورة اللغة وتطورها. وهي رواية تخلق ارتباطا وثيقا بين «السياق» والخطاب، فكيف يمثل هذا الشعر قيمًا ورؤى للعالم لم يعد فيها العرب قبل انتصار الإسلام، فهي قيم «إسلامية» استخدمت لغة تطورت وتوحدت وتم مركزتها بعد انتصار الإسلام، لذا يجب اللجوء إلى «الشك» والتناول النقدي لموضوع ما ندرس، بمعزل عن سلطة الإيديولوجيا. هذا يعني أن الدارس يجب أن يغادر موقعه بوصفه إنسانًا يدين بدين معين إلى «موقع» الدارس بوصفه يهدف إلى إنتاج معرفة «علمية» عن موضوع درس، مثله في ذلك مثل الكاتب.... الذي يخلق مسافة بينه وبين شخصياته الروائية التي يخلقها بمعزل عن عواطفه الإنسانية. صحيح أن الدارس ينغمس في موضوع بحثه، ويعايش النصوص والشخصيات، لكن ذلك لا يعني أن يتجاهل المعطيات، وتخضع لعواطفه، أو توجهاته الإيديولوجية. من منظور المثقف التقليدي، يجب على دارس الموروث الثقافي والأدبي أن يضحي بالموضوعية في سبيل تعضيد هويته القومية أو الدينية من خلال ترديد ما يقوله القدماء، والمقارنة بين المرويات، لكن في إطار النظرة العامة السائدة المستقرة. هذا معناه أن الدارس اهتم أساسا بما تتخيله الجماعة عن نفسها، وأقصى ما يقدر عليه أن يجادل في صحة مروية ما أو تأويل نص، لكن مع استقراره في موقع المدافع عن الهوية. كتاب الشعر الجاهلي اقترح منظورًا آخر مختلفًا، على أساس أن الحقيقة تولد في الاختلاف ومن خلال الحوار. لكن ما حدث بعد صدور الكتاب كان غير ذلك تماما، انتقلت إشكالية علمية من الفضاء الأكاديمي، أو ما يسميه العرب بـ«خاصة الخاصة» إلى الفضاء العام، حيث الغلبة للعواطف التي لا تعرف الحوار العلمي والبرهنة، ولكنها تبحث عن طمأنينة ويقين في ظل عواصف الحداثة العاتية. ومن ثم صدرت الكتب ونشرت المقالات في الرد على طه حسين، الذي اتخذ صورة ربيب المستشرقين، وشدو العروبة. باختصار صار مثالا لمن خذل قومه، ووضع علمه في خدمة أعدائه. ما علاقة كتاب في النقد الأدبي بالإيمان والكفر؟ في سياق كالسياق العربي الذي ترى بعض عناصره أن الحداثة مؤامرة على الإسلام، يمكن أن نفهم هذه العلاقة إذ إن القول بانتحال الشعر الجاهلي، قد يقود إلى الشك في قداسة اللغة، والشك في آلية «الرواية» الشفاهية نفسها باعتبارها آلية لها خصائص معينة، تجعلها أداة مليئة بالثقوب والتصدعات.

ليس صعبا لمن يتابع هذه المعركة أن يضع يده على أثر الصراعات السياسية والثقافية، والدينية بالطبع، لكن الدلالة الأخيرة واضحة لا لبس فيها، وهي الخوف الشديد من «التغيّر» والذود عن «الألفة»؛ ألفة ما نعرفه واطمأنت إليه نفوسنا، وبالتالي الخوف من تلك الآلية القاسية التي تسمى العقل، والتي يجب ألا تصبح سلطة حاكمة للحياة.

كان من نتيجة المعركة، أن لاذ طه حسين بذاكرته، فكتب «الأيام» التي –ربما- تكون أول سيرة ذاتية في الأدب العربي الحديث، كان كتاب الأيام سردا للنشأة والتكوين، من منظور المؤلف فهو «إيجاز في الذاكرة» بتعبير صلاح عبد الصبور، أو صورة للواقع كما عاشتها الذات التي تشير إلى المؤلف السارد، الذي ابتعد عن عواطفه حين استخدم ضمير الغائب لا ضمير المتكلم. شعر طه حسين بالغبن فقد كان عنف الاستجابة يعني أن المجتمع الثقافي أكثر هشاشة مما كان يظن، أنّ مدفعيته أبعد مدى من رؤية جماعته، أو على أقل تقدير من رؤية جزء كبير من النخبة الثقافية التي تؤثر الاستجابة للسائد وتدافع عن سلطة القديم، ولذا كتب الأيام ليقول من خلال جنس أدبي لم تعرفه الثقافة العربية جيدا، أن ذلك الذي تتهمونه بالزيغ والكفر وكره اللغة العربية، قد تربى كما تربيتم على ثقافة الأمة، دليل ذلك أنه تربى على لغة القرآن، الفارق بينه وبينهم هو وعيه الذي أنتجه العلم الحديث والثقافة الحديثة، مما جعل وعيه مركبًا. يحصن تراثه وتراث أمته بمعرفة لا تتضاد مع العقل، ولا تعادي الإبداع.

السيرة الذاتية نوع أدبي حديث، يقوم مؤلفه بمراجعة التفاصيل التي أسهمت في تكوين الذات وفي صياغة رؤيتها للوجود. وكان جزءا من أهمية نص الأيام أنه يكتب حصار الفقر والجهل للإبداع، من خلال قصة الصبي القروي الذي فقد بصره، لكنه تحداه وقاومه من خلال إرادة صلبة وإيمان بقدرة الإنسان على مجاوزة الجهل والعمى. وهكذا بدأت صورة «البطل» في التشكل، التسلح بالإرادة والعلم ضد الظلام والجهل، وهي السردية التي ألهمت الكثيرين ممن فقدوا نعمة البصر، وأسهمت في تغيير مصائرهم. كانت الصورة التقليدية للضرير أن يسلّم بقدره بوصفه كائنا «عاجزًا» عن ممارسة كثير من المهن، وأقصى طموحه أن يكون «مقرئًا» أو «منشدًا» أو «متسولًا»، فقامت الأيام بصياغة «سردية» مقاومة العمى والانتصار عليه. في مستوى الإنجاز الأدبي، قدمت الأيام نموذجا خاصا لكتابة العمى، أي كيفية كتابة سيرة ذاتية، من خلال اللجوء إلى الحواس اللابصرية، كالسمع واللمس والشم، إذ إن صاحب السيرة لا يرى تفاصيل الأشياء، ويلزمه العمى أن يلوذ بحواسه الأخرى، وهو ما يتجلى في اللغة والأسلوب من خصائص في المعجم والتركيب النحوي....إلخ.

لقد رفض طه حسين العمى ورفض ما يترتب من وظائف اجتماعية تقليدية. بل إن اللجوء إلى السرد بضمير الغائب لا بضمير المتكلم ينبئ عن هذا الرفض، رفض العجز وتمجيد المقاومة والإرادة. وسوف تمر الأيام ويطبع الكتاب ويعاد طبعه وتكثر عنه الدراسات، وحين يتحول إلى مسلسل تلفزيوني ينشر الأسطورة ويتجاوز مصر إلى كل السكان الناطقين بالعربية.

صورة البطل كلما مرت الأيام تزداد وضوحا. رفض طه حسين عميد كلية الآداب منح الدكتوراه الفخرية لبعض رجال السياسة، فتم إخراجه من الجامعة، فاستقال أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة محتجًا، وتحت الضغط أعيد العميد إلى منصبه، وأصبح الناس يطلقون عليه لقب «عميد الأدب العربي». وفي أثناء ذلك كله لم يكفّ العميد عن خوض معارك الفكر والأدب مع أدباء مصريين وأدباء من مختلف الأقطار العربية. إنه مُسعر حرب قدير، لا يعبأ بهجاء خصومه له وتوجيه الاتهامات التي تحاول تجريده من وطنيته أو دينه أو تسلبه ما اختاره من مكانة.

خاض طه حسين معارك كثيرة. في السياسة التي كان مدافعا صلبا عن قيم الحداثة، وفي الأدب دفاعا عن لغة عربية حديثة نملكها ونضيف إليها ما نحن في حاجة إليه، بعيدا عن لغة القدماء التي صلحت لزمانهم وحاجاتهم في التواصل والإبداع، ودعا إلى تجديد النحو وتيسيره، واعتبر اللغة والدين والاتصال الثقافي أعمدة الهوية العربية، رافضا ومقاوما للفكر الإمبراطوري الذي يقوم على إلغاء خصوصية كل قطر عربي، ونفي ماله من تاريخ قديم. وفي هذا كان خصومه ومنافسوه في المجال الثقافي، يرون أن ما يكتبه يمثل عداء للعربية، وكرها للدين واحتذاء لخطي المستشرقين. لكن طه حسين لم يأبه بكل هذا، وظلّ ماكينة تصنع الكتب والأفكار، وكما كتب عن اليونان وترجم، وعن العصر وثقافته، كتب أيضا عن السيرة في كتابه الجميل «على هامش السيرة» وعن «الفتنة الكبرى» وعن شيخي الإسلام أبي بكر وعمر....إلخ هذه القائمة الطويلة من المؤلفات التي ما زالت تقرأ وتعد عنها الأطروحات. وكلما مرت الأيام، كلما ازداد تألقه والاعتراف بفضله.