قسوة المحبة بين أكبادنا والدبلوم العام
الاحد / 18 / محرم / 1445 هـ - 20:53 - الاحد 6 أغسطس 2023 20:53
ينتهي عام دراسي بكثير من الانفعالات الصاخبة بين فرح وحزن، أمل وحسرة، قلق وطموح، حيرة وأحلام؛ يحدث كل هذا لطلبة الدبلوم العام أو الثانوية العامة أو التوجيهي في دول أخرى، ويتصاعد هذا الصخب وتلك الانفعالات المتضادة لتبلغ ذروتها عند الإعلان عن النتائج.
كمنطلق لافتتاح هذه المقالة لا ينبغي التقليل من أهمية هذا العام لدى كل الطلبة إطلاقا، ليس محليا وحسب، بل عالميا وما ذلك إلا لما يتقرر بعد هذا العام من خيارات الطالب العلمية التي تحدد مساراته الوظيفية لاحقا، فمذ كانت المدارس كان لهذه المرحلة أهمية فارقة عن بقية الأعوام الدراسية، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتحول هذا العام وهذه المرحلة إلى حالة من إعلان الطوارئ وتكثيف الضغوطات بكافة أشكالها على صبي مسكين أو صبية متعبة ليسميه الطلبة رعبا ويعتبره الأهل أمرا يستوجب التعاطف، فما أن تقول أمّ 'عندنا دبلوم عام هذا العام' حتى ترد أخريات 'لا حول ولا قوة إلا بالله، أعانك الله' وكأن الأمر مصاب جلل وأمر يستوجب التعاطف ويستحق الشفقة.
أكتب هذه المقالة وقد هالني ما نسمع ونرى من تداعيات الإعلان عن نتائج الدبلوم العام في كل العالم العربي تحديدا، بين طالبة في بلد عربي تصاب بفقدان النطق بعد صدمة عصبية نتيجة توبيخ والدتها لها باعتراف الأم التي تقول بأنها فقدت أعصابها مع صدمة النتيجة المتدنية لابنتها لدرجة أنها كانت تقول لها: 'خسارة فيكِ الأكل والشرب والتربية والسهر، فضحتينا ودمرتينا ودمرت نفسك!' وأخرى أصيبت بجلطة لم تعد بعدها كما كانت لا علميا ولا نفسيا ولا عقلانيا، وثالث طرد من البيت لخذلانه أهله في نسبته العامة لذلك وجبت عليه اللعنة بطرده من البيت؛ بيت الأسرة التي احتضنته طوال حياته.
لا شك في النيات يقينا، فنيّة الأهل دائما بلوغ الأبناء ذروة المجد الذي يرونه متمثلا في أعلى نسب الثانوية العامة التي تقضي بتصدر صاحبها قائمة الخريجين من هذه المرحلة لاختيار الأنسب من مسارات الجامعة ثم الوظيفة، كما لا شبهة في محبة الأهل لأبنائهم وبناتهم الطلبة رغم اختلافهم في التعبير عن هذه المحبة وربما تطرفهم أحيانا في إظهارها أو إخفائها.
كما أنه لا شك في أن ما يمر به هؤلاء الطلبة في هذه المرحلة العمرية كثير مما لم يعش الأهل نصفه ربما، رغم كل ما يعتقدون من صعوبة العيش أو بساطة أدوات الواقع السابق، وبالدخول في بعض التفصيل المتعاطف مع هؤلاء الطلبة فإنه من نافلة القول أنهم يعيشون مرحلة المراهقة التي لمّا ينفضوا عنها بعد غبار مشاكساتهم الطفولية، وأحلامهم الأسطورية، كما أنهم لمّا يستوعبوا بعد نضج أجسادهم وتغيراتهم الفسيولوجية الحادة التي قد تسلمهم لساعات نوم طويلة أو لفرط حركة، ثم أحلام غدهم ومستقبلهم، وخلال ذلك وقبله وبعده حاجتهم الرئيسة التي لا تقبل تأجيلا أو تعليقا بأي شرط هي الحاجة للمحبة والتفهم ولا ينبغي للمحبة أن تأتي مشروطة، وهنا قد يقول الأهل ' كلنا مررنا بالمراهقة مثلهم وكلنا عبرنا تلك المرحلة' والحق ما قالوا لولا أنهم لم يضعوا في الاعتبار كثيرا من تحديات هذا العصر المختلف الذي يعاصره هؤلاء الأبناء من عالم مفتوح على مصراعيه، بين قليل خيّر وكثير غثاء، والمرء بينهما حاطب ليل، ثم ما لهذا العالم المفتوح من تأثيرات وطاقات سلبية تتحكم في حافز التعلم أو في توجيه مسارات الوظيفة مستقبلا، كأن يعيش هؤلاء الأطفال-وهم كذلك ما داموا تحت الثامنة عشر مهما ظهر على بعضهم من علامات النضوج - قلق عبث وعدم جدوى التعليم وشبح البطالة مهما أحرزوا من تميز وفقا لمن سبقهم وما زال بانتظار الوظيفة الحلم، وتحديات الواقع، فيتضاءل لدى بعضهم إن لم يكن أغلبهم حافز التعلم ومحبة التعليم، ويتحمل بعضهم الآخر وزر طموح الأهل العظيم في حصر أمل العائلة بأكملها في وصول هذا الابن أو الابنة إلى أكبر معدل يمكنه من تحقيق حلم كل هؤلاء، وعدم الوصول يعني الخذلان والخيانة.
ضغط نفسي عظيم قد لا يتحمله بعض الطلبة وقد رأينا كأكاديميين وكأفراد في هذا المجتمع بعض هذه النماذج المقهورة ممن نجحوا في تحمل 'صخرة سيزيف' حتى بلوغ أعلى النسب في الثانوية، لكن قواهم في التحمل خارت بعدها، خصوصا مع إصرار الأهل على توجيه مستقبل الأبناء وكأنهم يمسكون بجهاز التحكم بين أيديهم وما على هؤلاء الطلبة إلا السمع والطاعة دون مراعاة لقدراتهم العقلية، ومهاراتهم الاجتماعية، وأحلامهم ورؤاهم في اختيار تخصصاتهم وتحديد مستقبلهم، وقد بلغ الضغط ببعض هؤلاء إلى الانسحاب من مسار التعليم نهائيا، أو تغييره كليا بعد التخرج وكأنهم يقولون للأهل 'هاكم شهادتكم التي حلمتم بها، سأبدأ أنا الآن بالبحث عن حلمي' والأسوأ من كل ذلك بعض الطلبة الذين أسلمتهم الضغوطات مع الصمت ونكران الذات إلى حافة الاكتئاب أو حواف الجنون، وحتى هنا كان تبرير الأهل والمجتمع الجاهز حينها 'السحر والحسد' متناسين كل ما مر به أولئك المساكين من ضغط هائل وتوقعات عظيمة.
ماذا يعني أن يخفق طفلك في تجاوز عاما من أعوامه الدراسية؟ الذي يعنيه يقينا هو أنه بحاجة إلى مساحات من الحوار وأضعافها من المحبة لتلمس أسباب الإخفاق ومعالجتها تدريجيا قبل تراكم النتائج، حتى في مرحلة الدبلوم العام، أسوأ ما قد تصل إليه توقعات الأهل يمكن تداركه، لكن لا يمكن تدارك الآثار النفسية أو الصحية التي قد تصيب الطلبة في حالة إفراغ كل طاقات الغضب والحزن فيهم لمجرد إخفاق أول لا نعلم عن مبرراته شيئا، وهذا الأمر الجلل في نظر الوالدين يعالج ببداية جديدة لعام جديد دون ضغوطات، ومع فائض محبة وتفهم يتمثل في المتابعة التدريجية المرحلية لتحديات التلقي في التعليم، واكتساب مهارات إدارة الوقت وتحديد الأولويات بدلا من الدروس الخصوصية المكلفة دون عناية بالحافز، كل ذلك سيكون هينا لو أن كل ذلك تحوّل لثقافة داخل الأسرة من تحفيز وإيمان بالقدرات الفردية المختلفة لكل طفل، والتأسيس لإنسان رائع مُحِب ومحبوب يعرف أهدافه ويحبها ويسعى إليها دون تحكم أو قهر أو استغلال عاطفي مفاده ' أنت أملنا، وأنت حلمنا، وأنت آخر طوق نجاة؟
أخيرا؛ نبارك لكل الطلبة المتفوقين الذين عبروا هذا العام لمرحلة تحتاج منهم مضاعفة الجهد والاستعداد لدمج التعليم المعرفي بالتعليم المهاري إعدادا لأجيال قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة، مؤمنة بكل ما لديها من تميز وإبداع، كما نشدُّ على يد كل من لم يحالفه الحظ أو لم تسعفه الظروف هذا العام داعين بأن لا يفقد الأمل أو الحماس، وما الفرق بينه وأقرانه إلا عام واحد، عام كامل يمكنه خلاله صنع فرق عظيم وتحول لا يستهان به، وحتى إن لم يدرك كل ذلك فلا ينبغي أن يرسخ في قلبه بأنه غير متقبل أو غير نافع ولا ننسى هنا حِطّان بن المُعَلَّى في بيتيه:
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هَبّتِ الريحُ على بعضهم
لامتنعتْ عيني من الغَمْضِ
كمنطلق لافتتاح هذه المقالة لا ينبغي التقليل من أهمية هذا العام لدى كل الطلبة إطلاقا، ليس محليا وحسب، بل عالميا وما ذلك إلا لما يتقرر بعد هذا العام من خيارات الطالب العلمية التي تحدد مساراته الوظيفية لاحقا، فمذ كانت المدارس كان لهذه المرحلة أهمية فارقة عن بقية الأعوام الدراسية، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتحول هذا العام وهذه المرحلة إلى حالة من إعلان الطوارئ وتكثيف الضغوطات بكافة أشكالها على صبي مسكين أو صبية متعبة ليسميه الطلبة رعبا ويعتبره الأهل أمرا يستوجب التعاطف، فما أن تقول أمّ 'عندنا دبلوم عام هذا العام' حتى ترد أخريات 'لا حول ولا قوة إلا بالله، أعانك الله' وكأن الأمر مصاب جلل وأمر يستوجب التعاطف ويستحق الشفقة.
أكتب هذه المقالة وقد هالني ما نسمع ونرى من تداعيات الإعلان عن نتائج الدبلوم العام في كل العالم العربي تحديدا، بين طالبة في بلد عربي تصاب بفقدان النطق بعد صدمة عصبية نتيجة توبيخ والدتها لها باعتراف الأم التي تقول بأنها فقدت أعصابها مع صدمة النتيجة المتدنية لابنتها لدرجة أنها كانت تقول لها: 'خسارة فيكِ الأكل والشرب والتربية والسهر، فضحتينا ودمرتينا ودمرت نفسك!' وأخرى أصيبت بجلطة لم تعد بعدها كما كانت لا علميا ولا نفسيا ولا عقلانيا، وثالث طرد من البيت لخذلانه أهله في نسبته العامة لذلك وجبت عليه اللعنة بطرده من البيت؛ بيت الأسرة التي احتضنته طوال حياته.
لا شك في النيات يقينا، فنيّة الأهل دائما بلوغ الأبناء ذروة المجد الذي يرونه متمثلا في أعلى نسب الثانوية العامة التي تقضي بتصدر صاحبها قائمة الخريجين من هذه المرحلة لاختيار الأنسب من مسارات الجامعة ثم الوظيفة، كما لا شبهة في محبة الأهل لأبنائهم وبناتهم الطلبة رغم اختلافهم في التعبير عن هذه المحبة وربما تطرفهم أحيانا في إظهارها أو إخفائها.
كما أنه لا شك في أن ما يمر به هؤلاء الطلبة في هذه المرحلة العمرية كثير مما لم يعش الأهل نصفه ربما، رغم كل ما يعتقدون من صعوبة العيش أو بساطة أدوات الواقع السابق، وبالدخول في بعض التفصيل المتعاطف مع هؤلاء الطلبة فإنه من نافلة القول أنهم يعيشون مرحلة المراهقة التي لمّا ينفضوا عنها بعد غبار مشاكساتهم الطفولية، وأحلامهم الأسطورية، كما أنهم لمّا يستوعبوا بعد نضج أجسادهم وتغيراتهم الفسيولوجية الحادة التي قد تسلمهم لساعات نوم طويلة أو لفرط حركة، ثم أحلام غدهم ومستقبلهم، وخلال ذلك وقبله وبعده حاجتهم الرئيسة التي لا تقبل تأجيلا أو تعليقا بأي شرط هي الحاجة للمحبة والتفهم ولا ينبغي للمحبة أن تأتي مشروطة، وهنا قد يقول الأهل ' كلنا مررنا بالمراهقة مثلهم وكلنا عبرنا تلك المرحلة' والحق ما قالوا لولا أنهم لم يضعوا في الاعتبار كثيرا من تحديات هذا العصر المختلف الذي يعاصره هؤلاء الأبناء من عالم مفتوح على مصراعيه، بين قليل خيّر وكثير غثاء، والمرء بينهما حاطب ليل، ثم ما لهذا العالم المفتوح من تأثيرات وطاقات سلبية تتحكم في حافز التعلم أو في توجيه مسارات الوظيفة مستقبلا، كأن يعيش هؤلاء الأطفال-وهم كذلك ما داموا تحت الثامنة عشر مهما ظهر على بعضهم من علامات النضوج - قلق عبث وعدم جدوى التعليم وشبح البطالة مهما أحرزوا من تميز وفقا لمن سبقهم وما زال بانتظار الوظيفة الحلم، وتحديات الواقع، فيتضاءل لدى بعضهم إن لم يكن أغلبهم حافز التعلم ومحبة التعليم، ويتحمل بعضهم الآخر وزر طموح الأهل العظيم في حصر أمل العائلة بأكملها في وصول هذا الابن أو الابنة إلى أكبر معدل يمكنه من تحقيق حلم كل هؤلاء، وعدم الوصول يعني الخذلان والخيانة.
ضغط نفسي عظيم قد لا يتحمله بعض الطلبة وقد رأينا كأكاديميين وكأفراد في هذا المجتمع بعض هذه النماذج المقهورة ممن نجحوا في تحمل 'صخرة سيزيف' حتى بلوغ أعلى النسب في الثانوية، لكن قواهم في التحمل خارت بعدها، خصوصا مع إصرار الأهل على توجيه مستقبل الأبناء وكأنهم يمسكون بجهاز التحكم بين أيديهم وما على هؤلاء الطلبة إلا السمع والطاعة دون مراعاة لقدراتهم العقلية، ومهاراتهم الاجتماعية، وأحلامهم ورؤاهم في اختيار تخصصاتهم وتحديد مستقبلهم، وقد بلغ الضغط ببعض هؤلاء إلى الانسحاب من مسار التعليم نهائيا، أو تغييره كليا بعد التخرج وكأنهم يقولون للأهل 'هاكم شهادتكم التي حلمتم بها، سأبدأ أنا الآن بالبحث عن حلمي' والأسوأ من كل ذلك بعض الطلبة الذين أسلمتهم الضغوطات مع الصمت ونكران الذات إلى حافة الاكتئاب أو حواف الجنون، وحتى هنا كان تبرير الأهل والمجتمع الجاهز حينها 'السحر والحسد' متناسين كل ما مر به أولئك المساكين من ضغط هائل وتوقعات عظيمة.
ماذا يعني أن يخفق طفلك في تجاوز عاما من أعوامه الدراسية؟ الذي يعنيه يقينا هو أنه بحاجة إلى مساحات من الحوار وأضعافها من المحبة لتلمس أسباب الإخفاق ومعالجتها تدريجيا قبل تراكم النتائج، حتى في مرحلة الدبلوم العام، أسوأ ما قد تصل إليه توقعات الأهل يمكن تداركه، لكن لا يمكن تدارك الآثار النفسية أو الصحية التي قد تصيب الطلبة في حالة إفراغ كل طاقات الغضب والحزن فيهم لمجرد إخفاق أول لا نعلم عن مبرراته شيئا، وهذا الأمر الجلل في نظر الوالدين يعالج ببداية جديدة لعام جديد دون ضغوطات، ومع فائض محبة وتفهم يتمثل في المتابعة التدريجية المرحلية لتحديات التلقي في التعليم، واكتساب مهارات إدارة الوقت وتحديد الأولويات بدلا من الدروس الخصوصية المكلفة دون عناية بالحافز، كل ذلك سيكون هينا لو أن كل ذلك تحوّل لثقافة داخل الأسرة من تحفيز وإيمان بالقدرات الفردية المختلفة لكل طفل، والتأسيس لإنسان رائع مُحِب ومحبوب يعرف أهدافه ويحبها ويسعى إليها دون تحكم أو قهر أو استغلال عاطفي مفاده ' أنت أملنا، وأنت حلمنا، وأنت آخر طوق نجاة؟
أخيرا؛ نبارك لكل الطلبة المتفوقين الذين عبروا هذا العام لمرحلة تحتاج منهم مضاعفة الجهد والاستعداد لدمج التعليم المعرفي بالتعليم المهاري إعدادا لأجيال قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة، مؤمنة بكل ما لديها من تميز وإبداع، كما نشدُّ على يد كل من لم يحالفه الحظ أو لم تسعفه الظروف هذا العام داعين بأن لا يفقد الأمل أو الحماس، وما الفرق بينه وأقرانه إلا عام واحد، عام كامل يمكنه خلاله صنع فرق عظيم وتحول لا يستهان به، وحتى إن لم يدرك كل ذلك فلا ينبغي أن يرسخ في قلبه بأنه غير متقبل أو غير نافع ولا ننسى هنا حِطّان بن المُعَلَّى في بيتيه:
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هَبّتِ الريحُ على بعضهم
لامتنعتْ عيني من الغَمْضِ