عمان الثقافي

سلاسل النّضار لصلاح الدّين الكوراني ديوان الكيمياء المفقود

 
يقسِّم المترجمون كالخفاجي والطَّبَّاخ شعر صلاح الدِّين الكوراني إلى قسمين: شعر مطبوع ونظم مصنوع، فأمَّا الشِّعر المطبوع، فهو الذي نجده في ديوانه الكبير الذي يحوي قصائد في الغزل والمدائح النبويَّة وغيرها من القصائد التي نظمها في الجواري والغلمان. وأمَّا الشِّعر المصنوع فالمقصود به ما قام بنظمه لغرضٍ علميٍّ.

وإذا كان ما يهمُّنا في هذا المقال هو معرفة طبيعة نظم الشَّاعر ومختلف الأغراض التي اهتمَّ بها، فإنَّنا سنضع نُصب أعينِنا ما يعيننا على التَّأكُّد من نسبة ديوان سلاسل النُّضار إليه، وهو ديوانٌ نصنِّفه ضمن الشِّعر المصنوع، ممَّا يجعلنا نميل في تحليلنا إلى كلِّ ما يثيرُ ذلك من تساؤلاتٍ وعلامات استفهام، ونعمد إلى تقديم الحجج والبراهين الدَّاعمة والنَّافية معًا.

ولا نعرف بالتَّدقيق ما هي طبيعة المنظومات العلميَّة التي قام بتأليفها وفي أيِّ مجال علميٍّ بالتَّحديد، فالخفاجي والطَّبَّاخ يقولان إنَّ له شعرًا شاركَ به في فنون عديدة، لكنَّهما لم يفصِّلا فيها، بل اكتفيَا كما يليق بناقدٍ يخبرُ عن شاعرٍ خاض في الشِّعر التَّقليدي مُترجِمًا إيَّاهُ، إذ لا شيءَ من عبارة «الفنون العديدة التي شارك فيها صلاح الدِّين الكوراني» يوحي حتَّى الآن بنظمه في العلوم عمومًا.

إلا أنَّ العُرضي يشير من جهته إلى هوس صلاح الدِّين الكوراني بنظم المسائل العلمية شعرًا، فيقول إنه إبّان اشتغاله بشرح المنار في أصول الحنفية -والمنار هو متن مشهور في أصول فقه الحنفية قام بشرحه الكثير من فقهاء الحنفية-، نظم أكثر مسائلها شعرًا وطارح بها أخدانه من الطَّلبة.

لنلاحظ مثلًا هذه الأبيات التي نظمها وهو يسأل النحويَّ الحلبي نجم الدِّين الحلفاوي الأنصاري الحلبي عمَّا وقع في بحث الفصل والوصل من قول بعضهم: «اُعبد الله، العبادة حقٌّ، واعبد الله فالعبادة حقٌّ»، فهي أبياتٌ يظهر فيها ذلك التَّطريز الشِّعري للحوارات العلميَّة:

أيُّها النَّجمُ أنتَ فِينا المُحِقُّ

ولكَ المكْرمَاتُ مِلْكٌ ورِقُّ

قالَ بعضُ الوُعَّاظِ يَفْضَحُ شخْصًا

زاجِرًا بالمَلامِ وهْوَ مَشَقُّ

اُعبُدِ اللهَ فالعبَادَةُ حقٌّ

اُعبد اللهَ؛ فالعِبَادَةُ حَقُّ

أيُّ قولٍ من الكَلامَيْنِ أوْلَى

وَبِهِ أبْلَغُ المَقُولَيْنِ صِدْقُ؟

فإذَا قُلْتَ بالتَّساوِي أجبْنَا

بَيْنَ هذَا وَبَيْنَ ذَلِكَ فَرْقُ

فأجِبْني بالفَرْقِ كَالبَرقِ يَبْدُو

مِنْ سَحَابٍ والنَّجْمُ يَجْلُوه شَرْقُ

دُمْتَ فِي دِقَّةٍ وَحَلٍّ عَوِيصٍ

مَا تَغَنَّت عَلَى الأرائِكِ ورْقُ

وفي مخطوطة رسالة الجزء الذي لا يتجزَّأ، نجد حوارًا علميًّا في شكل نظم شعريٍّ وقعَ بينه وبين الشَّيخ عبد النَّافع الحموي، فيقول الكوراني إنَّه قد وقعت بينهما مطارحات وسؤالاتٍ في موضوع الجزء الذي لا يتجَزَّأ وفيما قاله الرَّازي، ومحتوى المسألة أنَّ خلافًا قد وقع في موضوع جواز الوضوء من جانب الحوضِ الكبير إذا مسَّ طَرَف جانبه الآخر نجسٌ قليل، فانقسمت الآراء قسمين: قسمٌ يقول بنجاسة الحوضِ وقسم ينفي ذلك. ويقول الكوراني: إذا وقعت النَّجَاسَةُ القليلةُ في جانب من الحوض الواسع، فالوضوءُ من الجانب الآخر جائزٌ، وكان المعتزلة يقولون إنَّ أجزاء النَّجاسة قد اختلطت به فليست تفارقها؛ لأنها لا تتجزَأ إلى جزء، فالوضوء منه غير جائزٍ. ولقد أرسل إليه الشَّيخ عبد النَّافع الحموي يسأله في هذا قائلاً:

وَأرِيدُ أسْألُ فَضْلَكُمْ عَنْ شُبْهَةٍ

جُزْئِيَّةٍ ظَلَّتْ لِسَمْعِي تَقْرَعُ

قَالُوا الوُضُوءُ منَ الحِيَاضِ أحَبُّ مِنْ

أُنْبُوبَةٍ تَجْرِي بِمَاءٍ يهْمَعُ

رَغْمًا لأهْلِ الاِعْتِزَالِ وَقَدْ نَبَوْا

مَا قَرَّرُوهُ علَى دَلِيلٍ يَمْنَعُ

إنْ كَانَ نَفْيُ الجُزْءِ، ما وَجْهُ البِنَا

ءِ وَهُمْ كَمَا قَدْ قِيلَ مَعْنَا أجْمَعُ؟

هَبْ أنَّهُمْ قَدْ خَالَفُونَا فَاذْكُرُوا

وَجْهَ البِنَاءِ عَلَى طَرِيقٍ يُقْنِعُ

فيجيبه صلاح الدِّين الكوراني بقصيدة مطوَّلةٍ منها قولُهُ:

وَسَأَلْتَنِي وَسُؤَالُ جَوَادِكَ مُفْرَدُ

مِنْ كُلِّ فَضْلٍ جُزْؤهُ مُتَنَوِّعُ

فِي الحَوْضِ إذْ فِيهِ الوُضُوءُ أحَبُّ مِنْ

أُنْبُوبَةٍ والمَاءُ منْهَا يهْمَعُ

هَذَا السُّؤالُ تَشَبَّعَتْ آراؤُهُمْ

فِيهِ، ولَيْسَ بِهِ كَلامٌ مُشْبِعُ

فالأفْضَلِيَّةُ فِيهِ مَيْنَاهَا عَلى

مَا قِيلَ من كُتُبِ الكَلامِ وَيُسْمَعُ

مِنْ أنَّ أجْزَاءَ الجُسُومِ سَتَنْتَهِي

جَزَاءً وَلَيْسَ لَهُ انْقِسَامٌ يُوضَعُ

في الحَوْضِ إنْ كَانتْ نَجَاسَتُهُ بِهِ

جُرْمًا قللاً وَهْوَ حَوْضٌ أَوْسَعُ

مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ الذي وَقَعَتْ بِهِ

تِلْكَ النَّجَاسَةُ إذ عَلى ذَا يُجْمَعُ

والقَوْلُ مِنْهُمْ أنَّها لا تَنْتَهِي

بالاعْتِزَالِ، لَهُمْ عَلَيْهِ تَفَرُّعُ

مِنْ أنَّ أجْزَاءَ النَّجَاسَةِ ما انْتَهَتْ

والحَوْضُ أجْزَاءٌ إلَيْهَا يَرْجِعُ

كُلٌّ من الأجْزَاءِ مَا لا يَنْتَهِي

مِنْهَا ومِنْهُ فَهْيَ فِيهِ تُنْقَعُ

لَيْسَتْ تُفَارِقُهُ النَّجَاسَةُ فَهْوَ فِي

أحْكَامِهِمْ نَجَسٌ وأمْرٌ أفْضَعُ

فإذَا تَوَضَّى المَرْءُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ

هَذَا الوُضُوءُ وَعِنْدَهُمْ لا يَنْفَعُ

فاخْتَارَ أهْلُ الحَقِّ والسُّنَنِ التي

هِي عِنْدَنَا غُرَرُ الشَّرِيعَةِ تَمْنَعُ

أنْ يَسْخَرُوا بالاعتِزَالِ بإنَّما

مِنْهُ الوُضُوءُ أحَبُّ وهْوَ المقْنِعُ

وَدَلِيلُنَا ودَلِيلُهُ مِمَّا بهِ

طَال الكَلامُ وَضَاقَ عَنْهُ المَوْضِعُ

وسنجد قصيدة أخرى أوردها محمَّد الطبَّاخ تدعمُ توجُّهَ صلاح الدِّين الكوراني في نظم المسائل العلمية شعرًا، وهي قصيدة تختصر، في حقيقة الأمر، نظرته إلى الشِّعر. فهو ينفي أن يكون الشِّعر مجرَّد قوافٍ وأوزان أو ألفاظًا جرسيَّةً موسيقيَّة، إنَّما هو مشروط بأحكامٍ وأوضاعٍ، ومقصود به نقل الفنون والعلوم.

وَلَيْسَ الشِّعْرُ قَافِيَةً وَوَزْنًا

وَأَلْفَاظًا عَلَى نَسَقِ النَّشِيدِ

وَلَكِنَّ شَرْطَهُ حُكْمٌ وَوَضْعٌ

عَلَى بَيْتٍ مِنَ العَلْيَا مَشِيدِ

يُتَرْجِمُ فِيهِ قَائِلَهُ فُنُونًا

وَعْلِمًا، قَائِلاً هَلْ مِنْ مَزِيدِ

يُعَبِّرُ عَنْ فَضَائِلِهِ وَمَا قَدْ

حَوَاهُ مِنَ العُلُومِ لـمُسْتَفِيدِ

وإذا كان صلاح الدِّين الكوراني المتمكِّنُ من الفنون العديدة قد جعل نفسه معلِّمًا ناقلا العلوم للمستفيدين، فهل في هذا دليل على كونه اهتمَّ شعريًّا بنقل علوم الكيمياء، لاسيما ونحن نعرف أنَّ النَّظم في الكيمياء كان يعدُّ هو الآخر فنًّا من الفنون الشِّعريَّة الذي أُطْلِقَ عليه فنُّ السِّلامات؟

إشكاليَّة تاريخ النَّسخ:

وإذا عدنا للنَّظر في نسبة سلاسل النُّضار للكوراني، محقِّقين في تاريخ النَّسخ وترتيبه زمنيًّا، فإنَّنا لا نجد مخطوطة للدِّيوان قد تمَّ نسخها خلال حياة الكاتب أو قبل وفاته، بل إنَّ أقدم نسخ لهذا الدِّيوان قد وُثِّقَ رسميًّا سنة 1090-1680 من خلال نسخة بطرسبورك المصنَّفة بمعهد الاستشراق بيطرسبورك عينِها، ونسخة أخرى موجودة بمكتبة جامعة الملك سعود بالرِّياض قُدِّر نَسخُها بغضون القرن الحادي عشر الموافق للسَّابع عشر ميلادي، وكلاهما نسخٌ متأخِّرٌ عن تاريخ وفاة الشَّاعر بأربعين سنة تقريبًا، أو بما قلَّ عنها أو بما زاد عليها بقليل. ويرجَّح أن يكون ناسخ بطرسبورك قد اعتمد في النَّقل على نسخة أخرى قد تكون مكتوبة بخط النَّاظم الأصلي وهو الشَّاعر نفسه كما أشارت إليها المعلومات التي وضعها بصفحة التَّعريف الكاتالوغي للمخطوط مركز جمعة الماجد.

ولعلَّه من البديهيّ أن تُرجَّحَ إمكانية حصول التَّأليف من قبل شخصٍ آخر ألحقَ الدِّيوان انتحَالًا بصلاح الدِّين الكوراني خلال هذه المسافة الزَّمنيَّة المقدَّرة بين تاريخ وفاته ونسخ سلاسل النُّضار، لاسيما وقد ظهرت نسخة أخرى اعتمدها إسماعيل باشا الباباني (ت: 1339=1920) وأشار إلى كونها قد كتبت سنة 1160=1747 أي بما يزيد عن قرنٍ تقريبًا عن وفاة الشَّاعر وبما يزيد عن ستِّين سنة عن نسخة بطرسبورك. أمَّا المخطوطات الأخرى التي بحوزتنا، فلقد تمَّ نسخها كلُّها تقريبا بعد ذلك بأكثر من قرنين، فمخطوطة مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض نُسِخت سنة 1303 -1886، ومخطوطة الخديوي سنة 1313-1896، ومخطوطة كراتشي سنة 1346-1927.

وفضلا عن كونه قد نُظِمَ -اِحتمالاً- بعد 1024 هـ- 1615 م؛ وهو تاريخ كتابة رسالة الجزء الذي لا يتجزَّأ من قِبل صلاح الدِّين الكوراني، كما سنشير إلى ذلك لاحقًا، فإنَّ الثَّابت في هذا الدِّيوان هو نظمُه بالتَّأكيد بعد وفاة الجلدكي، أي بعد سنة 743 هـ = 1342م، بدليل قول صلاح الدِّين الكوراني [1-65]:

وَالحَمْدُ لِلَّهِ أَنِّي فُقْتُ مَرْتَبَةً

فِيهِ عَلَى جِلْدَكَيٍّ بَعْدَ طُغْرَائِي

ولقد استعصى علينا في ظل الظُّروف التي نمرُّ بها أن نتفرَّغ للبحث عن النُّسخة الأصليَّة، والتَّأكُّد من ذلك، واكتفينا بما حُزنا عليه، ظانِّين بحكم قرب المسافة بين تاريخ وفاة الشَّاعر وتاريخ كتابة نسخة بيطرسبورك بنسب الدِّيوان لصلاح الدِّين الكوراني.

إشكاليَّة التَّقاطعات :

إنَّ من شأن التَّقاطعات الفكريَّة أن تساعدنا على النَّظر في أوجُه التَّشابه بين فكر صلاح الدين الكوراني وطريقة عمله الأدبي من جهة وبين ما قام بنظمه في الكيمياء من جهة أخرى، كما تساعدنا على ترجيح نسبة سلاسل النُّضار إليه. ولعلَّ ما يعيننا على هذا هو اتِّفاق ما جاء في الأبيات [1-78،79،80] من سلاسل النُّضار مع مسار الشَّاعر الفنِّي، فهو إذ يقول بإجادته النَّظم في الوصف، نراه لا يتوانى عن وصف الطَّبيعة وهو يشرح طبيعة العمل الكيميائي. فذلك لا يقلُّ، في الواقع، عما أثبته له المترجمون، من خبرةٍ فائقة في الوصف، بل يؤيِّدُ مبدأ الانتقال لديه من وصف الطَّبيعة في شعره بالنَّظم إلى وصف الكيمياء في سلاسل النُّضار بالتَّرميز، يقول:

قُلْنَا بِأَنِّي أُجِيدُ النَّظْمَ مُبْتَكِرًا

فِي وَصْفِ رَوْضٍ وصَهْبَاءٍ وحَسْنَاءِ

ولَمْ نُشَاهِدْ بِعَيْنِ الفِكْرِ نَاظِرَةً

حَلَّ الرُّمُوزِ بِأَرْقَامٍ وإِمْلَاءِ

فَلَا خَلَاقَ لَهَا حَتَّى أُخَاطِبَهَا

بِالرَّمْزِ، فَالرَّمْزُ يَجْفُو كُلَّ حَمْقَاءِ

وفي المضمار نفسه، سنجد أبياتًا في سلاسل النُّضار تحيل إلى ما وجدناه في رواج البضائع في ذوي الصَّنائع من مديحٍ للغلمان، حيث يجعل مخافة الله من كشف ستر الكيمياء عائقًا أمام ولعِه بالصٍّبية وتعلِّقه الشَّديد بهم، وذلك في قوله [10-24]:

وَلَوْلَا عِقَابُ اللهِ مِنْ كَشْفِ سِتْرِهِ

لَأُولِعْتُ فِيهِ صِبْيَةً وَصِغَارَا

وإذا كان في هذا التَّقاطع ما يوحي باتِّفاقٍ في ممارسة هذا الولع بين كلٍّ من صاحب رواج البضائع وصاحب سلاسل النَّضار، فإنَّ اليقين بكون مؤلِّفهما واحدا لا يزال بعيد المرام. وهو نفسه المرام البعيد الذي نوشك أن نراه للحظةٍ على الأقلِّ قريبا وذلك عندما نقرأ في البيت [24-45] قولَهُ:

وَيُؤَدِّي فَرْضَ حَجٍّ سُرْعَةً،

وَزَكَاةُ المَالِ يُولِيهَا صِيَامَا

فهذا الحكم الفقهي في فرض الحجِّ لا يدلُّ فقط على معرفة قائله بالمذاهب واختلافاتها، وإنَّما أيضًا على توجُّه مذهبه الفقهي. فهو يشير في صدر هذا البيت إلى مسألة التَّعجُّل في الحجِّ، وهو أن يكتفي الحاجُّ برمي الجمرات ليومين فقط من أيَّام التَّشريق الثّلاث، فإذا غربت عليه الشَّمس يومها الثَّاني وهو لا يزال في منى فعليه أن يمكث بها للرَّمي خلال اليوم الثَّالث. ولقد اختلفت المذاهب في وجوب بقائه لليوم الثَّالث، فالمالكيَّة والحنابلة يلزمانه المبيت ورمي الجمرات من الغد، ومذهب الحنفية والشافعية لا يلزمه المبيت ولا الرَّمي من الغد.

وعلى هذا الأساس، فإنَّ قول الشَّاعر بالحجِّ المتعجِّل يفيد حقًّا بكونه شافعيًّا، وهو ما يجعلنا نلاحظ تطابق الشَّخصيَّتين في كونهما قد اتَّفقتا على الأقل في هذا المذهب الفقهي، وهو ما يجعلنا أيضًا نرجِّح في هذا الأمر نسبة هذا الدِّيوان له.

ولعلَّه من الواجب مناقشة ما استجدَّ عند صلاح الدِّين الكوراني، ففي التجديد ما يساعدنا حقًّا على تبيُّن معدن الأديب، وتمييز جيِّد شعره، وطلب ما استقدَمه من صورٍ تكادُ تكون هي نفسها -ربَّما- الصُّور التي استخدمها بديوان سلاسل النُّضار.

وإذا كان الشَّائع خضوعُ الأدب العثماني عمومًا للتَّقليد أكثر منه للتَّجديد، ممَّا سيضع سلاسل النُّضار طبيعيًّا قيدَ تقليد دواوين الكيمياء، مثلما سيضع صلاح الدِّين الكوراني نفسه موضع المقلِّد بالضَّرورة، فإنَّنا سنجد لدىه ولعًا بالتَّجديد، خلاف معاصريه، وهذا ما يتبيَّن من خلال ولعه بغرض التَّبفيَّات الذي نشرنا فيه مقالا بالقدس العربي تحت عنوان التِّبغيات: فنُّ العثمانيِّين الشِّعري.

إشكاليَّة غياب التَّفسيرات:

ولا نكاد نجد شيئا لصلاح الدِّين الكوراني ممَّا يشبه التَّفسيرات التي توضع لدواوين الكيمياء، سواء قام بتأليفها الشَّاعر نفسه، أو غيره من النُّقاد المهتمِّين بشرح الكيمياء، كما هو الحال بالنِّسبة لابن أميل التَّميمي الذي شرح لنفسه قصيدته الكيميائية في كتابه رسالة الشَّمس إلى الهلال، أو شروحات وضعها له كتَّاب آخرون كما هو الحال مع الرسالة الزِّينيَّة، والحال نفسه مع ابن أرفع رأس الذي أقدم على شرح ديوانه بكتابه الموسوم بعنوان شرح مشكلات شذور الذَّهب، مدعوما فيما بعد بما وضعه بن أيدمر الجلدكي من شروحات كنَّا قد ذكرناها تفصيلا في الكتاب الذي أصدرناه عن «بن أرفع رأس نفسه».

وسنلاحظ بما لا يدع لنا مجالا للشَّك في أنَّ بن أرفع رأس قد حظي بشروحات مفسِّرٍ عثمانيٍّ توفيَّ قبل صلاح الدِّين الكوراني بثلاثين سنة، وهو علي جلبي الأزنيقي المتوفَّى بالقسطنطينية سنة 1018-1609، الذي نَعُدُّ له مخطوطة موجودة بالمكتبة الوطنية الفرنسية تحت رقم (ar-2624) بعنوان مطالع البدور لصدر ديوان الشُّذور، وهو الذي أظهر الكيمياء مشروحةً في ثوبها العثماني مقابل ذلك الثَّوب المملوكي الذي ارتدته بفضل علي بن أيدمر الجلدكي. إنَّ هذا يجعلنا نعتقد أن وجوب وضع شروحات للقصائد الكيميائيَّة قد شَكِّل تقليدًا لدى العثمانيِّين مثلما صار تقليدا بالمغرب في القرون اللَّاحقة. إلا أنَّه، وبهذا الاعتقاد، سيكون انطباعنا سيِّئًا جدًا ونحن ننظر فيما لم نجده من إنصافٍ في العناية والرِّعاية والاهتمام بصلاح الدِّين الكوراني الذي لم يحظ عند العثمانيِّين ولا عند المغاربيِّين بما حظي به سابقوه من شعراء الكيمياء.

ولو تجنَّبنا، ونحن نلتزم بالمنهج، ضيقَ النَّظر في هذا النُّقص الواضح، لبرَّرناه بقلَّة اهتمام العثمانيِّين بشعر الكيمياء عمومًا لاسيما فيما بعد الأزنيقي، وهو اهتمام ضعفت وتيرته تزامنا مع بداية الحركة العلميَّة الحديثة التي أخذت تنأى عنه مقتربة من الكيمياء الماديَّة، فضلا عن كون الكيمياء القديمة قد بدأت تنضمُّ شيئا فشيئًا لمجال العلوم الدِّينيَّة والروحيَّة والتَّصوُّفية منفصلة عن الطَّبيعيَّات.

الهواري غزالي أستاذ محاضر بجامعة باريس