أعمدة

لماذا نسافر؟

 
ربما كان حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب عام 1988، فرصته الأولى لاستثناء نفسه من قاعدته حول السفر، إذ لم يغادر محفوظ مصر، على عكس المثقفين الذين انحازوا للسفر دوما، ولمدن وصفوها بأنها جواهر للثقافة والفن مثل باريس. اكتفى محفوظ بوسط البلد، مقاهيه المألوفة في مسقط رأسه. أما (كناوسغارد) ففي سلسلة «كفاحي» يصف كراهيته للسفر عندما يتحول إلى طقوس دينية، أشاركه فكرته هذه بدوري، لقد تحولت الأماكن التي نسافر إليها إلى أعباء وجداول مخططة سلفا ينبغي علينا الالتزام بها، بينما نسافر في المقام الأول للتخلص من رتابة الالتزام بأعمالنا الدورية وواجباتنا تجاه الآخرين وأنفسنا، إنها فرصتنا للتحرر من كل شيء.

نشرت نيويوركر قبل أيام مقالا مفصلا عن علاقة الأدباء بالسفر، مفتتحة إياه بكراهية الشاعر البرتغالي بيسوا للسفر «أنا أمقت الأماكن غير المألوفة، واضطراري للتكيف معها بأساليب حياة جديدة، فكرة السفر تغضبني، الفقر المدقع للخيال هو ما يمكن أن يبرر الاضطرار للسفر حتى نشعر».

بحسب أغنيس كالارد فإن أكثر ما نعرف به أنفسنا في العادة، هو حبنا للسفر، وعادة ما يفخر الناس لأنهم يحبون السفر أو يتطلعون للقيام به. أما فريق المعارضة مثل تشيسترتون الذي يصف بأن (السفر يضيق العقل). بدا لهؤلاء الأدباء والمفكرين الذين كرهوا السفر، بأن المشكلة فيما يتعلق بالسفر أنه يقنعنا بأننا في أفضل حالاتنا، أو ما أطلقوا عليه ضلال المسافر.

يعتمد كالارد في تعريف المسافر على المجلد الكلاسيكي حول أنثربولوجيا السياحة في أن السائح هو ذلك الشخص المستريح الذي يزور طواعية وبشكل مؤقت مكانا بعيدا عن المنزل بغرض اختبار التغيير.

يكتب كالارد عن تجاربه في السفر، يتذكر المرة التي زار فيها أبوظبي، وكان من بين الإجابات على سؤال «ما الذي يفعله المرء في أبوظبي؟» أن يزور مستشفى الصقور هناك. كالارد ليس من محبي الحيوانات عموما، مع ذلك كان لا بد من الاستجابة لضغط الخطة الموضوعة سلفا لأي سائح أجنبي يزور أبوظبي، وهكذا وجد نفسه، يطلب من شخص آخر أن يلتقط له صورة بينما يسقر صقر على ذراعه. يعترف كالارد أنه كان يعرف أنه دخل لمركز الصقور ذلك وهو يعلم أن حياته بعد أبوظبي ستكون مماثلة لما كانت عليه حياته قبل سفره إليها. أن تسافر لشيء لا تطمح بالفعل لرؤيته، لا تقدره في أعماقك، فأنت لا تتحرك فعلا كما يكون عليه السفر فعلا.

ربما علينا التفكير في السفر بطريقة أخرى إذن، لماذا نسافر؟ لطالما قال لي أبي أننا نسافر لتقليد الآخرين فحسب، أو لأن هذا ما يفترض بنا فعله في عالم اليوم، يظن أبي أن مزرعتنا رائعة وكافية لكي تغير المزاج ولتفتح لنا آفاقا جديدة عبر منحدراتها وسواقيها، نلتزم عادة بالصمت أو نضحك لتوصفيه ذاك. أظن بأننا نحب الخروج عن سياق حياتنا اليومية، وأن ننظر لها من الخارج، لكنني بلا شك أدركُ أن توقعاتي حول السفر ليست كما يروج لها الآخرون، استغل أيام السفر للتراخي، أحب الأماكن المفتوحة في المدن حتى وإن لم أعرف ما اسمها، أكتفي بإسطنبول بالجلوس بجانب البوسفور والنظر مليا في السماء والمساجد والكنائس القديمة على المرتفعات في الجانب الآخر من إسطنبول، والنوارس التي تحلق فوقها. وأتذكر مثلا باموق في كتابه «إسطنبول المدينة والذكريات» وهو يكتب عن كيف يغير البوسفور معادلة هذه المدينة بالكامل، يجعلها طيعة ورقيقة وقوية في الوقت نفسه.

تثيرني أصوات السفن والمراكب، وأتذكر وصفها في كتاب باموق نفسه ويكفيني هذا. وعندما زرتُ براغ، فعلتُ ذلك بدافع زيارة متحف كافكا هناك، لم أستطع ولا في أي ليلة قضيتها هناك من حضور ليالي براغ الصاخبة التي لطالما قرأتُ وسمعتُ عنها، ذلك أن الشمس كانت تغربُ عند العاشرة ونصف مساء وأكون قد صرتُ في فراشي نمت أو استعد للنوم. لكنها كانت أياما لا تنسى على الإطلاق، أحبُ أن أتذكر أنني كنتُ لوحدي في أحد الصباحات أنتظر المتحف بأن يفتح أبوابه وأنا أحمل تذكرة حجرتها في الليلة السابقة فحسب، وعندما خرجت استرحتُ في مكتبة اكتشفتها بالصدفة، اسمها «شكسبير» لأعرف بعد عودتي بأنها إحدى أهم المكتبات في التشيك وفي أوربا.

أظن بأنني أستطيع فهم ما قصده أولئك الأدباء عن السفر، وربما يمكن أن تنطلي علينا خدعة التغيير هذه مثل أشياء أخرى في الحياة نقوم بها لأن علينا أن نقوم بها فحسب، لكن وكالعادة يفيدنا التأمل وإبطاء الزمن لننظر مليا في سؤال طبيعي وبديهي وعادي وربما سهل: لماذا نسافر حقا؟