أفكار وآراء

حتى اللحظة الحرجة

تنطلق اللحظة الحرجة من مركزية دائرة الـ (360) درجة، وقد يعبّر عنها بنقطة الـ(الصفر) وبالتالي فقد يحتويها مساران في اتجاهين مختلفين، (الموجب/ السالب) وهذا كله يعتمد على مجموعة من الظروف التي يصنع فيها الحدث؛ فإن كانت ظروف مواتية لذات الموضوع، فيقينا أن تكون النتائج إيجابية، وإن كانت الظروف غير مواتية، فيقينا أيضا أن تكون النتائج سلبية، وهذا كله يعود على الرؤية العميقة لصاحب القرار، وصاحب القرار هنا؛ هو ذلك الفرد المتواجد عند اللحظة الحرجة، وليس شرطا في ذلك أن يكون صاحب القرار حينها ممن يشار إليهم بالبنان، فكثيرا ما سمعنا أن صنع قرار اللحظة الحرجة هو فرد عادي، لا يتوقع أن يكون بهذا المستوى من البعد المعرفي، أو التفكير الحيادي، حيث يكتفي البعض بقراءة سريعة لما يحدث؛ فيتخذ القرار الحاسم في حينها، وإن كان ذلك يحدث في ظروف استثنائية خارجة عن القاعدة في بعض الأحيان، كما هو حال المرأة العاملة البسيطة -في إحدى المدن الألمانية- وفق الرواية؛ التي أنقذت مصنعا يحتوي على آلات شديدة التعقيد كانت تتكسر قواعدها باستمرار، وقد حار المهندسون في البحث عن الأسباب لسنوات، فما كان من هذه المرأة التي تعمل في وظيفة متواضعة، إلا أن أشارت على رئيس مجلس الإدارة؛ في أحد اجتماعات الشركة؛ أن يعمل دراسة عن أثر مسار سكة الحديد التي تمر بجانب الشركة، فكانت المفارقة الصادمة؛ أنها السبب الحقيقي لتكسير قواعد الآلات، فكُوفئت المرأة وعُززت وكُرمت، ولأن مجلس الإدارة يقظ للغاية لم يتجاهل حدس هذه المرأة المسنة في الأخذ برؤيتها البصيرة.

يشير العنوان إلى أن الحالة وصلت إلى نقطة الصفر، وبالتالي لا بد من اتخاذ قرار حاسم، وأن المتسع الزمني لا يعطي فرصة أكبر للاستفادة من التريث، وخطورة هذه الصورة أنها قد تحتمل أن يُتخذ فيها قرار سريع لم يأخذ وقته من الدراسة والتأمل ومراعاة مختلف الظروف المحيطة؛ والذاهبة إلى النجاح وليس العكس، وفي هذا شيء من الإرباك، فالحكمة تقتضي أن تكون هناك رؤى استباقية لمجمل التوقعات التي قد تحدث، ولو على سبيل الاحتياط، فالإنسان محكوم بظروف مختلفة، قد يعرف أسباب تكونها، وقد لا يعرف - حيث بيئة المفاجآت - وحتى لا يكون رهين الظروف المفاجأة يتوقع أن تكون خطة بديلة حاضرة بصورة دائمة، حتى لا يقع فيما هو أسوأ، وإن تحقق هذا الأمر الأخير، فقد استطاع الإنسان أن يتجاوز وبنسبة عالية الكثير من المعوقات التي تعترض طريقه، وذلك تجنبا لظروف قد تطرأ غير حاضرة ضمن خانة الاهتمامات؛ حيث لا يمكن الجزم بمسار أفقي آمن لأي شيء في الحياة؛ حيث يتناوب البعدان الأفقي والعمودي على تشكيل الظروف، والأقدار.

قد تُقيَّم اللحظة الحرجة من خلال فُجائيتها فقط، وأنها بغير هذه الفجائية لا ينطبق عليها صفة «الحرجة»حيث تكون ضمن الممارسات اليومية المعتادة عند كل فرد، وعند النظر بدقة في هذه المسألة يمكن القول إن اللحظة الحرجة قد تختمر لظرف ما، ومن ثم تعود إلى السطح لصناعة حدث ما، فالأمر لا يمكن أن يربط كله بالحالات المفاجأة، وإلا لضاعت قصص كثيرة من أيدي الناس، وظل هؤلاء الناس مرتهنين في حيواتهم على عنصر المفاجأة، وهذا لا يمكن أن يكون، صحيح أن عنصر المفاجأة وارد في كل مجالات الحياة اليومية، ويحتاج إلى كثير من اليقظة والإحاطة، لاحتمالية التعرض للمخاطر، ولكن يظل عنصر المفاجأة ضمن الحالات الاستثنائية؛ فقط؛ واللحظات الحرجة ديمومة من الممارسات والقرارات والمواقف المرتبطة بأنشطة الحياة اليومية، وهي ما توجد تحديات غير منكورة سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الجماعة، ولذلك هناك من يضع خططا وبرامج استباقية تعزز من إمكانية صنع قرار صائب في اللحظات الحرجة، بكل أريحية، وهذه من الرؤى المتبصرة في معالجة مجمل القضايا التي تواجه الفرد في حياته اليومية، وهذه أيضا من الحكم الدالة على رجاحة التفكير، وبعد النظر، وعمق الرؤية، والخطط والبرامج الاستباقية التي يضعها الأفراد للمسيرة الآمنة لحياتهم اليومية.

هل يمكن أن يقال إن جل اللحظات الحرجة هو من يصنع الفارق في كل مشاريع الحياة، أما أن للمصادفة دورا ثالثا في هذه القضية؟ فكثير من لحظات صناعة الفارق لا تخلو من الدهشة، والمفاجأة، فـ «اللحظة الحرجة» قائمة على اللحظة الزمنية في صناعة الحدث، والزمن عامل فجائي بامتياز؛ كما هو الحال في فجائية الطقس التي تحدث غالبا؛ لأنه لحظة عابرة، ومتى عبرت هذه اللحظة دون أن تترك أثرا إيجابيا ما، تراكمت في المقابل خسائر الأفراد، والأثر الإيجابي لن يأتي بوحي الصدفة، وعلى الإنسان أن يصنع أثره الإيجابي، حيث لا يمكن تعويض الزمن الهارب من أجنداتنا اليومية، كحال أعمارنا في الحياة، فإن لم نستطع أن نصنع لنا فارقا في النتائج في لحظات أعمارنا الممتدة؛ راكم الزمن من خسائرنا، وعجل في إقصائنا من الوجود، فأعمارنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بما ننجز، وبما نستغل من ظروف قد لا تكون مواتية؛ وخاصة في اللحظات الاستثنائي التي لا تتكرر؛ حيث تبقى على استثنائيتها؛ ربما؛ لنختبر إراداتنا وقدراتنا، واستفزاز بصائرنا، فالبصائر الخاملة أو الخامدة لا تصنع فوارق موضوعية في مختلف أنشطتنا في الحياة.

لا يفترض في اللحظة الحرجة أن تكون المقياس الذي يجب أن يتخذ فيها القرار، لأن في ذلك مخاطرة عدم الواقعية، أو نوعا من الإهمال وعدم الاهتمام، وكأن المسألة خاصة للفعل ورد الفعل، فمتى حدث أمر ما؛ وفق هذه الرؤية؛ عندها فقط تتحرك جميع القوى للسيطرة والمعالجة، وهذا الأمر لا يمكن قبوله في واقع تتسع فيه المعرفة، ويمكن فيه صناعة رؤى واضحة المعالم والتفاصيل؛ وفق خطط وبرامج معتمدة، وهذه الصورة ليست تنظيرا متخيلا، وإنما هي واقع مرتبط بظروف الحياة اليومية، فحياتنا متقلبة وغير مستقرة، وعدم الاستقرار هذا غير مرتبط بزمن دون آخر، وإنما هو ديدن الحياة التي نعرفها منذ البدايات الأولى لفهمنا لها، وأكيد هناك الكثيرون من الناس من يمرون بظروف طارئة في حياتهم اليومية، ويتعاملون معها بحكمة وروية، وذلك اعتمادا على رؤاهم الاستباقية من الإعداد والاستعداد؛ وتضاف إلى ذلك أيضا الخبرة، وتجربة العمر الطويلة، وما يتوفر من أدوات حديثة تساعد في إيجاد الحلول بأقل تكلفة، فالمهم أن لا تطغى تأثيرات الظروف على مسيرة حياتنا اليومية فتعرقل أنشطتنا، وتضعنا في موضع العاجز عن إيجاد الحلول لنكمل مسيرتنا الممتدة.

ما يحيط باللحظة الحرجة ويؤثر في فاعلية دورها النشط؛ أنه لا مكان لزوايا أربع؛ من شأنها أن تعطي أبعادا مختلفة للرؤية، حيث تبقى المسألة محصورة بين بعدين لا ثالث لهما، إما المجازفة وإما الاستسلام، وكلا الأمرين لا ينبغي أن يكونا في دائرة المعرفة، فالمعرفة؛ غالبا؛ ما تعطي خيارات كثيرة، وبأريحية تامة، بحيث لا يكون هناك ضرر متوقع؛ فضلا؛ أن يكون حاضرا في تلك اللحظة، وذلك انعكاس لقرارات ارتجالية قد تتخذ في تلك اللحظة الحرجة من عمر ميلاد حدث ما، أي موضوع هو حديث الساعة فيها، وهذا ما يستلزم فيما يعرف بضرورة وجود «خط رجعة» وهي المساحة الافتراضية التي تتيح لصانع القرار الفرصة لصياغة قرار رشيد، لا يؤثر سلبا على النتائج المتوقعة، بل بالعكس يضيف نتائج تراكمية من شأنها أن تعزز الدور، وتسير بالقافلة إلى بر الأمان، واليوم؛ وفي ظل توسع المعرفة؛ يمكن أن تقل التأثيرات السلبية للحظات الحرجة في مختلف الأنشطة الإنسانية، حيث يستبق التأثيرات المحتملة الرؤى الاستشرافية التي تضع القراءات المتوقعة قبل ميلاد الأحداث.