أدبيات السايكوباث.. هل عُدنا للتفسيرات البسيطة للشر؟
الأربعاء / 14 / محرم / 1445 هـ - 23:37 - الأربعاء 2 أغسطس 2023 23:37
إن كنت مثلي، تشعر بنفور لا تستطيع تفسيره عند الحديث عن الشخصية السايكوباثية، فأنا أدعوك لأن تفكر معي قليلا فيما يعنيه عدم قبولك غير المشروط لهذه المقاربة التي تحاول شرح من أين تأتي شرور العالم، كما أدعوك لأن نفكر إن كان فيها ما هو أكثر من استبدال مصطلحات الشر والشرير بلفظ أكثر زخرفة تلائم الأناقة المدعاة لعالمنا المعاصر.
إننا نشهد على نحو يومي تقريبا تجليات «الشر» عبر الإبادات الجماعية، الهجمات الإرهابية، والقتل المتسلسل. تحظى الأخيرة على نحو خاص باهتمام الجمهور والدارسين على حد سواء. والمقاربة الأكثر شعبية حاليا، والمتفق عليها تقريبا لفهم هذا السلوك المُعادي للمجتمع، هي نظرية السايكوباث.
حُددت للشخصية السايكوباثية -كما نعرف جميعا- مجموعة من السمات مثل: السلوك المضاد للمجتمع (anti-social)، التلاعب بالآخرين، الافتقاد للشعور بالتعاطف، وعدم الشعور بالذنب أو الندم. يُعتقد وعلى نطاق واسع، بوجود علاقة بين اضطراب الشخصية السايكوباثية والسلوك الإجرامي. كما يُناقش اليوم أثر حيازة بعض الميول السايكوباثية في النجاح المهني، حيث لا ينجح الأشخاص الذين يملكون هذه السمات في الابتعاد عن المشاكل فحسب، بل وأيضا في تسخيرها للنجاح في حياتهم وحيازة مكانة اجتماعية أو مهنية رفيعة. حتى أن البعض يُجادل بأن الشخصية السايكوباثية لا تستحق لا الازدراء ولا التبجيل (كون الشائع عنهم أنهم يسحرون بالكاريزما الخاصة بهم)، وأن سماتها موجودة بدرجة ما في كل واحد منا.
ثمة بالطبع «حسنات» تقدمية -لا يُمكن إنكارها- لاعتماد هذه النظرية في تفسير السلوك الإجرامي. إذا توفر للجُناة منظورًا أكثر رحمة أثناء التعامل معهم، ومع قضاياهم. الجاني عوضا عن أن يكون مستحقا للوم والعقاب (أو بالأحرى مُستحقا لهذا وحده)، يُصبح مُستحقا للمساعدة أيضا.
علينا الانتباه ونحن نُفكر بالمسألة، أن بناء الشخصية الذي نتحدث عنه ليس وليد الجينات وحدها، بل ما يتعرض له الإنسان أيضا -خصوصا في سنواته المبكرة- من تجارب. وبهذا فالنظرية لا تغفل التعالق الجيني-البيئي في تكوين السمات الشخصية.
لكني -مع ذلك- اتساءل إن كانت هذه المقاربة للسلوك الإجرامي، تُعطي ما نسميه «الملابسات» أي السياق الذي يحدث فيه الفعل الإجرامي الأهمية الكافية. ثم أتساءل من أين يأتي هذا الشعور بعدم الارتياح (the unease) عند مقاربة الموضوع من هذا المنظور.
لا تُعطي دراسات السايكوباث كبير أهمية للسياق؛ لأنها لا تُعنى كثيرا بالقتل الذي يحدث -مثلا- دون تعمد القتل، أو الاعتداء على أحدهم في حالة غضب، إنها تُعنى بما تُسميه الفلسفة شرورا، أي تلك الظواهر التي لا نكتفي عند وصفها بالقول أنها سيئة، بل نحتاج إلى لفظة تلتقط فداحة الفعل، لفظة لا تغفل القصدية، فنطلق عليها شرورًا.
عدم ارتياحنا لهذه المقاربة قد يكون قادما من عدم الإيمان بأن السمات الشخصية يُمكن قياسها بالسهولة التي تقترحها العديد من مواقع الإنترنت التي تطالعك بشتى أنواع الاختبارات النفسية، لتضعك ضمن تصنيف محدد، أو حتى لتُشخص ما إذا كُنت تعاني من اضطراب نفسي ما.
في السنوات الأخيرة، تحدى الباحثون النفسيون المنهج التصنيفي الذي يعتمد على ثنائية الغياب أو الحضور، ويسعى إلى تحديد ما إذا كانت المتلازمة أو الاضطراب موجودا أم لا، وتبنوا عوضا عن ذلك المنهج البُعدي الذي يستند إلى فكرة الطيف لقياس شدة تجلي سمة ما. أخرج المنهج الجديد الباحثين من سجنهم (بالمعنى الحرفي) فلم تعد عينة البحث محصورة في المساجين، والمتهمين بارتكاب الجرائم، بل وشملت الإنسان «العادي»، وقاست حضور هذه السمات التي تتراوح في شدتها من الضعيف أو المعتدل إلى القوي ضمن الطيف السايكوباثي.
بمعرفة هذا يقل عدم ارتياحنا حول المسألة. فنحن نعرف الآن أن قائمة السمات -الواردة هنا أو غيرها من السمات التي لم ترد- لا تخص الشخصية السايكوباثية فقط، وليست حكرا على نوع محدد من الناس، إنها فقط توجد بشدة، وتتجلى بوضوح لدى البعض مقارنة بالبعض الآخر. وبهذا يخرج من تصورنا الإنسان الشرير بطبيعته، ويحل مكانه تصور الإنسان المثيل لنا، الذي توفرت له عوامل دفعته لاتخاذ ردود فعل تشذ عن الذي نُسميه السلوك المعياري. ونحن فوق ذلك أمام مقاربة تجعل الجاني محل تعاطفنا، وتدفعنا لأن نفكر كيف نُساعده، عوضا عن أن نُفكر كيف نعاقبه أو كيف نجعل منه عبرة. خصوصا مع جدال البعض أن الاضطراب السايكوباثي قابل -وإن بصعوبة- للعلاج.
في النهاية، أحسب أن وضع الأمر في هذا الإطار يجعل المرء أكثر تقبلا للفكرة. ولعل عدم الارتياح قادم في الأصل من موضعة (objectification) الشخصية السايكوباثية عبر عناوين مثل: في داخل العقل السايكوباثي، كيف يرى السايكوباثيين العالم، لماذا لا يُصدق السايكوباثيون أنهم كذلك، وغيرها من المواد التي تفترض فرقا واضحا وأصيلا بين من ينتمون لهذه المجموعة، والذين لا ينتمون إليها. بينما أرى شخصيا أن للموضوع علاقة وثيقة بالمنفذ أو المتنفس للمشاعر خصوصا السلبي منها والهدام، والتي نتشارك فيها جميعا، أو -بعبارة أخرى- بلعبة القوى التي ننخرط بها.
إننا نشهد على نحو يومي تقريبا تجليات «الشر» عبر الإبادات الجماعية، الهجمات الإرهابية، والقتل المتسلسل. تحظى الأخيرة على نحو خاص باهتمام الجمهور والدارسين على حد سواء. والمقاربة الأكثر شعبية حاليا، والمتفق عليها تقريبا لفهم هذا السلوك المُعادي للمجتمع، هي نظرية السايكوباث.
حُددت للشخصية السايكوباثية -كما نعرف جميعا- مجموعة من السمات مثل: السلوك المضاد للمجتمع (anti-social)، التلاعب بالآخرين، الافتقاد للشعور بالتعاطف، وعدم الشعور بالذنب أو الندم. يُعتقد وعلى نطاق واسع، بوجود علاقة بين اضطراب الشخصية السايكوباثية والسلوك الإجرامي. كما يُناقش اليوم أثر حيازة بعض الميول السايكوباثية في النجاح المهني، حيث لا ينجح الأشخاص الذين يملكون هذه السمات في الابتعاد عن المشاكل فحسب، بل وأيضا في تسخيرها للنجاح في حياتهم وحيازة مكانة اجتماعية أو مهنية رفيعة. حتى أن البعض يُجادل بأن الشخصية السايكوباثية لا تستحق لا الازدراء ولا التبجيل (كون الشائع عنهم أنهم يسحرون بالكاريزما الخاصة بهم)، وأن سماتها موجودة بدرجة ما في كل واحد منا.
ثمة بالطبع «حسنات» تقدمية -لا يُمكن إنكارها- لاعتماد هذه النظرية في تفسير السلوك الإجرامي. إذا توفر للجُناة منظورًا أكثر رحمة أثناء التعامل معهم، ومع قضاياهم. الجاني عوضا عن أن يكون مستحقا للوم والعقاب (أو بالأحرى مُستحقا لهذا وحده)، يُصبح مُستحقا للمساعدة أيضا.
علينا الانتباه ونحن نُفكر بالمسألة، أن بناء الشخصية الذي نتحدث عنه ليس وليد الجينات وحدها، بل ما يتعرض له الإنسان أيضا -خصوصا في سنواته المبكرة- من تجارب. وبهذا فالنظرية لا تغفل التعالق الجيني-البيئي في تكوين السمات الشخصية.
لكني -مع ذلك- اتساءل إن كانت هذه المقاربة للسلوك الإجرامي، تُعطي ما نسميه «الملابسات» أي السياق الذي يحدث فيه الفعل الإجرامي الأهمية الكافية. ثم أتساءل من أين يأتي هذا الشعور بعدم الارتياح (the unease) عند مقاربة الموضوع من هذا المنظور.
لا تُعطي دراسات السايكوباث كبير أهمية للسياق؛ لأنها لا تُعنى كثيرا بالقتل الذي يحدث -مثلا- دون تعمد القتل، أو الاعتداء على أحدهم في حالة غضب، إنها تُعنى بما تُسميه الفلسفة شرورا، أي تلك الظواهر التي لا نكتفي عند وصفها بالقول أنها سيئة، بل نحتاج إلى لفظة تلتقط فداحة الفعل، لفظة لا تغفل القصدية، فنطلق عليها شرورًا.
عدم ارتياحنا لهذه المقاربة قد يكون قادما من عدم الإيمان بأن السمات الشخصية يُمكن قياسها بالسهولة التي تقترحها العديد من مواقع الإنترنت التي تطالعك بشتى أنواع الاختبارات النفسية، لتضعك ضمن تصنيف محدد، أو حتى لتُشخص ما إذا كُنت تعاني من اضطراب نفسي ما.
في السنوات الأخيرة، تحدى الباحثون النفسيون المنهج التصنيفي الذي يعتمد على ثنائية الغياب أو الحضور، ويسعى إلى تحديد ما إذا كانت المتلازمة أو الاضطراب موجودا أم لا، وتبنوا عوضا عن ذلك المنهج البُعدي الذي يستند إلى فكرة الطيف لقياس شدة تجلي سمة ما. أخرج المنهج الجديد الباحثين من سجنهم (بالمعنى الحرفي) فلم تعد عينة البحث محصورة في المساجين، والمتهمين بارتكاب الجرائم، بل وشملت الإنسان «العادي»، وقاست حضور هذه السمات التي تتراوح في شدتها من الضعيف أو المعتدل إلى القوي ضمن الطيف السايكوباثي.
بمعرفة هذا يقل عدم ارتياحنا حول المسألة. فنحن نعرف الآن أن قائمة السمات -الواردة هنا أو غيرها من السمات التي لم ترد- لا تخص الشخصية السايكوباثية فقط، وليست حكرا على نوع محدد من الناس، إنها فقط توجد بشدة، وتتجلى بوضوح لدى البعض مقارنة بالبعض الآخر. وبهذا يخرج من تصورنا الإنسان الشرير بطبيعته، ويحل مكانه تصور الإنسان المثيل لنا، الذي توفرت له عوامل دفعته لاتخاذ ردود فعل تشذ عن الذي نُسميه السلوك المعياري. ونحن فوق ذلك أمام مقاربة تجعل الجاني محل تعاطفنا، وتدفعنا لأن نفكر كيف نُساعده، عوضا عن أن نُفكر كيف نعاقبه أو كيف نجعل منه عبرة. خصوصا مع جدال البعض أن الاضطراب السايكوباثي قابل -وإن بصعوبة- للعلاج.
في النهاية، أحسب أن وضع الأمر في هذا الإطار يجعل المرء أكثر تقبلا للفكرة. ولعل عدم الارتياح قادم في الأصل من موضعة (objectification) الشخصية السايكوباثية عبر عناوين مثل: في داخل العقل السايكوباثي، كيف يرى السايكوباثيين العالم، لماذا لا يُصدق السايكوباثيون أنهم كذلك، وغيرها من المواد التي تفترض فرقا واضحا وأصيلا بين من ينتمون لهذه المجموعة، والذين لا ينتمون إليها. بينما أرى شخصيا أن للموضوع علاقة وثيقة بالمنفذ أو المتنفس للمشاعر خصوصا السلبي منها والهدام، والتي نتشارك فيها جميعا، أو -بعبارة أخرى- بلعبة القوى التي ننخرط بها.