النصّ.. القصّ: بؤس التجنيس
الثلاثاء / 6 / محرم / 1445 هـ - 21:18 - الثلاثاء 25 يوليو 2023 21:18
أنهي ما كنت قد بدأته من إثارة مسألة القصة القصيرة والصدور عن نماذج تبْدي تنوعها وتشكلها وتطورها في الساحة السردية العمانية، على أمل أن تجد هذه الإشارات التي قدمتها في متفرق مقالاتي صدى لدى الباحثين في السرد، أو لدى عامة القراء لمزيد من الاهتمام بهذا الشكل السردي، الذي أكله الاهتمام بالرواية وذيوع صيتها. أنهي هذه المقالات بالتعرض إلى تجربة أعتقد أنها هامة ومتنوعة لقاص وناثر اتخذ خطا اختلف عن سابقيه ومزامنيه، وهو الكاتب العماني حمود سعود الذي جمع قصصا ونصوصا في مجموعات، أذكر منها، «عمامة العسكر» (2013)، «المرأة العائدة من الغابة تغني» (2015) «غراب البنك ورائحة روي» (2017)، «أحلام معلقة على جسر وادي عدي» (2019)، «أشجار الرماد وأعمى مراكش» (2022)، وهي أعمال تتراوح بين الفراغ إلى القصة فراغا تاما وكتابة نصوص مطلقة لا تتحدد بجنس ولا تتأطر بقيْد، هي نصوص أحسن صاحبها التعبير عنها في مجموعته «أشجار الرماد وأعمى مراكش» وفي مجموعته التي سبقتها، «غراب البنك ورائحة روي»، والتي أفصح فيها عن هروبه من تجنيس ما يكتب، وبانت فيها بشكل لافت، مبادئ الكتابة، وأصول الرؤية التي ينتهجها، يقول في تصدير المجموعة، نأيا عن التنميط وعن التجنيس، ومفارقة لاقتفاء رؤية نقد متكلس، وبيانا لأثر المكان من جهة، ولأثر الرغبة في التحرر من القيد الشكلي: «علينا أن نملأ هذا البياض بالأصوات والحكايات والروائح والفواصل والهوامش لكي تكتمل غابة السرد. أيها السارد، لا عليك من كل النظريات النقدية التي يلوكها النقاد العرب كبعير جائع، والتي أصبح عددها أكثر من عدد حبات رمال الربع الخالي، لنذهب معا إلى روي، لننبش المكان والظلال والأصوات والشوارع وروائح العابرين والأشجار التي تطل من الشرفات، لنترك المتعصبين للأجناس الأدبية في غرفهم التنظيرية وأبراج النظريات»، تلك رؤية غلبت على كل نصوصه التي يكتب، مبادئ هو وفيٌ لها، الأرض التي بها يتمسك، حضور الذات المتكلمة، عين رائية وحاملة لرؤية ولموقف، الصدور من واقع عيني للتجنيح في آفاق لا حد لها من التمثيل والتخييل. ويمكن أن نوجِد خيطا واصلا لمجموع هذه الأعمال القصصية الخالصة، أو القصصية الممزوجة بنصوص تداخلها أو ما يعتري الكاتب من فيضِ خاطر، في مسائل جامعة، أهمها حضور السيرة في معناها العام، سيرة الكاتب، سيرة المكان، سيرة من عاصرهم من ذوي الأثر فيه، سيرة الأحداث الكبرى أو الصغرى التي كان لها بالغ الأثر في فكر الكاتب وقدرته التخييلية. النص في ما يكتبه حمود سعود يأخذك إلى قطبين جالبين جاذبين، قطب الواقع، وقطب التجنيح في التخييل، الواقع النفسي الذي ينشد إليه خطاب السرد، والذي يتجلى في عدد من الأسماء المرجعية، الواقع الذي يظهر في عون سردي ثابت تمثل في سيرة المكان، وخاصة مسقط التي تسكنه بأجزائها، بأحلامها، بتاريخها، بواقعها، بعناصرها، بتفاصيلها، مسقط العامرات، مسقط روي، مسقط مطرح، علاماتٌ كبرى هي فواتح وقواعد نصوص كثيرة، العين التي ترى بها شخصياته مسقط بين حلم وواقع، بين أمل وألم، بين منشود وموجود، مسقط في عيون شخصياته، هي كل المعاني الجميلة، وهي في الآن ذاته الأم المكلومة، هي في منظور «حارس حكاية مسقط» (مجموعة أحلام معلقة على جسر وادي عدي) الذي يروي ويروى، الذي يحرس الحكاية، ويحرس البوابة، الذي يحتاج إلى قارئ فطِن، ليتمثل أبعاده، ويدرك أن المكان/ مسقط حمال معان، فحتى الموتى «لا يحلمون سوى أن يطلوا على مسقط ويشاهدوا البحر» فيها. لا يتركك حمود سعود تهنأ بالقصة في جنوحها وجموحها، هو يشدك إلى أصْلها، إلى مكان ساكن فيه، لا يبرحه، إلى مرجعيات جلية تشد المخيل إلى واقع مخصوص، إحالات عدد لا تظهِر واقعا سافرا كاشفا عن أنيابه، وإنما هو تمثل القاص للواقع، هي رؤية الرائي، الذي يحول عصفورا إلى رمز، وشجرة إلى حكاية، وبلاد إلى نفس وجوْهر، وحارس إلى حالم عالم حامل لرموز وممكناتِ تأول على القارئ أن يجبها. وبسبب من وعي الكاتب بأنه يكاد لا ينقطع عن واقع منغرس فيه، يحمل همومه وحكاياته، يلتصق به، وبقضاياه اليومية، ويوثق أسماءه المرجعية، مِنْ صحْبِه ومن اتصل بهم بسبب فقد كان في مجموعاته القصصية بالذات، يضع من ما ينفي أي صلة للشخصيات أو الأحداث بواقع خارج عن الخطاب، ففي مجموعته «عمامة العسكر»، وضع لائحة تبرئة ذمة من تهمة التعبير عن الواقع «أحداث وشخوص هذه القصص من نسيج خيال المؤلف، فإن حدث وتشابهت مع أحداث أو شخوص في الواقع فإن ذلك من قبيل المصادفة لا أكثر»، وهو نفس التصدير الذي صدر به مجموعته «غراب البنك ورائحة روي». لا يقتصر النص الذي يكتبه حمود سعود على كتابة القصة، بل هو يكتب كتابة القصة، ينظر في فِعْل ينجزه، في كيفية التفاعل مع الكتابة وعن تقلباتها وشكوكها وريبها ويقينها المعدوم، في المحو والتثبيت، في الميتا قصة. حيث يتداخل الميتا نص مع النص، والإحالي مع الخيالي، والذات مع الآخر، وتتراكم القصص فلا تجد لها من نهاية «الرابعة فجرا: أغلق الرجل الذي كان يحلم أن يكتب عن ليل المدينة شاشة حاسوبه، رأى مرة أخرى العنوان معلقا فوق أحد جسور المدينة «لماذا يضحكون؟» وتحت العنوان رأى جنازة امرأة وسفنا وقراصنة وموتى ومجانين وحارس مقبرة وجنرالات. أغلق باب الصالة كما أخبرته زوجته، فتح باب غرفة النوم، وجد المرأة الميتة وبالقرب منها أطفالها الأربعة» (قراصنة وادي عدي). نصوصٌ عديدة يكتبها حمود سعود شافة عما يمكن أن ننعته بالسيرة القصصية، يتحدث فيها عن الكتابة، عن المكان، عن التجارب، عن التفاعل مع الواقع الفعلي والمتخيل، عن رؤيته للكتابة ولهم الواقع، عن رؤيته للكون أشجارا وكائنات، عن أشياء قد تبدو بسيطة في حياة الإنسان غير أنها في منظور الفنان عناصر ملهمة. يكتب حمود سعود القصة، في شكلها العادي فيبهرك بتفاعله مع كونه، يطيل فيها فيأسرك، وتبحث معه عن نهايات لن تكون إلا قاتلة مميتة، فحامل هم المكان لا ينتهي إلا بموت أو هزيمة: «في الليل سمع أهل مطرح سمكة تغني لقط ميت» (طائر الحكاية يأكل سمكة مطرح)، «في الخامسة فجرا، وجدت سيارة الشرطة رجلا ممددا أسفل الجسر بملابس المستشفى، قالوا: ربما هرب من مستشفى النهضة. أسفل الجسر لم يكن هناك نهر يجري ولا أسماك تنتظر شروق الشمس، كان جسد الرجل الذي حرس بوابة مسقط في شبابه ممددا أمام الغرفة المنسية، أسفل السدرة التي هربت منها العصافير» (حارس بوابة مسقط). ويكتب القصة الومضة، أو القصة القصيرة جدا، وهي شكلٌ افتقدته كثيرا في الكتابة القصصية منذ رائعة عبد العزيز الفارسي «مسامير»، كتابة حمود سعود للقصة الوجيزة تحتاج منه التفاتة فهي حاضرة حتى في نصوصه التي تفارق التجنيس، وهي حاضرةٌ في نصوصه القصصية، وكأنه أهملها فوضعها في ملحق مجموعته القصصية، ومنها: (شجرة- الحذاء- أشجار التلميذ- مربع أسود- فضول امرأة). يكتب حمود سعود القصة القصيرة، والقصة الومضة، والنص المطلق الذي يمكن أن يحوي من القصص أجناسا، وهو سائر في مساره، يعبر عن عالمه الذي يتمثله، يروي الطريق، والشجرة والمدرسة والمكان، والصحْب، يحكي، ولعل في الحكاية بناء إنسان قويم.