نوافذ: الغواصة والقارب وازدواجية المعايير
السبت / 5 / ذو الحجة / 1444 هـ - 19:32 - السبت 24 يونيو 2023 19:32
الخميس الماضي أُعلِن عن غرق الغواصة «تيتان» في المحيط الأطلسي بعد أيام من انطلاقها، وعلى متنها 5 من الأثرياء تعساء الحظ الذين كانوا يسعون لمشاهدة حطام السفينة الشهيرة تيتانك. قبل ذلك بأسبوع أُعلِن عن غرق مئات اللاجئين (أغلبهم من باكستان وسوريا ومصر) في قارب قبالة سواحل اليونان. ما هو القاسم المشترك بين هاتين الكارثتين عدا أنهما حدثتا في البحر في وقت متقارب؟ الإجابة هي ازدواجية معايير الغرب في تعاطيه مع الكوارث الإنسانية، ونفاق إعلامه في تغطيتها.
الأيام الأربعة التي فصلت بين فقدان الاتصال بالغواصة «تيتان» يوم الأحد وإعلان خفر السواحل الأمريكي العثور على حطامها يوم الخميس، شهدت تكاتف جهود 3 دول كبرى هي الولايات المتحدة وفرنسا وكندا لمحاولة إنقاذ الغواصة، أو بتعبير أدق لمحاولة إنقاذ الأشخاص الخمسة الذين كانوا على متنها، مُشِّطَ خلالها أكثر من خمسة وعشرين ألف كيلومتر مربع من البحر المفتوح، وسط تغطية إعلامية واسعة، عرفنا خلالها أسماء هؤلاء الأشخاص؛ وهم الملياردير البريطاني هامش هاردينج، والفرنسي المخضرم في أعمال البحار بول هنري نارجيوليه، وستوكتون راش مؤسس شركة «أوشن جيت» الأمريكية التي تنظم الرحلات إلى حطام تيتانيك، ورجل الأعمال البريطاني من أصل باكستاني شاه زاده داوود ونجله سليمان داود، ووُصِف هؤلاء في تأبينهم – بعد فشل محاولة الإنقاذ- بأنهم «كانوا مستكشفين حقيقيين يتشاركون روح المغامرة المميزة، وشغفًا عميقًا لاستكشاف محيطات العالم وحمايتها».
من لديه حسّ إنساني سيتعاطف بالتأكيد مع هذه الجهود، وسيتمنى لو أنها كُلِّلتْ بإنقاذ هذه الأرواح الخمس، غير أنه في المقابل - وبدافع الحسّ الإنساني ذاته - سيشعر بغصة كبيرة عندما يعلم أن قارب اللاجئين غرق قبالة سواحل اليونان بعد تعمّد خفر السواحل اليوناني عدم إنقاذه، وتزعم الرواية اليونانية أن اللاجئين رفضوا الإنقاذ وأرادوا الذهاب إلى إيطاليا، لكن موقع «الجزيرة نت» نشر رسائل موثقة من منظمة «هاتف الإنقاذ» التي كانت على اتصال مباشر بأشخاص على متن القارب، تسرد حكاية أخرى، «حيث توسّل الناس من أجل إنقاذهم، وتمّ تجاهل صراخهم طلبًا للمساعدة، مما أدى في النهاية إلى غرقهم»!.
هذا ما يخصّ «جهود» الإنقاذ، أما التغطية الإعلامية للحادثتين فتلخصها عبارة وردتْ في مقال كتبته لقناة الجزيرة الإنجليزية الأكاديمية الهندية بريامفادا جوبال الأستاذة بكلية اللغة الإنجليزية بجامعة كامبريدج البريطانية، تقول فيها: «حياة عدد قليل من الناس أهم من حياة الكثيرين في عالمنا»، لافتةً إلى أن هؤلاء اللاجئين الذين لم يركبوا البحر إلا مضطرين وفي ظروف أقل بكثير من إنسانية؛ لم يثيروا شفقة أحد أو حزنه، بقدر ما أثار هذا الحزن الرجل الأبيض الثري «المستكشِف» الذي لا يجد غضاضة في دفع ربع مليون دولار ثمن تذكرة تحمله للترفيه عن نفسه بمشاهدة حطام سفينة غارقة منذ أكثر من قرن!.
المعنى نفسه تقريبًا قاله الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما خلال مشاركته في مؤتمر عن الصعوبات التي يواجهها طالبو اللجوء، عُقِدَ للمفارقة في اليونان نفسها التي تُتَّهَم بالتراخي في إنقاذ هؤلاء اللاجئين، وفي اليوم ذاته (الخميس) الذي أُعلن فيه عن العثور على حطام الغواصة الأمريكية. في هذا المؤتمر أدلى أوباما بتصريح يليق بسياسيّ لم يعد في السلطة: «فكِّرْ فيما يحدث هذا الأسبوع. هناك مأساة تتكشّف مع الغواصة التي تحصل – كما تعلمون- على تغطية مستمرة على مدار الساعة، في شتى أنحاء العالم، وهذا أمر مفهوم، لكن حقيقة أن هذا حظي باهتمام أكبر بكثير من سبعمائة شخص غرقوا؛ فهذا وضع لا يمكن الدفاع عنه».
نعم. إنه وضع لا يمكن الدفاع عنه، لكنه مع ذلك يتكرر في الإعلام العالمي بصفة شبه يومية. وسيظل يتكرر ما دام هناك من يرى أن حياة إنسان أكثر أهمية من حياة إنسان آخر.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
الأيام الأربعة التي فصلت بين فقدان الاتصال بالغواصة «تيتان» يوم الأحد وإعلان خفر السواحل الأمريكي العثور على حطامها يوم الخميس، شهدت تكاتف جهود 3 دول كبرى هي الولايات المتحدة وفرنسا وكندا لمحاولة إنقاذ الغواصة، أو بتعبير أدق لمحاولة إنقاذ الأشخاص الخمسة الذين كانوا على متنها، مُشِّطَ خلالها أكثر من خمسة وعشرين ألف كيلومتر مربع من البحر المفتوح، وسط تغطية إعلامية واسعة، عرفنا خلالها أسماء هؤلاء الأشخاص؛ وهم الملياردير البريطاني هامش هاردينج، والفرنسي المخضرم في أعمال البحار بول هنري نارجيوليه، وستوكتون راش مؤسس شركة «أوشن جيت» الأمريكية التي تنظم الرحلات إلى حطام تيتانيك، ورجل الأعمال البريطاني من أصل باكستاني شاه زاده داوود ونجله سليمان داود، ووُصِف هؤلاء في تأبينهم – بعد فشل محاولة الإنقاذ- بأنهم «كانوا مستكشفين حقيقيين يتشاركون روح المغامرة المميزة، وشغفًا عميقًا لاستكشاف محيطات العالم وحمايتها».
من لديه حسّ إنساني سيتعاطف بالتأكيد مع هذه الجهود، وسيتمنى لو أنها كُلِّلتْ بإنقاذ هذه الأرواح الخمس، غير أنه في المقابل - وبدافع الحسّ الإنساني ذاته - سيشعر بغصة كبيرة عندما يعلم أن قارب اللاجئين غرق قبالة سواحل اليونان بعد تعمّد خفر السواحل اليوناني عدم إنقاذه، وتزعم الرواية اليونانية أن اللاجئين رفضوا الإنقاذ وأرادوا الذهاب إلى إيطاليا، لكن موقع «الجزيرة نت» نشر رسائل موثقة من منظمة «هاتف الإنقاذ» التي كانت على اتصال مباشر بأشخاص على متن القارب، تسرد حكاية أخرى، «حيث توسّل الناس من أجل إنقاذهم، وتمّ تجاهل صراخهم طلبًا للمساعدة، مما أدى في النهاية إلى غرقهم»!.
هذا ما يخصّ «جهود» الإنقاذ، أما التغطية الإعلامية للحادثتين فتلخصها عبارة وردتْ في مقال كتبته لقناة الجزيرة الإنجليزية الأكاديمية الهندية بريامفادا جوبال الأستاذة بكلية اللغة الإنجليزية بجامعة كامبريدج البريطانية، تقول فيها: «حياة عدد قليل من الناس أهم من حياة الكثيرين في عالمنا»، لافتةً إلى أن هؤلاء اللاجئين الذين لم يركبوا البحر إلا مضطرين وفي ظروف أقل بكثير من إنسانية؛ لم يثيروا شفقة أحد أو حزنه، بقدر ما أثار هذا الحزن الرجل الأبيض الثري «المستكشِف» الذي لا يجد غضاضة في دفع ربع مليون دولار ثمن تذكرة تحمله للترفيه عن نفسه بمشاهدة حطام سفينة غارقة منذ أكثر من قرن!.
المعنى نفسه تقريبًا قاله الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما خلال مشاركته في مؤتمر عن الصعوبات التي يواجهها طالبو اللجوء، عُقِدَ للمفارقة في اليونان نفسها التي تُتَّهَم بالتراخي في إنقاذ هؤلاء اللاجئين، وفي اليوم ذاته (الخميس) الذي أُعلن فيه عن العثور على حطام الغواصة الأمريكية. في هذا المؤتمر أدلى أوباما بتصريح يليق بسياسيّ لم يعد في السلطة: «فكِّرْ فيما يحدث هذا الأسبوع. هناك مأساة تتكشّف مع الغواصة التي تحصل – كما تعلمون- على تغطية مستمرة على مدار الساعة، في شتى أنحاء العالم، وهذا أمر مفهوم، لكن حقيقة أن هذا حظي باهتمام أكبر بكثير من سبعمائة شخص غرقوا؛ فهذا وضع لا يمكن الدفاع عنه».
نعم. إنه وضع لا يمكن الدفاع عنه، لكنه مع ذلك يتكرر في الإعلام العالمي بصفة شبه يومية. وسيظل يتكرر ما دام هناك من يرى أن حياة إنسان أكثر أهمية من حياة إنسان آخر.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني