أفكار وآراء

السوشيال ميديا بين خطابين

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بفضل الثورة المعلوماتية والاتصال، برزت ظواهر عكست اتجاهات جديدة هي في تقديرنا الملامح التي لازمت طبيعة زمن السوشيال ميديا؛ ظواهر ظلت تفرز ديناميات سلطتها وفق الشروط التي يؤطرها صانعو منصات ما سمي زورًا بالإعلام الجديد، أي وسائط السوشيال ميديا، كفيسبوك وتويتر، بحيث أفرز ذلك مع مرور الوقت تحولات جديدة طالت تغييرًا كبيرًا في انطباعات الناس عن الرؤى والتصورات التقليدية لمن كانوا يتصدرون الوسائط الإعلامية عبر منصاتها منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أي أولئك الذين كانوا يتميزون بحد أدنى من التأهيل المعرفي لممارسة التأثير على الناس عبر الإطلال عليهم من خلال وسائل الإعلام التقليدية كالقنوات التلفزيونية والصحف والإذاعة، وإن كان هؤلاء متنوعين في طبيعة إنتاج المحتوى الذي يشتغلون عليه، لكن في كل الأحوال كان هناك حد أدنى يمكن من خلاله تعريف منتج ذلك المحتوى أو إعادة تعريفه سواءً أكان كاتبًا أم مذيعًا أم صحفيًا. اليوم ومع اتساع الفضاء الواسع للسوشيال ميديا وسرعته الكبيرة، وتحديثاته المتجددة، على مدار الدقائق والثواني؛ فرض ذلك الفضاء على قاعدته العريضة (التي تقدر اليوم بأربعة مليارات من البشر) نماذج مختلفة عن تلك النماذج الإعلامية التقليدية. ومع سهولة الاتصال وتخفيف القيود أصبحت المهارات المحدودة لأولئك الذين طرأوا على ساحة السوشيال ميديا مهاراتٍ لا تتصل بمضمون ومحتوى بقدر ما تتصل بطرائق تأثير لافتة للنظر وقائمة على شروط ليس لها علاقة بشروط التأهيل الإعلامي كالتي في وسائط الإعلام التقليدي، فأصبحنا نشهد طبقة تسمى بالمؤثرين، والمصطلح بحد ذاته يعكس طبيعة المعنى المتصل به، أي في كون المؤثر شخصية تصنع مجرد التأثير بغض النظر عن نوعية ذلك التأثير الذي يحدثه في نفوس الناس.

لقد كان لاتساع السوشيال ميديا عبر ثورة المعلوماتية والاتصال أكبر الأثر في دخول الملايين من الناس في فضاء يجعل من تأثيرهم وتأثرهم قابلًا للتداول والانتشار بأقل تكلفة، ثم أصبح هناك اختلال في القاعدة التي ظلت تحكم العلاقات بين البشر منذ بدء الخليقة، أي قاعدة النخبة والجماهير، أو الخاصة والعامة، وما بينهما من علاقات تأثير.

ففي زمن السوشيال ميديا القواعد هي اتجاه المزاج العام لسلطة الجماهير الذين عادةً ما تحكم ميولهم الانطباعات السريعة، والأحكام الجاهزة والأصداء المتناسخة لردود الفعل حيال ما ينتجه محتوى المؤثرين الذي يخاطب تلك الانطباعات وحتى الغرائز القريبة ولو كان محتوىً تافهًا.

فالمؤثر وفق هذه الشروط الجديدة للشهرة خاضع للمزاج العام ومتماهٍ معه أكثر من كونه صانعًا للرأي. ولأن السرعة كبيرة جدًا في توالي تحديثات تلك الوسائط المتعددة للسوشيال ميديا، فإن ظهور المؤثرين يظل ضمن القاعدة التي تحكم تلك الوسائط؛ أي التبدل السريع، والتحديث المتلاحق، والأصداء المتشابهة في ردود الفعل، حيث تتجدد كل تلك الوقائع بوتائر متسارعة لتعميم الكثير من الاهتمامات الساذجة وتشتغل على تعويم محتوى من شأنه فقط أن ينشر تلك العادات المملة للبشر بوصفها وقائع تستحق الاهتمام، لكن لا من حيث طبيعتها العادية المملة، بل من حيث طبيعة الشخص الذي ينتج ذلك المحتوى وفق خصائص وعناصر تتصل بهويته الذاتية كجمال الصورة وأناقة المظهر، أو الإخراج المستفز للكثير من تلك العادات بطرائق صادمة في كثير من الأحيان!

هكذا يزحم المؤثرون آفاق السوشيال ميديا ليزيحوا منها الذين يمتلكون مؤهلات التأثير، ورغم حضور الآخرين في السوشيال ميديا فإن التيار العام لرواد السوشيال ميديا لا يكاد يلتفت إليهم، وهنا سيكون الدور الحاسم للغة الأرقام (أرقام المتابعين، ولايكات المعجبين وتدوينات المعلقين على الحساب) في استحقاق الأهمية والمتابعة المفضية إلى اعتبار الشخص مؤثرًا من عدمه بغض النظر عن مؤهلاته وموهبته وإبداعه.

من خلال هذا السرد يتبين لنا وجود خطابين داخل وسائط السوشيال ميديا؛ خطاب المؤثرين الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس، وخطاب المؤهلين الذي لا يجد حظه من الشهرة الذائعة الصيت، وإن وجد حظه من الانتشار المحدود، لكن التقييم الذي يمنحه المعجبون للمؤثرين يظل تقييمًا تحكمه طبيعة تلك الوسائط من ناحية، ومزاج الجماهير من ناحية ثانية.

وغني عن القول أنه ليس هناك علاقة شرطية بالضرورة، بين كون محتويات المؤثرين منتجة للمعنى ومساوية للقيمة التي تنتجها محتويات المؤهلين من حيث قدراتهم المعرفية وخبراتهم العلمية، لكن ليس بالضرورة أن يكون إبداع المؤهلين منتشرًا كإنتاج المؤثرين في تلك الوسائط، لأن واقعها الافتراضي ليس هو بالضرورة واقع الناس الحي!