مَزلق سهل
الاحد / 18 / محرم / 1445 هـ - 20:44 - الاحد 6 أغسطس 2023 20:44
قال لي محدثي وهو يريني لقطة فيديو من هاتفه 'هذه طريقة جديدة لعلاج أمراض القلب، أليست صحيحة؟'، وكما يمكنك أن تتوقع، فإن محتوى الفيديو هو أبعد ما يكون عن العلاج، ولا صلة بين مدعي العلاج وبين المجال العلمي الطبي للمرض المشار إليه، كل ما في الأمر هو ترويج صانع المحتوى لممارسات زائفة بهدف زيادة عدد متابعيه وما يكسبه منهم، وليس هذا موضوعنا، وإنما لنتأمل كيف يصدّق البشر الأفكار، لاحظ صيغة كلام المتحدث لأنها تتضمن ما سنناقشه لاحقاً حول استنتاجات علماء النفس وما خلص إليه علم الإدراك عن البشر، فمحدثي بدأ بتأكيد المعلومة التي ذكرها قبل أن يتساءل عن صحة محتواها قائلاً 'هذه طريقة جديدة ..'، وهذا أمر جُبل عليه البشر فهم كائنات سهلة الإيمان والتصديق، تجد صعوبة في الشك والتساؤل. فما الذي يعنيه التصديق؟، وربما ينبغي أن نعيد صياغة السؤال ليكون: كيف يتم؟
افترض ديكارت أن عملية فهم فكرة ما تكون منفصلة عن عملية الحكم على صدق تلك الفكرة وسابقة لها، أما الحكم بتصديق أو عدم تصديق الفكرة فهي عملية واحدة في الحالين، وتأتي لاحقاً، وخالفه سبينوزا في ذلك، حيث رأى أن عمليتي فهم وقبول الفكرة إنما هما عملية واحدة. وأن عدم تصديقها إنما هي مراجعة متأنية لاحقة على الفهم والقبول، أثبتت الدراسات الحديثة أن فكرة اسبينوزا أقرب إلى طريقة عمل الدماغ من فكرة ديكارت.
يرى علماء النفس المعاصرون أن فهم واستيعاب فكرة ما يتضمن محاولة تصديق تلك الفكرة واستيعاب ما الذي تعنيه صحتها، بعدها فقط يمكن أن يقرر الإنسان ما إذا كان سيختار عدم التصديق، وهناك دراسات تجريبية تثبت ذلك، أولها ما يتعلق بتطور القدرة على إنكار الافتراضات لدى الأطفال، إذ أثبتت الدراسات أن تلك القدرة تتطور متأخرة ويتطلب إتقانها وقتاً، وأن من السهولة بمكان التأثير على الأطفال بمعنى أنهم يقبلون الافتراضات دون تفكير ناقد، هذه الدراسات تتعارض مع فرضية ديكارت، فإن كانت عملية الحكم -القبول والرفض - هي مرحلة واحدة لعملية واحدة فينبغي أن يتقن الأطفال الرفض مبكراً مع إتقانهم لقبول الفرضيات، وربما أن من أهم نتائج البحوث التي تناولت أمر التصديق هي تلك التي قام بها عالم النفس الشهير دانيال كينمان وزملاؤه ولخصها في كتابه المرجعي 'التفكير سريعه وبطيئه' إذ ميز بين نظامين للتفكير نعيش حياتنا مسلمين قياد تفكيرنا لأحدهما في كل لحظة، النظام الأول نظام تفكير سريع يعتمد على الحدس ويكون مسيطراً في حال ما احتجنا إلى ردة فعل سريعة أو كنا نقوم بأعمال معتادة كقيادة السيارة ومعظم أعمالنا الروتينية، وهو نظام يتحكم بتفكيرنا على نحو لا إرادي، أما النظام الثاني فهو نظام تفكير بطيء يعتمد على المعلومات لا على الحدس نستخدمه في حالة الأعمال التي تتطلب تركيزاً وانتباهاً وهو يتطلب جهداً وطاقة كبيرين، عندما نشاهد إعلانات على سبيل المثال ونحن في حالة اعتيادية دون تركيز كبير فإن نظام النظام السريع هو الذي يسيطر على تفكير تلك اللحظة ما يؤدي إلى قبول رسائل الإعلانات دون وعي.
يرى عالم النفس الاجتماعي الأمريكي دانيل جلبرت أن البشر يميلون إلى قبول ما يرونه أو يسمعونه على أنه حقيقة ويفسر ذلك بأن الأدمغة أنظمة اسبينوزية، وعندما تواجه نقصاً أو قصورا في الوقت أو الطاقة أو الدليل القاطع فعلى الأرجح أنها تفشل في رفض قبول الأفكار التي قبلتها لا إرادياً أثناء عملية فهمها، وقد استنتج ذلك من تجربة قام بها، إذ أعطى المشاركين ادعاءات على شكل جمل من قبيل 'الأسماك البيضاء تأكل حلويات' وبعد كل جملة يسأل المشارك ما إذا كانت العبارة صحيحة، لكن قبلها طلب منهم تذكر أرقاماً محددة كي يشغل نظام التفكير الثاني عن العمل، كانت النتيجة أن المشاركين أقروا بصحة كثير من الجمل غير الصحيحة، وذلك لأن نظام التفكير السريع هو الذي كان يسيطر في ظل غياب نظام التفكير البطيء الذي كان منشغلاً بحفظ الأرقام عوضاً عن تقييم المعلومات، ما أثر كثيراً على عملية اتخاذ القرار.
يمكن تجنب الوقوع في فخ التصديق السهل من خلال الوعي بآلية التفكير، والرجوع إلى عدة مصادر مع قدرة على تقييمها، وحتى مع ذلك فإن الأمر لا يغدو سهلاً، فعندما يغير نظام التفكير البطيء من حكمه بتغيير حالة الموافقة أو الرفض لأمر أو معلومة ما فإن نظام التفكير السريع لا يدرك أو يستوعب التغيير بسهولة ما يجعله يتصرف وكأن التغيير لم يحدث، ولأنه النظام الأسهل سيطرة على تفكيرنا فقد يجعلنا نتصرف وفق ما اعتدنا عليه لا وفق ما قررنا أن نصبح عليه، فنحن مثلاً نميل إلى تصديق من يتكون لدينا انطباع جيد عنهم في بداية معرفتهم، كأن ندرك أنهم يؤمنون بما نؤمن به أو أنهم يتحدثون بثقة هائلة في أنفسهم، فإذا تشكل الانطباع الأولي فإن تغييره سيكون صعباً حتى إن أدركنا ما يخالفه بعد ذلك، وسنظل متأثرين بالهالة التي صدقناها بداية.
افترض ديكارت أن عملية فهم فكرة ما تكون منفصلة عن عملية الحكم على صدق تلك الفكرة وسابقة لها، أما الحكم بتصديق أو عدم تصديق الفكرة فهي عملية واحدة في الحالين، وتأتي لاحقاً، وخالفه سبينوزا في ذلك، حيث رأى أن عمليتي فهم وقبول الفكرة إنما هما عملية واحدة. وأن عدم تصديقها إنما هي مراجعة متأنية لاحقة على الفهم والقبول، أثبتت الدراسات الحديثة أن فكرة اسبينوزا أقرب إلى طريقة عمل الدماغ من فكرة ديكارت.
يرى علماء النفس المعاصرون أن فهم واستيعاب فكرة ما يتضمن محاولة تصديق تلك الفكرة واستيعاب ما الذي تعنيه صحتها، بعدها فقط يمكن أن يقرر الإنسان ما إذا كان سيختار عدم التصديق، وهناك دراسات تجريبية تثبت ذلك، أولها ما يتعلق بتطور القدرة على إنكار الافتراضات لدى الأطفال، إذ أثبتت الدراسات أن تلك القدرة تتطور متأخرة ويتطلب إتقانها وقتاً، وأن من السهولة بمكان التأثير على الأطفال بمعنى أنهم يقبلون الافتراضات دون تفكير ناقد، هذه الدراسات تتعارض مع فرضية ديكارت، فإن كانت عملية الحكم -القبول والرفض - هي مرحلة واحدة لعملية واحدة فينبغي أن يتقن الأطفال الرفض مبكراً مع إتقانهم لقبول الفرضيات، وربما أن من أهم نتائج البحوث التي تناولت أمر التصديق هي تلك التي قام بها عالم النفس الشهير دانيال كينمان وزملاؤه ولخصها في كتابه المرجعي 'التفكير سريعه وبطيئه' إذ ميز بين نظامين للتفكير نعيش حياتنا مسلمين قياد تفكيرنا لأحدهما في كل لحظة، النظام الأول نظام تفكير سريع يعتمد على الحدس ويكون مسيطراً في حال ما احتجنا إلى ردة فعل سريعة أو كنا نقوم بأعمال معتادة كقيادة السيارة ومعظم أعمالنا الروتينية، وهو نظام يتحكم بتفكيرنا على نحو لا إرادي، أما النظام الثاني فهو نظام تفكير بطيء يعتمد على المعلومات لا على الحدس نستخدمه في حالة الأعمال التي تتطلب تركيزاً وانتباهاً وهو يتطلب جهداً وطاقة كبيرين، عندما نشاهد إعلانات على سبيل المثال ونحن في حالة اعتيادية دون تركيز كبير فإن نظام النظام السريع هو الذي يسيطر على تفكير تلك اللحظة ما يؤدي إلى قبول رسائل الإعلانات دون وعي.
يرى عالم النفس الاجتماعي الأمريكي دانيل جلبرت أن البشر يميلون إلى قبول ما يرونه أو يسمعونه على أنه حقيقة ويفسر ذلك بأن الأدمغة أنظمة اسبينوزية، وعندما تواجه نقصاً أو قصورا في الوقت أو الطاقة أو الدليل القاطع فعلى الأرجح أنها تفشل في رفض قبول الأفكار التي قبلتها لا إرادياً أثناء عملية فهمها، وقد استنتج ذلك من تجربة قام بها، إذ أعطى المشاركين ادعاءات على شكل جمل من قبيل 'الأسماك البيضاء تأكل حلويات' وبعد كل جملة يسأل المشارك ما إذا كانت العبارة صحيحة، لكن قبلها طلب منهم تذكر أرقاماً محددة كي يشغل نظام التفكير الثاني عن العمل، كانت النتيجة أن المشاركين أقروا بصحة كثير من الجمل غير الصحيحة، وذلك لأن نظام التفكير السريع هو الذي كان يسيطر في ظل غياب نظام التفكير البطيء الذي كان منشغلاً بحفظ الأرقام عوضاً عن تقييم المعلومات، ما أثر كثيراً على عملية اتخاذ القرار.
يمكن تجنب الوقوع في فخ التصديق السهل من خلال الوعي بآلية التفكير، والرجوع إلى عدة مصادر مع قدرة على تقييمها، وحتى مع ذلك فإن الأمر لا يغدو سهلاً، فعندما يغير نظام التفكير البطيء من حكمه بتغيير حالة الموافقة أو الرفض لأمر أو معلومة ما فإن نظام التفكير السريع لا يدرك أو يستوعب التغيير بسهولة ما يجعله يتصرف وكأن التغيير لم يحدث، ولأنه النظام الأسهل سيطرة على تفكيرنا فقد يجعلنا نتصرف وفق ما اعتدنا عليه لا وفق ما قررنا أن نصبح عليه، فنحن مثلاً نميل إلى تصديق من يتكون لدينا انطباع جيد عنهم في بداية معرفتهم، كأن ندرك أنهم يؤمنون بما نؤمن به أو أنهم يتحدثون بثقة هائلة في أنفسهم، فإذا تشكل الانطباع الأولي فإن تغييره سيكون صعباً حتى إن أدركنا ما يخالفه بعد ذلك، وسنظل متأثرين بالهالة التي صدقناها بداية.