ثقافة

مرفأ قراءة... من معارك الأدب.. من "المقامة" إلى "القصة"

 
- 1 -

ربما كان أول استدعاء ظاهر لنصوص المقامات في أدبنا الحديث على يد الشيخ الإمام محمد عبده (1849-1905)، وقد قام بنشر «مقامات بديع الزمان الهمذاني» وشرحها وعلق عليها، وقدم لها بمقدمة تعرف بها وبقيمتها في النثر العربي. وأتصور أن بعث «مقامات الهمذاني»، وإعادة نشرها مجددا كانت سببا مباشرا وأصيلا في استيحاء (أو استلهام) شكل المقامة العربية في إبداع محتوى أدبي معاصر، يحمل نظرات اجتماعية ونقدية وإن كانت كلها مصبوبة في قالب 'المقامة'.

إذن فقد عرفت الحركة الأدبية الحديثة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى الربع الأول من القرن العشرين، مسارين متوازيين فيما يتصل بهذا النوع الأدبي التراثي 'المقامة'؛ المسار الأول إعادة بعث وإحياء نصوص المقامات الشهيرة في التراث العربي (مقامات بديع الزمان الهمذاني، ومقامات الحريري، وشرحها للشريشي)

أما المسار الثاني؛ فهو ما أطلق عليه المرحوم شكري عياد 'تطوير المقامة' باعتبارها حلقة وسيطة بين الانتقال من الشكل التراثي الأصيل 'المقامة العربية' كما أبدعها كل من 'بديع الزمان الهمذاني' و'الحريري' ومن اقتفى أثرهما، وبين فن القصة الحديثة كما عرفها الغرب وأبدعها وفق شروطه التاريخية وحاجاته الاجتماعية وضروراته الفنية، وفي هذا المسار سيعرف أدبنا الحديث نصوصا مثل كتاب «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي، و«حديث موسى بن عصام» لإبراهيم المويلحي، و«ليالي سطيح» لحافظ إبراهيم، وإن كتاب «حديث عيسى بن هشام» هو الذي برز في دائرة الضوء وشغل بؤرة اهتمام النقاد والمؤرخين معا.

- 2 -

وقد توقف عدد كبير من النقاد ومؤرخي الأدب العربي المعاصر عموما، ومؤرخي الأنواع الأدبية الحديثة خصوصًا أمام تطور هذا الشكل، واسترعى انتباههم أن هذا الشكل كان من الممكن أن يكون نقطة انطلاق حقيقية لتطوير نوع أدبي عربي أصيل. ويعود الدكتور شكري عياد بجذور 'المقامة' في التراث العربي إلى القرن الرابع الهجري؛ فبعد ظهور الجاحظ 'أبو النثر العربي' بنحو قرن من الزمان تكون الكتابة الفنية قد استقلت عن التأليف الأدبي، ويظهر لون من هذه الكتابة يقول عنه 'يمكننا بغير حرج أن نسميه قصة قصيرة. هذا اللون هو المقامة التي أصلها بديع الزمان الهمذاني، ثم جاء الحريري بعده بنحو قرن آخر، فنسج على منواله وإن لم يبدع إبداعه. وقد بقي الكتابان متداولين تداولا واسعا حتى العصر الحديث، وطبعت مقامات الحريري طبعات كثيرة، وشرح الشيخ محمد عبده مقامات الهمذاني. وكان للكتابين أثر مباشر في القصة العربية الحديثة، وبخاصة بواكيرها الأولى'.

فيم كانت المعركة إذن، وما أثمرت عنه؟

كان هناك فريق من الكتاب والأدب يرى أن كثيرًا من المقامات الهمذانية والحريرية، لا يحتوي على أكثر من زخرفة لفظية، وحشد لألفاظ منتقاة، تشتمل على نسبة كبيرة من الغريب (غريب اللغة من الألفاظ والمفردات)، في جمل مرصوفة مسجوعة. ولهذا سنجد كاتبًا معروفًا من المنتمين للتيار الجديد في الكتابة القصصية 'الحديثة'، حين يقارن بين المقامة والقصة، فينتصر للقصة على حساب المقامة؛ يقول:

'وليس للمقامات أي قيمة قصصية، وإن كانت كتاباتها وضعت في القالب القصصي، لأنها خلت من أهم مميزات القصة وهو الحادثة' (سجل القاص والكاتب والأديب محمود تيمور هذا الرأي في مقدمة مجموعته القصصية «الشيخ سيد العبيط وأقاصيص أخرى»، سنة 1926)

- 3 -

وبالرغم من رسوخ هذا التصور السلبي عن 'المقامات' التراثية، لدى أبناء ما كان يعرف بالمدرسة الحديثة في كتابة القصة (وهي تستحق مقالا مفردا لأهمية الأدوار التي لعبوها في ترسيخ فن القصة في أدبنا العربي المعاصر) ومنهم محمود تيمور، فإن فريقا آخر من أدباء النهضة وكتابها قد ارتأى الوصل بين 'المقامات'؛ ذلك الفن التراثي العربي الأصيل، وبين 'فن القصة' كما عرفناه واستوردناه من الغرب؛ يقول شوقي ضيف في تحديده لملامح ذاك الصراع:

'ولم تكن المحاولات التي حاولناها في هذه الدورة من حياتنا قبل ثورتنا وقبل نهاية الحرب الأولى تقتصر على المقالة والخطابة، فقد أخذ كُتابنا يحاولون محاولة أخرى في لون جديد لم نكن نعرفه، وكان قد تُرجم إلينا منه آثار غربية كثيرة، وهو لون القصة، وقد صنعنا فيه حينئذ بعض محاولات لعل أهمها «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي و«زينب» لمحمد حسين هيكل'.

وبين النصين ما يقرب خمس عشرة سنة تقريبا، فقد بدئ نشر كتاب «حديث عيسى بن هشام» في سنة 1899، ونشر هيكل روايته عام 1913. وبين التاريخين وبين الكتابين دار الصراع واحتدم السجال وتبلورت معركة أخرى في أدبنا الحديث يمكن أن نصفها بأنها معركة الانتقال من المقامة إلى 'القصة' (والقصة هنا كمصطلح فني يستخدم في ذلك الوقت للدلالة على فن القصة القصيرة وفن الرواية معا، ولهذا حديث آخر وتفصيل آخر).

- 4 -

أما المحاولة الأولى، فتصور كيف كان بعض كُتابنا لا يزالون يستوحون النماذج القديمة. ومن أهم هذه النماذج 'المقامة'، ويعرفها شوقي ضيف بأنها 'قصة قصيرة لأديب متسول، يرويها راوٍ عنه في أسلوب مسجَّع، وقلما زادت عن صحيفتين أو ثلاث'. وربما كانت 'العقدة' التي تدور حولها المقامة بحثًا لغويًا أو مسألة أدبية أو حيلة بيانية، مما يدل دلالة واضحة على أن الغرض الأول لهذه المقامات كان تعليم اللغة والأدب، وإمداد المتأدبين والمتعلمين وفرة من الألفاظ والمفردات والمترادفات والصور في طور تكوينهم وإعدادهم كي يكونوا أدباء ومنشئين بالصورة التي عرفناها في تراثنا العربي القديم.

أما الانتقال من هذا الشكل المحدد كما عرفناه في مقامات الهمذاني والحريري ومن جاء بعدهما فقد تحول على يدي المويلحي إلى 'قصة اجتماعية طويلة ليست لأديب متسول؛ وإنما هي لأحمد 'باشا' المنيكلي الذي تُوفي في عصر محمد علي، ثم بُعث أو رُدت إليه الحياة في أواخر القرن، فنفض عنه تراب القبر، وخرج فالتقى بعيسى بن هشام راويته، وأخذ يعيش في حياة مصر الجديدة حينئذ، فوجد كل شيء تغير، وأخذ يقارن بين الحاضر والماضي في نظام الشرطة والقضاء وعادات الناس مصورًا ذلك في صورة نقد اجتماعي واسع، وهو نقد صاغه في أسلوب المقامات المسجوع، وكأنه يكتب مقامة طويلة'.

- 5 -

ويستدل شوقي ضيف من ذلك على أن هذا الشكل المطور من المقامة (إذا جاز ذلك التعبير) 'يدل في وضوح على أنه لا يزال بين كُتابنا من يكتبون على الطريقة التقليدية؛ ولكنهم كانوا يحاولون أن يلائموا بينها وبين حياتنا الحديثة، على نحو ما يصنع المويلحي في هذه القصة؛ إذ يخوض في الشؤون الاجتماعية التي كان يكتب فيها المصلحون من مثل: قاسم أمين، وفتحي زغلول. ومن المؤكد أن أمثال المويلحي الذين كانوا يصطنعون الأسلوب المسجوع كانوا يدخلون في الظلال شيئًا فشيئًا؛ ليحل محلهم ذوق جديد'.

هكذا يرصد شوقي ضيف حدود التماس أولا بين المقامة القديمة والمقامة الجديدة، ثم يرصد مسار الانتقال من المقامة الحديثة إلى القصة الحديثة، وخير ما يصور هذا الذوق حينئذ المحاولة الثانية أو القصة الثانية التي ألفها هيكل وهو في باريس سنة 1910، ثم نشرها في صحيفة 'الجريدة' وهي محاولة جديدة كل الجدة، فليس فيها شيء من أسلوب المقامات، ليس فيها عيسى بن هشام راوي بديع الزمان، وليس فيها سجع ولا بديع؛ وإنما فيها لغة سهلة قريبة من لغتنا اليومية؛ بل لا بأس عند مؤلفها من اقتراض بعض ألفاظ عامية تدعو إليها ضرورات القصة.

وهي قصة مصرية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، تصور حياة ريفنا المصري وطبقاته الغنية والفقيرة وما يقوم بين هذه الطبقات من عوائق اجتماعية. وتتضح في القصة دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة، كما يتضح فيها ريف مصر، لا بفلاحيه فحسب؛ بل أيضًا بمناظره الطبيعية وما فيها من فتنة وجمال.