نوافذ "بائع الأحلام" وفاصلته الصغيرة
السبت / 17 / محرم / 1445 هـ - 20:05 - السبت 5 أغسطس 2023 20:05
يصعد أستاذ علم النفس خوليو سيزار إلى إحدى العمارات الشاهقة، ويستعد للانتحار بإلقاء نفسه من نافذة في الطابق الحادي والعشرين. يبدو عليه الاضطراب وبعض التردد. في الأسفل يتجمّع الناس وقد انتبهوا لهذه المحاولة، كما لم تفوّت وسائل الإعلام الفرصة لنقل عملية الانتحار على الهواء. في هذه الأثناء يمر بين الحشود متشرّد في خريف العمر يسمي نفسه 'بائع الأحلام' وعندما ينتبه للمشهد، يصعد إلى حيث الرجل الموشِك على الانتحار، ويخرج إليه من النافذة نفسها. يقول له: 'أنا أحترم ألمك. إنه يخصّك. إنه الشيء الوحيد الذي يمكنك الشعور به الآن. وأنا معجب بشجاعتك'، ثم يضيف: 'لا يريد المنتحرون أن يقتلوا أنفسهم، وإنما يريدون أن يقتلوا ألمهم'. وشيئًا فشيئًا يقتنع سيزار بحجج بائع الأحلام التي تحذّره من الانتحار فيسأله: من تكون؟ فيجيب: 'أنا بائع أحلام. أبيع ما لا يشتريه المال، الشجاعة لمن هم غير آمنين، والثقة للمصابين بالرهاب، والفطرة السليمة للغافلين'، يسأله: 'والانتحاريّ. ماذا تبيع له؟'، يجيب: 'فاصلة صغيرة كي يستمر في كتابة قصته حتى عندما يتعرض لمشاكل عويصة'.
هذه الفاصلة الصغيرة هي جوهر هذا الفيلم السينمائي الجميل 'بائع الأحلام' الذي أنتجته نتفلكس عام 2016 عن رواية للروائي وعالم النفس البرازيلي أوغوستو كوري تحمل العنوان ذاته. الفيلم من إخراج جايمي مونجارديم وأدى دور البطولة فيه الممثل الأروغواياني سيزار ترونكوسو في دور 'بائع الأحلام'، والممثل البرازيلي دان ستولباخ في دور أستاذ علم النفس. وسنكتشف مع تقدم أحداث الفيلم أن معاناة أستاذ علم النفس التي أفضت به إلى محاولة الانتحار هي لا شيء أمام معاناة 'بائع الأحلام' نفسه، والذي تذكرنا حكايته بعبارة بيسوا: 'لقد كنتُ عبقريا في الأحلام أكثر مما في الحياة، وهذه هي مأساتي'..
في الكتابة لا يستقيم المعنى بدون فاصلة تضبط إيقاع الجملة، وتساعد على فهمها، أو الانتقال منها إلى جملة أخرى. وعندما تنعدم الفواصل فإن العبارات تتداخل في بعضها البعض وتفقد معانيها، وتجعل مواصلة القراءة ضربا من العبث. من هنا نفهم وصف الشاعر المغربي عبدالإله الصالحي للكتابة بأنها 'المهنة التي تُغرِق الكاتب في حيرة أيامًا طويلة قبل أن يجد الموضع المناسب لفاصلة صغيرة'، ونفهم كذلك عبارة الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير: 'بالنسبة لي، أجمل امرأة في العالم لا تساوي فاصلة موضوعة في محلّها'. ولعل هذا هو ما قصده بائع الأحلام من بيعه فاصلة صغيرة. وقد رأينا في الفيلم كيف أن هذه 'الفاصلة الصغيرة' التي نالها أستاذ علم النفس من بائع الأحلام فأنقذت حياته، هي نفسها التي وهبها هذا الأستاذ لابنه في نهاية الفيلم فأنقذته هو الآخر من الانتحار.
هذه الفاصلة الصغيرة إذن هي كل ما نحتاجه في حياتنا اليوم. لا سيما في ظل هذا اللهاث الذي فرضته علينا الحياة المدنية الحديثة ونظامها الاستهلاكي البغيض المهيمن على أدق تفاصيلنا، والذي يمنعنا من الاستمتاع بأجمل لحظاتنا مع أسرنا وأطفالنا وأصدقائنا، وهو النظام نفسه الذي اضطر 'ميلون' – بطل الفيلم- للتحوّل من رجل أعمال فاحش الثراء إلى 'بائع أحلام' يسخر من هؤلاء الذين يضعون العمل في قمة أولوياتهم في الحياة، ويسألهم بتهكّم: 'أي واحد منكم سيكون أغنى رجل في المقبرة؟ أين السعادة التي وعد بها النظام أولئك الذين يصلون إلى ذروة الرأسمالية؟'.
فاصلة صغيرة إذن هي كل ما يلزمنا للنجاة بأنفسنا من سُعار الحياة، ومواصلة العيش بنفَس جديد، وبما يليق بكرامتنا الإنسانية. قد نستطيع كتابتها بأنفسنا، وإن تعذّر ذلك نكون حينئذ بحاجة إلى بائع أحلام متمرّس كــ'ميلون'.
هذه الفاصلة الصغيرة هي جوهر هذا الفيلم السينمائي الجميل 'بائع الأحلام' الذي أنتجته نتفلكس عام 2016 عن رواية للروائي وعالم النفس البرازيلي أوغوستو كوري تحمل العنوان ذاته. الفيلم من إخراج جايمي مونجارديم وأدى دور البطولة فيه الممثل الأروغواياني سيزار ترونكوسو في دور 'بائع الأحلام'، والممثل البرازيلي دان ستولباخ في دور أستاذ علم النفس. وسنكتشف مع تقدم أحداث الفيلم أن معاناة أستاذ علم النفس التي أفضت به إلى محاولة الانتحار هي لا شيء أمام معاناة 'بائع الأحلام' نفسه، والذي تذكرنا حكايته بعبارة بيسوا: 'لقد كنتُ عبقريا في الأحلام أكثر مما في الحياة، وهذه هي مأساتي'..
في الكتابة لا يستقيم المعنى بدون فاصلة تضبط إيقاع الجملة، وتساعد على فهمها، أو الانتقال منها إلى جملة أخرى. وعندما تنعدم الفواصل فإن العبارات تتداخل في بعضها البعض وتفقد معانيها، وتجعل مواصلة القراءة ضربا من العبث. من هنا نفهم وصف الشاعر المغربي عبدالإله الصالحي للكتابة بأنها 'المهنة التي تُغرِق الكاتب في حيرة أيامًا طويلة قبل أن يجد الموضع المناسب لفاصلة صغيرة'، ونفهم كذلك عبارة الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير: 'بالنسبة لي، أجمل امرأة في العالم لا تساوي فاصلة موضوعة في محلّها'. ولعل هذا هو ما قصده بائع الأحلام من بيعه فاصلة صغيرة. وقد رأينا في الفيلم كيف أن هذه 'الفاصلة الصغيرة' التي نالها أستاذ علم النفس من بائع الأحلام فأنقذت حياته، هي نفسها التي وهبها هذا الأستاذ لابنه في نهاية الفيلم فأنقذته هو الآخر من الانتحار.
هذه الفاصلة الصغيرة إذن هي كل ما نحتاجه في حياتنا اليوم. لا سيما في ظل هذا اللهاث الذي فرضته علينا الحياة المدنية الحديثة ونظامها الاستهلاكي البغيض المهيمن على أدق تفاصيلنا، والذي يمنعنا من الاستمتاع بأجمل لحظاتنا مع أسرنا وأطفالنا وأصدقائنا، وهو النظام نفسه الذي اضطر 'ميلون' – بطل الفيلم- للتحوّل من رجل أعمال فاحش الثراء إلى 'بائع أحلام' يسخر من هؤلاء الذين يضعون العمل في قمة أولوياتهم في الحياة، ويسألهم بتهكّم: 'أي واحد منكم سيكون أغنى رجل في المقبرة؟ أين السعادة التي وعد بها النظام أولئك الذين يصلون إلى ذروة الرأسمالية؟'.
فاصلة صغيرة إذن هي كل ما يلزمنا للنجاة بأنفسنا من سُعار الحياة، ومواصلة العيش بنفَس جديد، وبما يليق بكرامتنا الإنسانية. قد نستطيع كتابتها بأنفسنا، وإن تعذّر ذلك نكون حينئذ بحاجة إلى بائع أحلام متمرّس كــ'ميلون'.