أَنْسَنَةُ الإعلام وحربُ التسطيح
الاحد / 27 / ذو الحجة / 1444 هـ - 22:34 - الاحد 16 يوليو 2023 22:34
تياراتٌ فكريّةٌ مختلفة ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، بكل ما للحروب بأوزارها وويلاتها من آثار نفسية على الشعوب، فضلا عن آثارها الاقتصادية والاجتماعية العامة، ومع هذه التيارات ظهرت كثير من المصطلحات الفلسفية في بدايتها كمصطلح «الإنسانوية» الذي تدرج عبر عقود من الزمن (وكان أقرب للعقلانية منه للعاطفية) ليصير إلى «الأنسنة» المصطلح الذي يعني بالإنسان بعيدا عن قسوة الثورة الصناعية وتراكمات الأوضاع الاقتصادية والنزاعات السياسية في العالم.
ما ظهر هذا المصطلح إلا استجابة للأصوات المكتومة لقصص إنسانية متراكمة ترزح تحت نيران حروب أخرى قد تكون أقسى من سابقتها في النتيجة والأثر، وأخطر في تخفيها وتلبسها المصلحة الإنسانية، تلك هي الحروب غير المعلنة لكبرى الشركات الاقتصادية، ومختلف الأحزاب السياسية، ليصبح الإنسان بما يحمل من مشاعر وعواطف وأفكار وأحلام مجرد آلة يحركها هذا الحزب، أو تُجَيّرها هذه الشركة أو تلك لمنفعة آنية لها. ولمّا كان الأصل في كل ما تنتجه النظريات الفلسفية أو الاقتصادية أو السياسية أن تكون خادمة للإنسان مُمَكِنَة له في أداء دوره العظيم إعمارا للأرض كان من الطبيعي أن يكون الإنسان هو مركز كل تلك النظريات، ولن يكون مستغربا حينها أن تكون كلها منطلقات عن الإنسان خادمة له، إنما المستغرب في تهميش الإنسان وجعله خادما للآلة في سياق كان ينبغي أن تكون كل الآلات خادمة له مسخّرة لخدمته.
وعبر عقود من التعاطي مع المصطلحات والتنافس المحتدم بين الآلة ومعطياتها الاقتصادية والسياسية من جهة والإنسان ومكنوناته من جهة أخرى ارتبط مصطلح «أنسنة» بالكثير من القطاعات سعيا للتخفيف من وطأة الفكر الاستهلاكي المادي على القوى البشرية الإنسانية، لا سيما في جانبها العاطفي والفكري، لنأتي على «أنسنة الفنون»، «أنسنة الأدب»، «أنسنة المدن»، «أنسنة الشوارع»، «أنسنة القانون»، وحتى «أنسنة العقاب» مرورا بكل أشكال الأنسنة للصناعات والسياسات وحتى العلامات التجارية وصولا إلى «أنسنة الإعلام» الذي يعكس بالضرورة الدور الحيوي للإعلام في استيعاب الإنسان وفهمه بكل معطياته الشعورية العاطفية، وحاجاته الأساسية، وطموحاته وأفكاره ثم في قدرته على نقل هذا الفهم العميق عبر ما يقدم من وسائل و وسائط وأساليب وبرامج تعكس هذا الفهم الواعي وهذا التدبر العميق.
تجاوز الإعلام عالميًا وظيفته الأولية في مجرد نقل الخبر وتوثيق الحدث إلى مهارات أكبر في البحث والتقصي، ثم التحليل والربط وصولا إلى الإسهام الفعلي في اقتراح التصورات التكاملية، بل وحتى المشاركة الفاعلة في وضع السياسات العامة والخطط المستقبلية للنهوض بتنمية الشعوب وتطوير واقعها، ولن يحدث ذلك إن لم يكن الإعلام بكل أشكاله التقليدية وغير التقليدية، وبوسائطه المختلفة قريبا من الإنسان في واقعه اليومي، وتحدياته المختلفة ليبني جسر ثقة يُمَكِّنه من دخول قصص إنسانية تُعلي من شأن الإعلام ولا تنتقص من مهنيّته العالية، بل تزيدها حرفة ومهارة، لا بد للإعلام في إنسانيته من معايشة قلق الإنسان اليومي ومشاركته أفكاره حول واقعه ورؤاه في مستقبله مما يجعل منه مرفأ للتنفيس، ومنصة آمنة للمشاركة في صنع القرار وما ينتج عنها من المشاركة في المسؤولية.
أنسنة الإعلام في ألا يمر خبر مهما كان عاديا كـ «القبض على حدث بتهمة سرقة كابلات كهربائية» مرور المألوف والمعتاد، حين يغوص الإعلامي في تفاصيل الخبر تحليليا، وفي تقصي الأسباب وصولا لقصة واقعية استثنائية لا تشبه اليومي المعتاد مُسهما بها في توصيف المشكلة ثم وضع الحلول لها انطلاقا من فهم المسوغات بعيدا عن مجرد الإدانة، لأن الإدانة مهمة جهة أخرى قامت بواجبها وعلى الإعلام أن يقوم بواجبه في «أنسنة الحدث»، كما لا ينبغي أن يمر خبرٌ كـ «كفالة رجل أعمال لمجموعة من الغارمين» مرور المألوف المعتاد حين تصل إليه مهارة إعلامي يجعل منها قصة رائعة تعزيزا لمبدأ التكافل الاجتماعي والتعاضد الإنساني والمسؤولية المجتمعية، واقعنا اليومي مليء بالتناقضات، ومن رحمة الله أننا نتقاطع مع قصص إنسانية رائعة لصانعي محتوى مبدعين يمكنها أن تكون مادة إعلامية مؤنسنة إيجابية، هدفها إيصال رسالة مجتمعية بأقل الجهد، بل يمكن للإعلام صنع و تسويق وإيصال رسالة إيجابية حتى من القصص التي قد تبدو في ظاهرها سلبية مأساوية.
كل هذه القصص بجانبيها المشرق والمظلم ينبغي أن تكون فتيلا لضوء إنساني يحمل مشعله الإعلام بكل اقتدار موظفا إمكانات تقنية حديثة لا حصر لها، خصوصا في الإعلام غير التقليدي الذي التبست معه المفاهيم حتى الوصول إلى تشييء وتسليع الإنسان فيما قد يحمله البعض من الاعتقاد بأن الأنسنة تعني الترفيه المجرد بعيدا عن أي وعي، والتسطيح الممنهج بعيدا عن أي فهم، وهنا تنشأ خطورة التباس المفاهيم ودور الإعلام كذلك في التمييز وكشف التعمية وكل الالتباسات الضبابية للواقع والمصطلح، ينبغي الغوص في التنقيب عن الممكن من الوسائل ( وهي كثيرة ) وصولا للقصة الحقيقية بعيدا عن تجميل البث اليومي و «فلاتر» المشهورين، إذ قد يكون حتى أولئك المشهورون ضحايا غير واعية لآلة المال والسياسة، وهو يقين يشفّ عنه ما يصلنا من أخبار مأساوية قد تصل في تطرفها إلى الجريمة أو الانتحار، واقعيا كان أو اجتماعيا (في اختيار العزلة)، قصص تغيب تفاصيلها عن إنسان مستهلك مستنزف لا يصله من كل ذلك إلا الاستعراض الاستهلاكي المادي الهادف لشغل الإنسان عن قضايا أهم، وإغراء الوصول السريع وإن كان على حساب قيم إنسانية عليا، حقها التقدير دون المادة بكل أشكالها.
ختاما؛ حريّةٌ هي الأنسنة بالإعلام وحريٌّ هو بها في وظيفته التواصلية التكاملية بعيدا عن التسليع واستنزاف الطاقات والموارد البشرية في حروب مادية يومية طاحنة لا يعلو فيها صوتٌ عاقلٌ أو يسمو بها فكرٌ طامحٌ، أو يهنأ بها شعبٌ كريم.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
ما ظهر هذا المصطلح إلا استجابة للأصوات المكتومة لقصص إنسانية متراكمة ترزح تحت نيران حروب أخرى قد تكون أقسى من سابقتها في النتيجة والأثر، وأخطر في تخفيها وتلبسها المصلحة الإنسانية، تلك هي الحروب غير المعلنة لكبرى الشركات الاقتصادية، ومختلف الأحزاب السياسية، ليصبح الإنسان بما يحمل من مشاعر وعواطف وأفكار وأحلام مجرد آلة يحركها هذا الحزب، أو تُجَيّرها هذه الشركة أو تلك لمنفعة آنية لها. ولمّا كان الأصل في كل ما تنتجه النظريات الفلسفية أو الاقتصادية أو السياسية أن تكون خادمة للإنسان مُمَكِنَة له في أداء دوره العظيم إعمارا للأرض كان من الطبيعي أن يكون الإنسان هو مركز كل تلك النظريات، ولن يكون مستغربا حينها أن تكون كلها منطلقات عن الإنسان خادمة له، إنما المستغرب في تهميش الإنسان وجعله خادما للآلة في سياق كان ينبغي أن تكون كل الآلات خادمة له مسخّرة لخدمته.
وعبر عقود من التعاطي مع المصطلحات والتنافس المحتدم بين الآلة ومعطياتها الاقتصادية والسياسية من جهة والإنسان ومكنوناته من جهة أخرى ارتبط مصطلح «أنسنة» بالكثير من القطاعات سعيا للتخفيف من وطأة الفكر الاستهلاكي المادي على القوى البشرية الإنسانية، لا سيما في جانبها العاطفي والفكري، لنأتي على «أنسنة الفنون»، «أنسنة الأدب»، «أنسنة المدن»، «أنسنة الشوارع»، «أنسنة القانون»، وحتى «أنسنة العقاب» مرورا بكل أشكال الأنسنة للصناعات والسياسات وحتى العلامات التجارية وصولا إلى «أنسنة الإعلام» الذي يعكس بالضرورة الدور الحيوي للإعلام في استيعاب الإنسان وفهمه بكل معطياته الشعورية العاطفية، وحاجاته الأساسية، وطموحاته وأفكاره ثم في قدرته على نقل هذا الفهم العميق عبر ما يقدم من وسائل و وسائط وأساليب وبرامج تعكس هذا الفهم الواعي وهذا التدبر العميق.
تجاوز الإعلام عالميًا وظيفته الأولية في مجرد نقل الخبر وتوثيق الحدث إلى مهارات أكبر في البحث والتقصي، ثم التحليل والربط وصولا إلى الإسهام الفعلي في اقتراح التصورات التكاملية، بل وحتى المشاركة الفاعلة في وضع السياسات العامة والخطط المستقبلية للنهوض بتنمية الشعوب وتطوير واقعها، ولن يحدث ذلك إن لم يكن الإعلام بكل أشكاله التقليدية وغير التقليدية، وبوسائطه المختلفة قريبا من الإنسان في واقعه اليومي، وتحدياته المختلفة ليبني جسر ثقة يُمَكِّنه من دخول قصص إنسانية تُعلي من شأن الإعلام ولا تنتقص من مهنيّته العالية، بل تزيدها حرفة ومهارة، لا بد للإعلام في إنسانيته من معايشة قلق الإنسان اليومي ومشاركته أفكاره حول واقعه ورؤاه في مستقبله مما يجعل منه مرفأ للتنفيس، ومنصة آمنة للمشاركة في صنع القرار وما ينتج عنها من المشاركة في المسؤولية.
أنسنة الإعلام في ألا يمر خبر مهما كان عاديا كـ «القبض على حدث بتهمة سرقة كابلات كهربائية» مرور المألوف والمعتاد، حين يغوص الإعلامي في تفاصيل الخبر تحليليا، وفي تقصي الأسباب وصولا لقصة واقعية استثنائية لا تشبه اليومي المعتاد مُسهما بها في توصيف المشكلة ثم وضع الحلول لها انطلاقا من فهم المسوغات بعيدا عن مجرد الإدانة، لأن الإدانة مهمة جهة أخرى قامت بواجبها وعلى الإعلام أن يقوم بواجبه في «أنسنة الحدث»، كما لا ينبغي أن يمر خبرٌ كـ «كفالة رجل أعمال لمجموعة من الغارمين» مرور المألوف المعتاد حين تصل إليه مهارة إعلامي يجعل منها قصة رائعة تعزيزا لمبدأ التكافل الاجتماعي والتعاضد الإنساني والمسؤولية المجتمعية، واقعنا اليومي مليء بالتناقضات، ومن رحمة الله أننا نتقاطع مع قصص إنسانية رائعة لصانعي محتوى مبدعين يمكنها أن تكون مادة إعلامية مؤنسنة إيجابية، هدفها إيصال رسالة مجتمعية بأقل الجهد، بل يمكن للإعلام صنع و تسويق وإيصال رسالة إيجابية حتى من القصص التي قد تبدو في ظاهرها سلبية مأساوية.
كل هذه القصص بجانبيها المشرق والمظلم ينبغي أن تكون فتيلا لضوء إنساني يحمل مشعله الإعلام بكل اقتدار موظفا إمكانات تقنية حديثة لا حصر لها، خصوصا في الإعلام غير التقليدي الذي التبست معه المفاهيم حتى الوصول إلى تشييء وتسليع الإنسان فيما قد يحمله البعض من الاعتقاد بأن الأنسنة تعني الترفيه المجرد بعيدا عن أي وعي، والتسطيح الممنهج بعيدا عن أي فهم، وهنا تنشأ خطورة التباس المفاهيم ودور الإعلام كذلك في التمييز وكشف التعمية وكل الالتباسات الضبابية للواقع والمصطلح، ينبغي الغوص في التنقيب عن الممكن من الوسائل ( وهي كثيرة ) وصولا للقصة الحقيقية بعيدا عن تجميل البث اليومي و «فلاتر» المشهورين، إذ قد يكون حتى أولئك المشهورون ضحايا غير واعية لآلة المال والسياسة، وهو يقين يشفّ عنه ما يصلنا من أخبار مأساوية قد تصل في تطرفها إلى الجريمة أو الانتحار، واقعيا كان أو اجتماعيا (في اختيار العزلة)، قصص تغيب تفاصيلها عن إنسان مستهلك مستنزف لا يصله من كل ذلك إلا الاستعراض الاستهلاكي المادي الهادف لشغل الإنسان عن قضايا أهم، وإغراء الوصول السريع وإن كان على حساب قيم إنسانية عليا، حقها التقدير دون المادة بكل أشكالها.
ختاما؛ حريّةٌ هي الأنسنة بالإعلام وحريٌّ هو بها في وظيفته التواصلية التكاملية بعيدا عن التسليع واستنزاف الطاقات والموارد البشرية في حروب مادية يومية طاحنة لا يعلو فيها صوتٌ عاقلٌ أو يسمو بها فكرٌ طامحٌ، أو يهنأ بها شعبٌ كريم.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية