أفكار وآراء

فوضى الإصلاح

الإصلاح.. لا يعني بالضرورة وجود فساد، بل قد يعني أن القائم لم يعد نافعا، وأنه لا بد من الاستبدال به ما هو أصلح للناس. والإصلاح حركة مستمرة في الحياة، فإذا توقف فسدت، وهو من أصعب الأمور وأخطرها، فالمصلح.. يتعرض لصنوف الرفض والإقصاء، وقد ينفى من أرضه أو يقتل، أو ينكّل بأتباعه. وهذا عائد إلى ألفة الناس للأوضاع، وخوفهم من التحول إلى حال مجهول العواقب. فالإصلاح يسعى لأوضاع جديدة؛ قد يعتبرها البعض تقويضا لهُوية المجتمع. والإصلاح أصعب عندما يكون دينيا، فقد يراه المستهدَفون كفرا وإضلالا. كما أن المجتمع بأوضاعه القديمة يوجد فيه منتفعون منها، وهؤلاء هم المعارضون الأشد للحركة الإصلاحية.

الإصلاح.. حركة عامة، فيكون في الدين ومعتقداته، والسياسة وممارساتها، والاقتصاد ومعاملاته، والمجتمع وتقاليده، والعلم ومناهجه. ولا يظهر الإصلاح إلا بعد انتهاء الحاجة إلى ما هو قائم من أفكار ومعتقدات وعادات وممارسات، ولكنه لا يقاوم بشدة إلا من قِبَل المتنفذين في المجتمع، والمنظومات المحافظة على تقاليدها العتيقة. وبغض النظر عن شراسة المعارضة للإصلاح؛ فإنه سيمضي في سبيل التغيير، وتتمكن الأفكار والمعتقدات والممارسات التي يأتي بها الإصلاح؛ حتى تسود في المجتمع، وينظر إلى ما كان قبلها بأنه فترة جمود. ثم تتحول هذه المعتقدات والممارسات بمرور الزمن إلى جبهة معارضة للإصلاح الجديد الذي يريد أن يمسها. وهكذا.. تمضي الحياة موجاتٍ من الجمود والإصلاح والمعارضة.

والقرآن.. يقدم النبوات بأنها حركات إصلاحية، وأن الأنبياء ما جاءوا إلا لإصلاح إيمان الناس وتقويم أخلاقهم، ولِمَا ينفعهم في حياتهم، ويسعدهم في أخراهم: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأعراف:85]، و(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقا حَسَنا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود:88].

وعندما تنتهي منافع المنظومات القديمة، ويبدأ الناس في التململ منها، تظهر في الساحة الاجتماعية العديد من محاولات الإصلاح، وغالبا؛ ما تكون في مختلف نواحي الحياة، لأن الزمن في الاجتماع البشري يؤثر بوتيرة واحدة، فالأمة القوية.. تجد جميع مرافق حياتها في تفاعل ونشاط، وهمم إرادتها عالية ونفوسهم طموحة. والعكس بالعكس؛ فالأمة الضعيفة.. يظهر الخلل في مؤسساتها، وتخمل عقول شعبها، ويكسد إنتاجها، ويدبر أمرها. ولكن؛ الحياة لا تتلاشى، فهي دائبة الولادة، فالأمم بمقدار ما لها من تأريخ حضاري وتمكن مدني؛ ستظهر فيها حركات الإصلاح محاولةً تقديم حلول لرجع عزة الماضي الآفل والمجد المنحسر.

إن أية محاولة لإصلاح الوضع الاجتماعي تجد رفضا من المجتمع، لأن من طبيعة الاجتماع أثناء ضعفه وركوده أن يوجد له سدنة يحافظون عليه، فالكيان الاجتماعي.. لا ينهار فجأة، وإنما يوهي شيئا فشيئا. وعندما تمر عليه هذه الحالة يصطنع لنفسه حصانة للبقاء، حتى يأتي وقت نهوض الأمة، فتكثر فيه محاولات الإصلاح. وهذه المحاولات؛ منها ما ينكسر ولا يطيق الصمود أمام المعارضة، ومنها ما يثبت ويقوى، فتُؤسَّس عليه منظومات يدار بها الشأن الاجتماعي.

إن كان لحظة النهوض تكثر المحاولات الإصلاحية؛ فإنه كذلك يكثر حولها اللغط، وهي لا تدخل في جدل مع المجتمع القديم فحسب، وإنما هي بنفسها تشهد فيما بينها حالةً من التنافس، وكل محاولة تزعم أنها هي المنهج القويم الذي سينتشل الأمة من مستنقع تخلفها، وهذا التنافس لا يقل جدلا عمّا يحصل بين الإصلاح والجمود، بحيث يبلغ التنافس بين محاولات الإصلاح حدَّ الفوضى. ومما يزيد هذه الحالة إرباكا؛ أن المنظومات القديمة لا تكتفي بمقاومة الإصلاح، وإنما هي بنفسها ستقوم بحركة إنعاش لنفسها، لكن ليس سيرا باتجاه المستقبل، وإنما نكوص إلى الماضي، باستغلال معطيات الحاضر وتناقضاته للإبقاء على منظومتها المنتهية، ومهما بذلتْ من جهد فإن الزمن سيتجاوزها، وستكون الغلبة لمَن ينشد المستقبل. نعم.. الزمن قلما يمنح حركة إصلاحية فرصة إثبات وجودها وتحقيق برامجها في مدة وجيزة، فغالبا؛ أن محاولات الإصلاح تستمر عقودا حتى تستوي على سوقها وتؤتي أكلها، وبعد معاناة مريرة.

الإسلام.. الذي بُعِث به النبي الخاتم هو أول حركة إصلاحية دوّن التأريخ كثيرا من أحداثها، وسجّل المراحل التي مرت بها، بدايةً من تعرض النبي للتكذيب في مكة، وتعرض أتباعه للأذى، حتى طفق يبحث لدعوته وأتباعه مأوى يعصمه من اضطهاد المكيين، الذين لم يألوا جهدا في استعمال شتى وسائل المقاومة للدين الجديد، فكانت العرب ترده، وممن ردّه أهل الطائف، وقابلوه بتسليط أبنائهم وعبيدهم عليه، حتى أدموا جسده، ثم اضطر أن يرسل بعض أتباعه إلى الحبشة، ثم هاجر هو وأصحابه إلى يثرب. إن الدعوة الإسلامية لم تكن الوحيدة في هذا الطريق، فقد تزامن معها عدة حركات ترى أنها تقوم بدور إصلاحي. فقد وجد الحنفاء، الذين دعوا إلى ترك الوثنية وتحريم التقرب إلى غير الله، بل كان فيهم مَن يؤمِّل نفسه بالنبوة. فظهر متنبئون، من أشهرهم مسيلمة الحنفي المعروف بـ«الكذاب» (ت:12هـ). قال الله في هؤلاء المتنبئين: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [الأنعام:93]. وكان لبعض أهل الكتاب؛ خاصة اليهود تجربتهم الإصلاحية، كما حصل لدى كعب الأحبار (ت:32هـ)؛ محاولا الاستفادة من التنزيل القرآني. بل إن المنافقين رأوا في أنفسهم بأنهم مصلحون: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة:11]، وكانوا يصمون المسلمين بـ«السفاهة»: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) [البقرة:13].

لقد كانت هناك «فوضى إصلاح»، وما ذلك إلا لأن النظام القديم أصبح غير نافع لأن يحكم الحياة، وكان الوضع يتطلع للتغيير باستثناء الملأ المنتفعين من النظام المدبر. وكل تلك الحركات لم تصمد وبقي الإسلام، والذي بدأ يأخذ موقع القوة والتمكين بعد هجرة النبي وأتباعه إلى المدينة المنورة.

«فوضى الإصلاح».. أيضا عمّت أوروبا خلال عصر التنوير، فقد ظهر مصلحون كثر، فهناك؛ الإصلاح السياسي.. الذي أدى إلى الثورات الكبرى، أشهرها الثورة الفرنسية عام 1789م، التي قدّم لها الفلاسفة بالتنظير وإثارة الوعي. والإصلاح الديني.. الذي شهد في أوروبا عنفا واسعا وقتالا ضاريا، وكانت ثمرته انقسام الكنيسة الكاثوليكية، وظهور المذهبين اللوثري والكالفني؛ وعنهما تبلور المذهب البروتستانتي الذي أصبح عمدة التغيير في شتى المجالات؛ بما في ذلك المناهج العلمية والنظريات الاقتصادية. وقد اندثر كذلك العديد من المحاولات الإصلاحية، بعد أن أدى الإصلاح دوره كجسر عبور إلى العصر الحديث الذي نعيش نتائجه؛ بكل تجلياتها، والتي أصبح الكثير منها ضارا أو غير نافع، يحتاج إلى حركة إصلاحية تتجاوزه.

وبدخول العصر الرقمي.. دخل العالم مرحلة انتقالية كبرى، ربما هي الأعظم في تاريخ الإنسانية، وها هي الأنظمة القديمة تتقوض؛ لاسيما في عالمنا العربي والإسلامي الذي لم يحصل له تطور في هيكلته القديمة كثيرا، ولذا؛ نشهد اليوم «فوضى إصلاح» كتلك التي حصلت من قبل. وعلى المفكرين المسلمين ألا يغرقوا في جدل «التجديد التقليدي»، الذي انتهى به الحال إلى الدعوة برجع الماضي، وإنما عليهم أن يخرجوا من هذه الفوضى نحو صناعة الحياة بالمؤسسات العلمية والعملية، وأن يوجهوا أجيالهم شطر مواكبة الأمم؛ بامتلاك لغة العصر وأدواته، وتحقيق منجزاته، وفهم ألاعيبه وتقدير مآلاته.