أفكار وآراء

قانون العمل والحماية الاجتماعية والأمان

تحرص دول العالم على تهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تُسهم في رفع معدلات الأمان والسلامة والرفاه لأفراد المجتمع، خاصة بعد ما مرَّت عليه ظروف صحية واقتصادية قاسية، أثَّرت على قدرة الكثير من المجتمعات على الصمود والاستدامة، ولهذا فإن الكشف المبكر عن التحديات والمخاطر القادمة يُسهم في تقديم الحلول وتحسين سبل العمل والعيش وبالتالي تحسين الرفاه الاجتماعي.

يقدِّم تقرير مؤشر تصورات السلامة لعام 2023 (فهم تأثير المخاطر في جميع أنحاء العالم)، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (IEP)، تقييمًا لمخاوف وتجارب المخاطر في 121 دولة حول العالم، في ظل الكثير من الصراعات الجيوسياسية، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها العالم، إضافة إلى التحديات التي خلّفتها الأوبئة الصحية والكوارث الطبيعية التي أصابته وما زالت تعصف بالكثير من الدول.

ولهذا فإن التقرير يحاول الكشف عن معدلات الخطر والسلامة في المجالات المختلفة خاصة تلك المرتبطة بالعمل والصحة والطرق والظروف الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية عامة، التي تنعكس على قدرة المجتمعات على الحياة في ظل تصورات السلامة والمخاطر العالمية التي ترتبط بالمتغيرات والتهديدات المتعلقة بمجموعة من الظروف التي يعيشها المجتمع، وبسبب تلك المخاطر والتحديات التي واجهت العالم فإن الدول تعكف على مواءمة سياساتها وقوانينها بُغية توفير أفضل وسائل الحماية لأفراد مجتمعاتها في كافة المستويات.

ولأن هذه الحماية تتعلَّق بالخطط الإنمائية المرتبطة بالرؤى الوطنية من ناحية، وتحقيق مبادئ العدالة والمساواة والسلامة والأمان من ناحية ثانية، فإن ما تقدمه الدولة من مراجعة للتشريعات والقوانين المنظمة لبيئات العمل وقواعده وشروطه يتناسب مع تلك الخطط والمبادئ، بالإضافة إلى حماية حقوق العمَّال وتعزيز مفاهيم الإنتاج والاستدامة من خلال مجموعة من الممارسات والبرامج الإنمائية التي تضمن تلك الحماية، وتطوِّر من إمكاناتهم وقدراتهم، بما يتناسب مع أهداف تلك الرؤى التي تنطلق من الإنسان نفسه وحاجاته إلى تحقيق الرفاه والأمان الاجتماعي.

إن التحديات التي تواجه العالم والمخاطر التي واجهته خلال المرحلة السابقة وما زالت، واحدة من الأسباب التي تدفع إلى تسريع العمل من أجل تحقيق أهداف التنمية الوطنية، وتغيير أنماط بيئات العمل بما يتوافق وتلك الأهداف، إضافة إلى أن آفاق الحماية تأخذ أبعادًا ترتبط بالوعي الإنساني وتطويره وقدرته على الاستفادة من الفرص المتاحة على المستوى الوطني، والتي تُسهم في تأمين التكافؤ والإنصاف والمساواة والدمج الاجتماعي في بيئة العمل نفسها.

لقد اعتمد قانون العمل الجديد على مجموعة من الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية القائمة على المساواة وحماية حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الاستدامة والفعالية والتمكين. إنها أبعاد تنطلق من المنظور التنموي الذي تأسست عليه عُمان منذ عصر النهضة، والذي يتخذ اليوم أنماطًا أكثر قدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمواطنة الإيجابية التي تجعل من (المواطن) الأساس التنموي الذي تقوم عليه الرؤى المستقبلية، وبالتالي فإن القانون قدَّم أفضل الممارسات التي تمكِّن العماني من الحصول على أفضل الفرص وتوفِّر له حق المشاركة الفاعلة من خلال تلك المبادئ التي اتخذها القانون في تأسيس الإطار المؤسسي والتشريعي لبيئات العمل وحقوق العمَّال.

لا نهدف هنا إلى استحضار أبواب قانون العمل أو فصوله ومواده، فقد فُصّلت كثيرا، لكننا نبتغي إيضاح تلك الأُسس التنموية التي قام عليها القانون، والتي تنطلق من حرص الدولة على حماية حقوق المواطن والعامل الذي يعمل في المؤسسات من ناحية، وحقه في المشاركة الفاعلة في التنمية من ناحية أخرى؛ فمن يقرأ القانون يجد أنه جعل من الرفاهية الاجتماعية لأفراد المجتمع هدفًا أصيلًا، إضافة إلى قدرته على حمايتهم من المخاطر والتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تهدد المجتمعات ليس فقط في عُمان بل في العالم بأسره.

إن القانون يعكس آفاق التنمية والسياسات الشاملة التي تهدف إلى تحسين مستويات الرفاهية؛ من خلال فتح آفاق فرص العمل وأنماطه وأنواعه، بما يضمن المشاركة والتوزيع العادل، والالتزام بتحسين ظروفه وقدرته على الاستدامة، ولهذا فإن علينا النظر إليه باعتباره فرصة تنموية محفِّزة على العمل ضمن تلك الآفاق، قادرة على دعم توجهاتنا وأهدافنا حتى الفردية منها، التي نسعى إلى تحقيقها ضمن منظومة العمل والحماية الاجتماعية لحقوقنا وغاياتنا نحو تحسين أوضاعنا الاقتصادية.

لقد قدمَّ قانونا العمل والحماية الاجتماعية منظومة متكاملة، لا تهدف إلى حماية المواطن بشكل خاص ومن يعيش في هذا الوطن بشكل عام، وإنما قدَّمت آفاقا تنموية تؤطر الفكر التنموي الذي تهدف إليه الرؤية الوطنية عمان 2040؛ وهي رؤية سنجدها ضمن مجموعة من الأولويات والتوجهات الوطنية؛ سواء في أولوية التعليم والتعلم والبحث العلمي والقدرات الوطنية، أو في أولوية الرفاه والحماية الاجتماعية، أو ضمن أولوية التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية، أو ما تأسست عليه أولوية سوق العمل والتشغيل، وغيرها من الأولويات التي كرَّست مفاهيم حق الرفاه الاجتماعي الذي يتأصَّل وفق (بيئة تنظيمية وتشريعات ذات حاكمية تتصف بالتجدد والمرونة ومواكبة المستجدات وضامنة لتكافؤ الفرص).

ولهذا فإن هذه القوانين تعمل على ضمان التنمية والتشاركية، والحوكمة القادرة على جذب الكفاءات الوطنية، والاستفادة من خبراتها، وتطوير قدراتها بما يتواءم مع متطلبات التنمية الوطنية وتحقيق الأهداف، إضافة إلى أنها تفتح مجالات للقدرات الشبابية، من خلال أنماط العمل المختلفة من ناحية، وأنماط الحماية الاجتماعية من ناحية أخرى، وكلها أنماط قادرة على تخطي التحديات والمخاطر المستقبلية، وتُعزِّز العدالة، والروابط الاجتماعية والاقتصادية في المنظومة الوطنية بشكل عام.

إن المسارات التشريعية التي اتخذتها قوانين العمل والحماية الاجتماعية تجعل من رفاه المواطن أساسا تنطلق منه، لتحقيق الأثر في المسار التنموي الذي تهدف إليه، ولهذا فإنها تجمع بين تحقيق الأمان الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة الرشيدة التي تربطه بالمجالات التنموية كلها؛ فكلما تحقَّقت أهداف ذلك الأمان، ترسَّخت مفاهيم التشارك والمواطنة الإيجابية، وفي سبيل ذلك عمدت تلك القوانين إلى الانفتاح لتشمل فئات المجتمع كله، وتراعي أنماط حياتهم وتفتح أمامهم مجالات العمل وفرصه.

ولعل تركيز هذه القوانين على الاستدامة المالية لأفراد المجتمع واحد من أهم آفاق استدامة الرفاه الاجتماعي الذي تحرص عليه الدولة، والذي يقدِّم فكرًا قائمًا على تخطي التحديات والصعوبات التي واجهت المجتمع خلال السنوات الماضية جراء المخاطر الصحية والاقتصادية التي عصفت بالعالم، ولهذا كان هدف الاستدامة المالية واضحا من خلال تلك البرامج والسياسات التي ظهرت في أبواب القوانين وموادها؛ ذلك لأن هذه البرامج، توفِّر للأفراد فرص الأمان الاجتماعي والاقتصادي، وتؤهِّلهم لتطوير إمكاناتهم من أجل الحصول على فرص عمل أفضل، بل تمكِّنهم من العمل في مجالات عدة مفتوحة، قادرة على تحسين مستوى معيشتهم، وبالتالي مستوى رفاههم الاجتماعي.

إن القوانين والتشريعات القادرة على فتح الفرص المرنة والمتوازنة، التي تحمي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، هي مطلب الحياة الحديثة بمتغيراتها وتحدياتها ومخاطرها المستقبلية، فهي التي تعزِّز القيم التنموية في القطاعات المختلفة، وترسِّخ مفاهيم المواطنة والعمل المشترك، ولأن الدولة تؤصِّل ذلك من خلال العديد من القوانين عامة وقانوني العمل والحماية الاجتماعية خاصة، فإن علينا أن نجعل من تلك القوانين فرصا تنموية، وأن نستفيد من انفتاحها، وأن نسعى دومًا إلى تطوير قدراتنا وإمكاناتنا من أجل الحصول على فرص عمل أفضل تُسهم في تحسين أنماط حياتنا واستدامتنا المالية.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة