أفكار وآراء

فاغنر وتيتان والفضول والتفوق

مسكون هو الإنسان بالفضول إزاء مجاهيل الكون وكنه الطبيعة، فضول معرفي قد يدفعه للبذل ذهنيا وماديا وصولا لإجابات أسئلته وإشباع رغبته في البحث والتقصي في اكتشاف مكنونات يسكنه الشغف لاكتشافها أو تعلمها، وقد تدفعه الرغبة لتحقيق السبق في اكتشاف كل ذلك إلى المغامرة التي قد تكلفه الكثير بما في ذلك حياته ذاتها، وهكذا نعيش كثيرا من أوجه الفضول اليوم في متابعة الأحداث العالمية رغم كل مخازن المعلومات التي تقدمها لنا أبواب المعرفة الرقمية والانفتاح المعلوماتي.

رغم كل هذا التقدم وذلك الانفتاح إلا أنهما لم يقدما قناعة معرفية عاجلة فيما يتعلق بالانقلاب الروسي الذي شغل العالم خلال الأيام الماضية والذي انتهى بتراجع قوات التمرد بشكل أريد له أن يبدو بطوليا تماما كما تم التسويق لانطلاقة بطولية من قبل خصوم الرئيس الروسي عالميا، ورغم الاحتفاء بهذا الانشقاق الغريب في البيت العسكري الروسي إلا أن رئيس مجموعة فاغنر الروسية المسلحة يفغيني بريغوجين أعلن بصورة مفاجئة مساء السبت أن قواته التي بدأت الزحف إلى موسكو (بيسر وسهولة مستغربين على روسيا تحديدا وعلى أي دولة في وضع حرب تتعرض لتمرد عموما) مساء الجمعة إثر تمردها على القيادة العسكرية تعود أدراجها إلى قواعدها حقنًا للدماء.

والأغرب من ذلك إعلان الكرملين - رغم الخلاف المعلن بين رئيس فاغنر ووزير الدفاع الروسي-إسقاط الدعوى الجنائية المرفوعة ضدّه، بل وأعلنت أنه سيتوجه هو نفسه إلى بيلاروسيا وأنّ مقاتلي فاغنر الذين شاركوا في «التمرّد المسلّح» لن تتمّ مقاضاتهم.

فضولٌ آخرٌ لمّا يُروَ بعد كذلك حول الغواصة «تيتان» الساعية إلى حطام تايتانيك وكمِّ الدراما والتشويق خلال أيام مضت، وكم المتابعة محليا وعالميا لمصير الغواصة حيث انتهى بها الأمر إلى انفجار داخلي كارثي أدى لموت كل طاقمها، الغواصة التي كانت في طريقها لاستكشاف بقايا سفينة تيتانيك في قاع المحيط الأطلسي لم تكن مجرد « قطعة خردة من سوق الجمعة أو السبت» ليس لها أي ضمانات ولا أمان ولا اشتراطات عالية جدا للسلامة، وأفراد الطاقم لم يكونوا مجرد أشخاص تقودهم الرغبة في المغامرة والاكتشاف إلى تجربة فضولية أو رحلة عابرة، والرحلة ذاتها لم تكن مجرد رحلة استكشافية مجانية يدين مخططوها لمرتاديها لتفضلهم بالمشاركة الطوعية في رحلة الاستكشاف البحرية!

فالغواصة «تيتان» التي تحمل الطاقم محمية بغرفة ضغط، وهي عبارة عن حجرة محكمة الغلق تحمل ضغطًا داخليًا أعلى بكثير من الضغط المحيط، ونظام غاز مضغوط للتحكم في الضغط الداخلي، وإمداد بغاز التنفس للركاب.

كان على متن الغواصة، الرئيس التنفيذي لشركة OceanGate Stockton Rush ، 61 عامًا، وهي الشركة المالكة للغواصة تيتان وهو قائد الغواصة والمشرف عليها ، ثم المحارب المخضرم في البحرية الفرنسية بول هنري Nargeolet ، 77 عاما، والملياردير البريطاني هاميش هاردينج، 58 عاما، وأخيرا رجل الأعمال البريطاني من أصل باكستاني Shahzada Dawood، 41، وابنه سليمان، الذي كان عمره 19 عامًا فقط. كل هؤلاء الأثرياء لم تكن رحلتهم مجانية، ولم تكن مبالغ 5 تذاكر طائرة على درجة رجال الأعمال مع ضمانات أكبر للسلامة والأمن وحسب، بل إن رحلتهم كلفت كلا منهم ربع مليون دولار أمريكي إضافة إلى حياته! التساؤلات الفضولية هنا ليست حول حادث قدري قد يحدث على الأرض أو في الفضاء أو في أعماق البحار مع أي إنسان مهما كانت صفته ومهما بلغ ثراؤه، مع بالغ الأسى لفقد حيوات خلال هذا الحادث وحزن أسر مُحِبَّة، لكنها حول التعامل مع هذا الحادث من قبل الدول الكبرى التي تدّعي تفوّقا علميا لا يبارى، ورعاية عظيمة لاشتراطات الأمن والسلامة واتفاقيات كبرى لتحقق هذه الاشتراطات.

الغواصة محل الفضول انطلقت يوم الأحد في رحلة يفترض أن تكون مؤمنة لمدة 96 ساعة حسب معلومات الشركة، لكن انقطع الاتصال مع الغواصة بعد ساعة و45 دقيقة من غوصها إلى موقع الحطام، وأُخطرت السلطات عندما لم تظهر مرة أخرى بالوقت المحدد في وقت لاحق من اليوم نفسه، العديد من عمليات البحث والإنقاذ من فريق دولي بقيادة خفر سواحل الولايات المتحدة، والبحرية الأمريكية، وخفر السواحل الكندي.

يوم الخميس وبعد 5 أيام من انقطاع الاتصال مع الغواصة، قال الأدميرال جون موجر في خفر السواحل الأمريكية إنه من السابق لأوانه القول ما إذا كان الانفجار الداخلي قد حدث في وقت آخر اتصال أم لا، وقال إن الانفجار الداخلي لم تكتشفه عوامات السونار التي تستخدمها أطقم البحث، مما يشير إلى حدوثه قبل وصولهم - وقد سمعته البحرية الأمريكية بالفعل. قال موغير: «كانت لدينا أجهزة تنصت في الماء طوال الوقت ولم نسمع أي علامات على فشل ذريع « كان من الممكن أن يولد الانفجار الداخلي صوتًا عريض النطاق من الممكن أن تلتقطه عوامات السونار. ألا يعتبر هذا التصريح ذاته فشلا ذريعا لأجهزة التنصت وعوامات السونار إن كان الانفجار واقعا لا محالة؟

وماذا عن ثقة التفوق وتجاهل التحذيرات التي سبق وأعلن عنها اثنان من موظفي «أوشن غيت» السابقين بشكل منفصل عن مخاوف تتعلق بالسلامة بشأن «تيتان»، نخصُّ بالذكر ديفيد لوشريدج الذي عمل مديرًا للعمليات البحرية بين عامي 2016 و2018 في دعوى رفعها للمحكمة زاعما أنه أعرب عن مخاوفه بشأن تصميم الغواصة واختبار الشركة لهيكلها ونافذتها المصنوعة من الأكريليك التي يبلغ سمكها 7 سم وتكون آمنة في حدود عمق 1500 متر فقط قبل إنهاء خدمته من قبل الشركة، كما شكك أيضًا في خطط الشركة لتثبيت نظام مراقبة على السفينة للكشف عن بداية انهيار الهيكل. رغم كل جهود الدول الثلاث متضمنة للروبوت الفرنسي المسير «فيكتور6000» قالت رئيسة مجلس سلامة النقل الكندي كاثي فوكس إن «مهمتنا تتمثّل في معرفة ما حدث ولماذا؟ وتحديد ما يمكن تغييره لخفض فرص أو خطر وقوع مثل هذه الأحداث في المستقبل ... نعرف أن الجميع يرغب في إجابات، خصوصا العائلات والعامة، ويمكن للتحقيق الكامل أن يستغرق من 18 شهرا إلى عامين»!

تساؤلات تسلمنا ليقين الوهم حول تفوق الغرب تكنولوجيا وأمنيا إن ما تخيلنا رد فعل العالم لو أن هذا الحادث بتفاصيله حدث في بلد من بلدان العالم الثالث، أو ليقين آخر حول نفعية الغرب التي تظهر التفاصيل مع الوقت طال أمده أم قصر ليبقى الفضول سبيلا للمعرفة وإن أفضى إلى الموت.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية