أفكار وآراء

آلام الذاكرة ومباهجها

وما الذاكرة؟ الذاكرة هي كل شيء في حياة الإنسان: فمن دون الذاكرة نصبح نحن والجمادات شيئا واحدا. الذاكرة هي الحياة، بل هي الوجود الإنساني نفسه؛ فمن دونها لا يصبح لنا حضور تاريخي في العالم وفي الوجود الإنساني نفسه؛ أعني أننا نصبح والأشياء على حد سواء. فما كُنه الذاكرة ومكمنها؟ وبصفتي مشتغلا بالفلسفة يؤمن في الوقت ذاته بقيمة العلم ومكتشفاته؛ فإن الذاكرة عندي ليست سوى موضع معين في المخ؛ فكل ما يصيب الذاكرة هو نتاج عطب ما يصيب الموضع المسؤول عن الذاكرة في المخ. بل إنني أومن بأن ما يصيب المشاعر الإنسانية هو أيضا نتاج عطب يصيب مراكز أخرى في المخ، ولهذا يمكن القول إن الإصابات في مراكز معينة من المخ يمكن أن تجعل من الشخص كائنا يشبه الشيء، أي كائنا بلا ذاكرة، ثم بلا تاريخ أو هوية أو شعور.

وعلى هذا، يمكننا القول إن المخ نفسه، الذي منه الذاكرة، هو الروح نفسها أو ما نسميه النفس. سيبادر بعض المتدينين في أيامنا هذه ممن لا يؤمنون بالعلم، ويتصورون الدين المرجعية الوحيدة حتى فيما يتعلق بشؤون الدنيا والعلم؛ أقول: سيبادر هؤلاء إلى القول إن المولى عز وجل يقول: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا»؛ فكيف يحق لك إذن أن تتحدث عن طبيعة الروح وحقيقتها. ولكن هؤلاء لا يدركون الفرق بين مفهوم «الروح» بمعنى «النفس» (وهو المفهوم الذي نتداول به هذه الكلمة في دنيا الحياة)، وبين مفهوم «الروح» بالمعنى الديني، وهو المفهوم الذي يتعلق بأصل الروح ومصيرها بعد موت الجسد، وهذا أمر يتعلق بالإيمان والمعتقد الديني، وليس بالعلم الدنيوي.

والذاكرة مرتبطة بالإبداع، خاصة الإبداع الفني والشعري؛ ولهذا أيضا فإن فقدان الذاكرة يعني توقف القدرة على الإبداع، بل يعني الجنون نفسه. يُروِّج بعض الناس إلى المفهوم الشائع عن الصلة بين العبقرية والجنون (أو «الاختلال العقلي» إن شئنا أن نستخدم مصطلحا علميّا بخلاف كلمة «الجنون»)، بينما أن ما نسميه «الجنون» ليس سوى عطب في المخ، وبوجه أخص في الذاكرة؛ ثم في القدرة على ربط الأشياء بعضها ببعض. فالجنون هو انقطاع خيط الذاكرة، ومن ثم عدم القدرة على فهم علاقات الأشياء بعضها ببعض، وعلى فهم دلالات الأشياء والأحداث وما يرتبط بها من مشاعر قد عايشناها يوما ما: فكم من الذكريات تثير في نفوسنا كثيرا من الألم والندم، حتى إننا نتمنى لو أنها لم تحدث على الإطلاق، وكم من الذكريات تثير في نفوسنا حالة من البهجة لا نظير لها، حتى أننا نتمنى لو كان لها أن تدوم، ولكن هيهات؛ فما مضى قد مضى ولا يمكن استرجاعه إلا بالتذكر أو التمني! وربما لهذا السبب نفسه، فإن الماضي الجميل لا يصبح جميلا فحسب، وإنما يكتسب أيضا شيئا من الهيبة والقداسة؛ ولذلك فإننا نكاد نقدس أشخاصا رحلوا وكان لهم تأثير جميل في نفوسنا؛ ونقدس فن الماضي الجميل الذي شكّل شيئا من وجداننا وقيمنا ومشاعرنا، ولكنه لم يعد قابلا للاسترجاع؛ فلا نملك عندئذ سوى أن نستدعي هذا الماضي من خلال الذاكرة أو نحدث الأجيال التالية عنه، أو نعبّر عنه في رواية أو عمل من أعمال السيرة الذاتية مما يصور جزءا حميما من عالمنا وتاريخنا.

الذاكرة إذن تعني أن هناك شيئا حميما من ماضينا، ثم من وجودنا نفسه، يبقى قابعا في أنفسنا ليشكل هويتنا: فنحن من دون هذا الماضي لا نكون شيئا؛ لأن من لا ماضي له، لا حاضر له؛ ونحن ينبغي أن نتقبل ماضينا بكل أتراحه وأفراحه، بوصفه ما ساهم في تشكيل هويتنا ووجودنا المتجذر في الزمان، وهو الوجود الذي لا معنى له من دون الزمان. ومن هنا يمكننا أن نفهم مغزى كتاب هَيدجر الرئيس بعنوان «الوجود والزمان»، وهو الكتاب الذي يكشف لنا أن الوجود الإنساني لا معنى له من دون الزمان أو الزمانية.

المشكلة الحقيقية أو الواقعية التي أراها في حياة الناس هي أنهم قد تؤرقهم أحداث أليمة وقعت لهم في ماضيهم، ومن ذلك الأحداث المأساوية أو الحزينة أو المخزية، فيظنونها أحداثا جساما لا فكاك منها، حتى أنها تستولي عليهم بالليل والنهار؛ في حين أنهم لو تأملوا حقيقة الأمر، فسوف يجدون أن ما يُضنيهم وما يؤرق مضاجعهم ليس سوى أضغاث أحلام أو مجرد أحداث عابرة لا تستحق أن نتوقف عندها كثيرا؛ لأن الكون والوجود والحياة الإنسانية أوسع كثيرا مما يظنون: فما نظنه كبيرا منها يصبح صغيرا بمرور الزمن، وما كنا نهتم به ويقض مضاجعنا يهون في أعيننا ولا نعتد به، بل نعده من توافه الأمور؛ بل إننا قد تستولي علينا الدهشة ونسخر من حالنا الذي كنا عليه فيما مضى حينما نتذكر تلك الأحداث التي كانت تستولي على مجمل مشاعرنا واهتمامنا! ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يمكن أن يحدث تلقائيّا، وإنما هو مرتبط بمدى النضج في طبيعة الشخصية ومدى تطورها العقلي، وذلك أمر عسير يستغرق وقتا وجهدا كبيرا من الذات يشبه حالة المجاهدة؛ ولذلك فإن الشخصية غير الناضجة هي تلك التي تظل حبيسة أحداث وأفكار عايشتها في الماضي من دون قدرة على التعالي عليها، مهما كانت ضآلتها.