عن فن التمثيل وأداء الممثلين
الثلاثاء / 13 / محرم / 1445 هـ - 23:42 - الثلاثاء 1 أغسطس 2023 23:42
فن التمثيل كان يُسمى فيما مضى «التشخيص»، وكان الممثل يسمى «المشخصاتي»، وهي كلمة كانت تُستخدم للتعبير عن استهجان العمل بتلك المهنة باعتبارها مهنة وضيعة. ولكننا إذا تأملنا الدلالة الحقيقية لكلمة «التشخيص»، فسوف نجد أنها تعبر بعمق وفي كلمة واحدة عن حقيقة فن التمثيل باعتباره فنًا من الفنون الجميلة الأكثر تعقيدًا.
«التشخيص» يعني القدرة على تجسيد حقيقة شخص ما كما تتبدى من خلال المواقف المتباينة. فالتشخيص أو التمثيل إذن لا يعني الكذب، وإنما يعني الصدق في التعبير عن حقيقة الشخص المراد تمثيل شخصيته. والممثل في أدائه لهذه المهمة العويصة لا بد أن ينسى شخصيته الحقيقية لكي يمكنه معايشة الشخصية التي يريد تصوير حقيقتها. وتلك مهمة عويصة؛ لأن الممثل يكون عليه من حين لآخر أن ينتقل من شخصيته الحقيقية إلى التعبير عن حقيقة شخصية أخرى يعايشها حينًا ليعود بعد ذلك؛ كي يعيش شخصيته الحقيقية؛ وهذا الانتقال باستمرار من الشخصية الواقعية إلى الشخصية المتخيلة، ومن الشخصية المتخيلة إلى الشخصية الواقعية، هو ما يؤدي إلى إصابة بعض الممثلين بالجنون في أواخر حياتهم، كما رأى سارتر في كتابه عن «الخيالي». ويمكن إيضاح هذه العملية التي يقوم بها الممثل، على النحو التالي:
لكي يحسن الممثل التعبير عن حقيقة الشخصية التي يمثلها، فإنه يجب أن ينسى شخصيته هو أولًا، فهذا أول وأهم شرط من شروط الأداء الجيد؛ والواقع أن هذا الشرط يُعد معيارًا حاسمًا لتقييم الممثلين والمفاضلة بين أدائهم، بصرف النظر عن شهرة كل منهم. ذلك أن كل ممثل -شأن أي شخص منا- يتميز بلازمات محددة لشخصيته تتبدى في السحنة والنظرة والمِشية وطريقة الكلام.. إلخ. بعض الممثلين لا يستطيعون التخلص من هذه اللازمات الخاصة بهم حينما يقومون بأداء أو تمثيل شخصية أخرى لها طبيعتها وسماتها الخاصة بها، والتي ينبغي أن يسعى الممثل إلى تجسيدها وتصويرها وفقًا للصورة المتخيلة التي يوحي بها النص المكتوب: فالنص -كأن يكون رواية على سبيل المثال- يرسم ملامح الشخصية ومسلكها في إطار الأحداث، ولكنه لا يقول كل شيء فيما يتعلق بكل تفاصيل الشخصية، فهو يترك مواضع معينة بلا تحديد أو «تعيين»، وهي المواضع التي يقوم الممثل بملئها وفقًا لرؤيته وإمكانياته التعبيرية. ولهذا لا يمكننا تصور دور الممثل على أنه مجرد أداة لتجسيد رؤية المخرج أو تأويله لطبيعة الشخصية المراد تصويرها؛ لأن الممثل العظيم تكون له رؤيته الخاصة التي تتمثل في الأداء نفسه. والواقع أن هذه العملية في فن التمثيل باعتباره تأويلًا، هي عملية تشبه -وإن كان على نحو أكثر تعقيدًا- العملية التي تحدث في فن الغناء: فالأوركسترا يقوم بتأويل النوتة الموسيقية، والمغني يقوم بأداء كلمات الأغنية وفقًا لإمكانياته الصوتية. ولهذا فإننا نجد أحيانًا أكثر من مطرب من المطربين العظام يؤدون بأساليب متنوعة وبإحساس مختلف نفس الأغنية. وعلى النحو نفسه، فإننا نجد أن الممثل العظيم يجسد الشخصية التي يُراد تصويرها وفقًا لرؤيته وإمكانياته في الأداء؛ ولكن مهمة الممثل تكون أكثر تعقيدًا من مهمة المؤدي في فن الغناء أو غيره من فنون الأداء؛ بالضبط لأن الممثل يكون عليه أن يتخلص من ملامحه الخاصة، ليس فقط من حيث هيئته، وإنما أيضًا من حيث لازماته الفيزيقية الخاصة، بما في ذلك نبرة صوته وإيقاعه على سبيل المثال. وربما يتطلب إيضاح هذا الأمر بعضًا من الأمثلة المستمدة من واقعنا السينمائي:
لنتأمل حالة الممثلين المشهورين في مصر من الجيل الأخير الذي يشمل: عادل إمام ومحمود ياسين ونور الشريف وأحمد زكي ومحمود عبدالعزيز. لنتخذ حالة عادل إمام باعتبارها نموذجًا هنا. يحظى عادل إمام بالشهرة الأوسع لدى جمهور العالم العربي، ومع ذلك فإني أراه محدود الموهبة؛ لأنه يقوم بأداء بعض اللازمات الشخصية التي يكررها في أداء أدواره المختلفة، وكلها حركات فيزيقية مكرورة أو عبارات تشبه النكات تحاول استدعاء الضحك؛ ولذلك فإن ضحكت عند مشاهدتها أول مرة، فلن تستطيع ذلك في المرة الثانية. ولذلك فإن شهرته -فيما أرى- لا ترجع إلى موهبة متميزة، وإنما إلى ذكاء فني يتمثل في القدرة على اختيار موضوعات سينمائية شعبوية يتلاعب من خلالها بأحلام وطموحات الفقراء والمهمشين. وحتى في مجال الكوميديا فإن الممثل محمود عبد العزيز يفوقه كثيرًا؛ لأنه لم يقم بتكرار لازمات فيزيقية مفتعلة في كل دور كوميدي يؤديه، بل كان يبدع في خلق لازمات تخص كل شخصية بذاتها. ولنتأمل حالة الممثل محمود ياسين، فهو بلا شك ممثل قدير، ولكن ما يعيب أداءه في كثير من أدواره أنه كان يحتفظ ببعض من سماته الفيزيقية -ومن ذلك الصوت الرخيم والمظهر الرصين على سبيل المثال- حينما يصور شخصية ما قد تكون سماتها مختلفة تمامًا. وعمومًا فإني أرى أن أفضل الممثلين في ذلك الجيل الذي رحل معظمه هو الفنان أحمد زكي الذي لم تكن هيئته الفيزيقية تؤهله أصلًا للعمل كممثل، ومع ذلك فقد كان قادرًا على تجسيد كل الشخصيات التي قام بتمثيلها على ما هناك من اختلافات تامة فيما بينها. أما الممثل الذي أراه أعظم من هؤلاء جميعًا، فهو الفنان محمود مرسي الذي اقترنت الشخصيات الروائية الكبرى (ومنها شخصيات نجيب محفوظ) باسمه على نحو ما جسدها في أفلامه: كالشحاذ والسمان والخريف على سبيل المثال.
أعود فأجمل ما أود قوله من هذه الأمثلة، وهو أن إبداعية الممثل تكمن في قدرته على إخفاء شخصيته الواقعية، بهدف إظهار شخصية متخيلة، أعني من خلال تمثيل شخصية يحيا فيها على مستوى الخيال.
«التشخيص» يعني القدرة على تجسيد حقيقة شخص ما كما تتبدى من خلال المواقف المتباينة. فالتشخيص أو التمثيل إذن لا يعني الكذب، وإنما يعني الصدق في التعبير عن حقيقة الشخص المراد تمثيل شخصيته. والممثل في أدائه لهذه المهمة العويصة لا بد أن ينسى شخصيته الحقيقية لكي يمكنه معايشة الشخصية التي يريد تصوير حقيقتها. وتلك مهمة عويصة؛ لأن الممثل يكون عليه من حين لآخر أن ينتقل من شخصيته الحقيقية إلى التعبير عن حقيقة شخصية أخرى يعايشها حينًا ليعود بعد ذلك؛ كي يعيش شخصيته الحقيقية؛ وهذا الانتقال باستمرار من الشخصية الواقعية إلى الشخصية المتخيلة، ومن الشخصية المتخيلة إلى الشخصية الواقعية، هو ما يؤدي إلى إصابة بعض الممثلين بالجنون في أواخر حياتهم، كما رأى سارتر في كتابه عن «الخيالي». ويمكن إيضاح هذه العملية التي يقوم بها الممثل، على النحو التالي:
لكي يحسن الممثل التعبير عن حقيقة الشخصية التي يمثلها، فإنه يجب أن ينسى شخصيته هو أولًا، فهذا أول وأهم شرط من شروط الأداء الجيد؛ والواقع أن هذا الشرط يُعد معيارًا حاسمًا لتقييم الممثلين والمفاضلة بين أدائهم، بصرف النظر عن شهرة كل منهم. ذلك أن كل ممثل -شأن أي شخص منا- يتميز بلازمات محددة لشخصيته تتبدى في السحنة والنظرة والمِشية وطريقة الكلام.. إلخ. بعض الممثلين لا يستطيعون التخلص من هذه اللازمات الخاصة بهم حينما يقومون بأداء أو تمثيل شخصية أخرى لها طبيعتها وسماتها الخاصة بها، والتي ينبغي أن يسعى الممثل إلى تجسيدها وتصويرها وفقًا للصورة المتخيلة التي يوحي بها النص المكتوب: فالنص -كأن يكون رواية على سبيل المثال- يرسم ملامح الشخصية ومسلكها في إطار الأحداث، ولكنه لا يقول كل شيء فيما يتعلق بكل تفاصيل الشخصية، فهو يترك مواضع معينة بلا تحديد أو «تعيين»، وهي المواضع التي يقوم الممثل بملئها وفقًا لرؤيته وإمكانياته التعبيرية. ولهذا لا يمكننا تصور دور الممثل على أنه مجرد أداة لتجسيد رؤية المخرج أو تأويله لطبيعة الشخصية المراد تصويرها؛ لأن الممثل العظيم تكون له رؤيته الخاصة التي تتمثل في الأداء نفسه. والواقع أن هذه العملية في فن التمثيل باعتباره تأويلًا، هي عملية تشبه -وإن كان على نحو أكثر تعقيدًا- العملية التي تحدث في فن الغناء: فالأوركسترا يقوم بتأويل النوتة الموسيقية، والمغني يقوم بأداء كلمات الأغنية وفقًا لإمكانياته الصوتية. ولهذا فإننا نجد أحيانًا أكثر من مطرب من المطربين العظام يؤدون بأساليب متنوعة وبإحساس مختلف نفس الأغنية. وعلى النحو نفسه، فإننا نجد أن الممثل العظيم يجسد الشخصية التي يُراد تصويرها وفقًا لرؤيته وإمكانياته في الأداء؛ ولكن مهمة الممثل تكون أكثر تعقيدًا من مهمة المؤدي في فن الغناء أو غيره من فنون الأداء؛ بالضبط لأن الممثل يكون عليه أن يتخلص من ملامحه الخاصة، ليس فقط من حيث هيئته، وإنما أيضًا من حيث لازماته الفيزيقية الخاصة، بما في ذلك نبرة صوته وإيقاعه على سبيل المثال. وربما يتطلب إيضاح هذا الأمر بعضًا من الأمثلة المستمدة من واقعنا السينمائي:
لنتأمل حالة الممثلين المشهورين في مصر من الجيل الأخير الذي يشمل: عادل إمام ومحمود ياسين ونور الشريف وأحمد زكي ومحمود عبدالعزيز. لنتخذ حالة عادل إمام باعتبارها نموذجًا هنا. يحظى عادل إمام بالشهرة الأوسع لدى جمهور العالم العربي، ومع ذلك فإني أراه محدود الموهبة؛ لأنه يقوم بأداء بعض اللازمات الشخصية التي يكررها في أداء أدواره المختلفة، وكلها حركات فيزيقية مكرورة أو عبارات تشبه النكات تحاول استدعاء الضحك؛ ولذلك فإن ضحكت عند مشاهدتها أول مرة، فلن تستطيع ذلك في المرة الثانية. ولذلك فإن شهرته -فيما أرى- لا ترجع إلى موهبة متميزة، وإنما إلى ذكاء فني يتمثل في القدرة على اختيار موضوعات سينمائية شعبوية يتلاعب من خلالها بأحلام وطموحات الفقراء والمهمشين. وحتى في مجال الكوميديا فإن الممثل محمود عبد العزيز يفوقه كثيرًا؛ لأنه لم يقم بتكرار لازمات فيزيقية مفتعلة في كل دور كوميدي يؤديه، بل كان يبدع في خلق لازمات تخص كل شخصية بذاتها. ولنتأمل حالة الممثل محمود ياسين، فهو بلا شك ممثل قدير، ولكن ما يعيب أداءه في كثير من أدواره أنه كان يحتفظ ببعض من سماته الفيزيقية -ومن ذلك الصوت الرخيم والمظهر الرصين على سبيل المثال- حينما يصور شخصية ما قد تكون سماتها مختلفة تمامًا. وعمومًا فإني أرى أن أفضل الممثلين في ذلك الجيل الذي رحل معظمه هو الفنان أحمد زكي الذي لم تكن هيئته الفيزيقية تؤهله أصلًا للعمل كممثل، ومع ذلك فقد كان قادرًا على تجسيد كل الشخصيات التي قام بتمثيلها على ما هناك من اختلافات تامة فيما بينها. أما الممثل الذي أراه أعظم من هؤلاء جميعًا، فهو الفنان محمود مرسي الذي اقترنت الشخصيات الروائية الكبرى (ومنها شخصيات نجيب محفوظ) باسمه على نحو ما جسدها في أفلامه: كالشحاذ والسمان والخريف على سبيل المثال.
أعود فأجمل ما أود قوله من هذه الأمثلة، وهو أن إبداعية الممثل تكمن في قدرته على إخفاء شخصيته الواقعية، بهدف إظهار شخصية متخيلة، أعني من خلال تمثيل شخصية يحيا فيها على مستوى الخيال.