أفكار وآراء

الأندية الرياضية.. تحولات الشباب والمجتمع

خلال العقود الخمسة الماضية من نهضة الدولة في سلطنة عُمان، لعبت الأندية الرياضية كـ «مؤسسات للنفع العام» دورا مهما في تشكيل صورة المجتمع المعاصر، ليس فقط على مستوى فئة الشباب؛ وإنما المجتمع ككل. ذلك أنها أسهمت أولًا في إيجاد مساحة لصقل مواهب الشباب وهواياتهم، وتنمية قاعدة عامة من الاهتمامات لديهم، وممارسة الدور الثقافي في صقل بعض المعارف العامة والمتخصصة. هذا عوضًا عن كونها مساهمًا إلى جانب مؤسسات التنشئة المجتمعية الأخرى في استكمال وحفظ دور «الاندماج الاجتماعي»، وتشكيل التوجهات الأولية لفئة الشباب في تلك المرحلة. أما على مستوى المجتمع فكانت الأندية منصات لصقل ممارسات «الإدارة والتنظيم والتخطيط» في مستويات مختلفة لفئات وشرائح متعددة من المجتمع. ومنصة للأنشطة الهادفة إلى خدمة المجتمع والثقافة المحلية، عوضًا عن دورها الوطني في شحذ الانتماء والولاء خصوصًا في المناسبات والأحداث الوطنية.

ومما يعكس محورية هذه الأدوار؛ أسبقية الاهتمام السياسي والتشريعي بالمسألة الشبابية وتنظيم الأندية الرياضية على وجه الخصوص؛ فأول قانون يُعنى بتنظيم الأندية والجمعيات في سلطنة عُمان صدر في مطلع 1972، وتوالت عمليات تنظيم القطاع ورسم سياساته وتطويره عبر عدة مقاربات وصولًا إلى الوضع الراهن باقتران قطاعات (الثقافة ــ الرياضة ــ والشباب)، تحت كيان واحد. وخلال السنوات الفائتة، بُذلت العديد من الجهود الاستراتيجية لمحاولة تطوير القطاع، منها وضع استراتيجية للرياضة العُمانية وتحديث لها، ومنها المختبر الذي عقد مؤخرا حول «الاستثمار في القطاع الرياضي». إلا أنه حسب تقديرنا فإن (الأندية الرياضية) تبقى قاطرة التغيير الأساسية في هذا القطاع. لاعتبارات عدة أهمها: كونها أكثر اتصالا بالمجتمعات المحلية، عوضًا عن ملامستها شرائح ثقافية وتعليمية وعمرية متنوعة، وفضلًا عن كونها (كيانات مألوفة) في محيط المعايشة الاجتماعية بالإضافة إلى تاريخية وجودها في الولايات والمحافظات عبر العقود الماضية، فرمزية النادي الرياضي لا تقل أهمية في (ذاكرة المجتمع) وتعاقب أجياله عن أي مؤسسة أخرى قائمة في المجتمع المحلي.

في تقديرنا، فإن اليوم هناك اعتبارات عدة تدفع إلى إيجاد مقاربة جديدة للنظر إلى واقع الأندية الرياضية، ومن هذه الاعتبارات:

- تعدد المؤسسات التي يمكن أن تؤدي الأدوار التقليدية للنادي الرياضي، وخاصة في الشق الثقافي والاجتماعي، ومستوى جاذبية ومؤسسية الأندية لإيجاد أنشطة تنافسية ذات قيمة مضافة في هذا الشق تحديدا، قياسا بالمؤسسات الأخرى.

- التحول في تطلعات/ اهتمامات/ معارف الشباب، وضرورة الانتقال من دور «تنمية الهوايات»، إلى «خلق وتنمية المواهب» التنافسية، وهو ما يستدعي منظومات جديدة للعمل في هذه الأندية، خاصة في الشق الرياضي.

- التحول العالمي في النظر إلى الرياضة، من كونها (مستهلكة للقيمة الاقتصادية) إلى كونها (خالقة للقيمة الاقتصادية)، ولا يمكن إغفال عنصر مهم هنا وهي مساحة الاهتمام المجتمعي العام بالأنشطة الرياضية المختلفة وهو ما يشكل رافعة لتحول هذا القطاع.

- المكنة الحالية التي يتيحها التحول نحو «اللامركزية» في سلطنة عُمان من إدماج «الأندية الرياضية» ضمن الهياكل الاقتصادية للمحافظات، وتحويل «الرياضة» إلى مورد وميزة تنافسية واستثمارية.

هذا عوضًا عن الدور البارز الذي باتت تمثله «الفرق الأهلية» في الولايات، المنبثقة من الأندية الرياضية، لدرجة أن بعض هذه الفرق بات الالتفاف المجتمعي حولها مشهودا وملحوظًا. في اعتقادنا إن المرحلة المقبلة تقتضي التفكير في مقاربتين: الأولى، تتصل بربط الأندية الرياضية بالنموذج التحولي الراهن نحو اللامركزية، من خلال تفعيل دور المحافظات في تكوين/ تهيئة أندية (منافسة)، في المرحلة الأولى يمكن التركيز على بعض الأندية (كنماذج)، وتسهيل الأطر التشريعية والإجرائية لتحويلها إلى كيانات استثمارية، تستثمر فيها عدة أطراف بما في ذلك المحافظة، ويتم حوكمتها وفق أطر محددة، وفي حال نجاح التجربة يمكن الانتقال إلى أندية أخرى لتطبيق ذات المعايير. أما المقاربة الثانية، فهي التفكير في هذه الأندية بصفتها موارد اقتصادية لهذه المحافظات. هناك حديث موسع منذ عقدين على الأقل عن تتبع دور الأندية الرياضية في العالم بتنشيط اقتصاديات المدن (Creating local economic value). وهذه الاقتصاديات قد تأتي من (فرص العمل في المجال الرياضي ، فرص العمل والصناعات المرتبطة بالتجهيزات الرياضية ، الفرص الاقتصادية المرتبطة بالإعلام والتسويق الرياضي ، اقتصاديات الأحداث الرياضية ،جذب الاستثمارات الموازية للبؤر الرياضية ، صناعات البنى التحتية الرياضية ، حقوق البث والتذاكر ، تكنولوجيات الرياضة ،اقتصاد الرياضة المجتمعية). تتكامل المقاربتان في ضرورة خلق ما يُعرف بالنظام الكلي لاقتصاد الرياضة Eco system وسد الفجوات من (البنى ـ التسهيلات ـ الصناعات ـ الثقافة ـ التمويل) الذي يمكن أن يشكل تحديا أمام خلق ثقافة الأندية المنافسة. وهنا ليس بالضرورة أن تكون (كرة القدم) أو كل الرياضات مستهدفة، وإنما يمكن تقصّي الرياضة الأكثر تأهيلا وجاهزية لتنافسية هذه الأندية.

في تقرير تشخيصي لدور الأندية في خلق الاقتصاد المحلي والتأثير على الاقتصاد الكلي في المملكة المتحدة نشرته (IM Irwinmitchell) فإنه في الموسم الرياضي 2019/2020 فإن الدوري الإنجليزي الممتاز أسهم بما مجموعه 7.6 مليار جنيه استرليني في إجمالي الناتج المحلي بالمملكة المتحدة، و 3.6 مليار جنيه استرليني في المساهمات الضريبية، و 94000 وظيفة في 2019/2020. وعلى مستوى الولايات فقد تمتعت هيدرسفيلد بأكبر اقتصاد رياضي نسبيًا في عام 2020، حيث استحوذت على 1.92٪ من إجمالي الناتج المحلي في المدينة بعد صعود نادي هدرسفيلد تاون إلى الدوري الإنجليزي الممتاز.

نعتقد أن الدفع بتنافسية المحافظات في مجال تطوير/ تأهيل/ تكوين تنافسية الأندية الرياضية الواقعة تحت نطاقها الجغرافي يمكن أن يحذو حذو تنافسيتها في خلق مشروعاتها التنموية والسياحية والاقتصادية. فنحن نتحدث عن 3 عوامل قاطرة لهذه المسألة: مجتمع متعدد التطلعات وجاهز للإسهام في خلق أنشطة رياضية تنافسية، وتاريخ واسع وخبرة ممتدة من اختبار التنظيمات والتشريعات في المجال الرياضي، إضافة إلى الموارد الاقتصادية التي يمكن أن تخلقها «صناعة الرياضة» بمفهومها الكلي، والذي لا يقتصر فقط على الفوز بالبطولات، وإنما يمتد لسلسلة ممارسة ومتابعة الأنشطة الرياضية وتنظيمها ومدها بالتجهيزات اللازمة لإنجاحها.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان