عادل ضرغام :هناك إسهامات مهمة جدا لأدباء عرب لكنها لا ترقى إلى العالمية
يرى أن فن الرواية وصل إلى أفق مسدود.. والمستقبل للقصة..
الجمعة / 4 / ذو الحجة / 1444 هـ - 20:52 - الجمعة 23 يونيو 2023 20:52
الحكاية لا تستطيع بمفردها إدهاشنا إذا استثنينا ألف ليلة وليلة
لا أميل إلى التنظير لأنه على وجاهته عمل الباحثين وليس المبدعين
لدينا شعراء عرب كبار لكنهم موزعون بين متطلبات الفن والجوائز
هناك مسابقات وظيفتها عرقلة العقل وقتل الانعطافات الجادة عن قصدية
النص العالمي لا يتنافى مع المحلي ويتوحّد معه في قيم تجريدية كبرى
نجيب محفوظ «كاتب عظيم» ويوسف إدريس «كاتب كبير».. وقلة إنتاج بهاء طاهر جعلت تأثيره محدودا
بن سالم حميش بعد أن قدم رائعتيه «مجنون الحكم» و«العلّامة» قدم عملا أقل في القيمة وهو «هذا الأندلسي»
ربما لا يعرف كثيرون أن الناقد المصري الدكتور عادل ضرغام بدأ حياته الأدبية شاعرا، وأصدر ديوانا بعنوان «العشاق»، قبل أن يتفرغ بالكامل للنقد الأدبي، وربما يُفسِّر هذا ضمن أسباب أخرى اهتمامه أكثر بالنقد التطبيقي أكثر من النقد النظري. أصبح عادل ضرغام رئيس قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم في جامعة الفيوم، وعميد الكلية الأسبق، الأكثر إلماما بالحركة الأدبية من خلال كتاباته بشكل مستمر عن أهم ما تصدره المطابع العربية، ويأتي على رأس اهتماماته إصدارات الشباب.
عادل ضرغام أيضا ليس من أساتذة الجامعة الذين ينكفئون على مكاتبهم ولا يغادرون أسوار جامعاتهم، فهو يشارك في كثير من الأنشطة الثقافية مصريا وعربيا، كما يشارك في لجان تحكيم الجوائز المختلفة، ولذلك فإن الحوار معه كان لا بد أن يتطرق إلى كثير من جوانب الحياة الثقافية في العالم العربي.
في كتابك «الرواية والمعرفة» تضرب العديد من النماذج للروائيين الذين يضفِّرون السرد بالمعرفة.. هل ترى أن الحكاية لم تعد قادرة بمفردها على صناعة أدب جيد؟
هناك أمران يدلان على هذا التوجه، الأول يرتبط بما تقول في كون الحكاية لم تعد كافية أو قادرة على صناعة أدب جيد، وأعتقد أن الحكاية في كل الأوقات لم تكن قادرة بمفردها على خلق الإدهاش إذا استثنينا منها الأعمال العظيمة مثل ألف ليلة وليلة وأعمالا أخرى بالضرورة خلقت ذاكرة عالمية، وتعاظمت على لغتها وسياقها، فهذه الأعمال لم تخلق تميزها وتفردها بالحكاية، ولكن من خلال عوالم خاصة، وفاعلية التكرار الخاصة بالأعمال العظيمة التي تتيح للقارئ أن يتلقاها في كل مرة بشكل جديد، فهذه الأعمال التي تتغوّل فيها الحكاية لا تخلو من أسئلة معرفية وثيقة الصلة بالإنسان.
الأمر الثاني يرتبط بكون الأدب على تنوّع أشكاله لا يمكن أن ينفصل عن المعرفة، والمعرفة لا تطل في النصوص على هيئة واحدة، وأهمها تتمثل في المعرفة المشغولة بوضع الإنسان في العالم، ويمكن أن نقارن في هذا السياق بين منجز نجيب محفوظ ومنجز يوسف إدريس، فمنجز الأول معرفي بالرغم من تنوّع هذا المعرفي في هيئات تجليه، في خروجه عن اللحظي والزمني والسياقي، ومنجز الآخر حكائي مشدود لزمنه وللحكاية وغرابتها، ولهذا يظل محفوظ كاتبا عظيما، ويبقى إدريس كاتبا كبيرا، الأول ينفتح على مكانة عالمية ويدخل ضمن سلسلة العظماء من كتاب العالم، والثاني يظل مشدوداً لسياقه ولزمنه. والمعرفة في هذه الجزئية بالذات ترتبط -لأنها خارجة عن السياقات ومحدوديتها من مكان وزمان- بوضع الإنسان داخل العالم وأسئلته الوجودية المحيرة. وثمة أمر آخر يتمثل في طبيعة تكوين الناقد ذاته وتوجهه، فتناول الفن وآلياته دون ربطها بتوجه معرفي يظل عملا محدودا وثيق الصلة ببدايات الباحثين.
تكتب شهريا أكثر من دراسة عن أعمال تقرؤها.. لماذا تهتم بالتطبيق أكثر من الاهتمام بالتنظير للجنس الروائي والقصصي؟
أكتب مقالين في الشهر وهذا أمر ليس سهلا إذا كان الناقد صادقا مع نفسه وجادا، أما الاهتمام بالنقد التطبيقي فأظن أن السبب يعود إلى أنني بدأت هذا الأمر مبكرا، وفي سنّ صغيرة من خلال مقالي الأسبوعي في جريدة الوطن السعودية لمدة عامين، ثم في الحياة اللندنية لفترة ليست طويلة، ويبدو أن توفّر هذا الأمر في فترة مبكرة ربما جعلني من خلال الممارسة الفعلية أميل إلى النقد التطبيقي. والأمر في الأساس لا يخلو من جانب شخصي فأنا لا أميل إلى التنظير، لأنه على وجاهته عمل الباحثين وليس المبدعين أو الفنّانين، ومن يقومون بهذا العمل كثيرون، وقد بدأت شاعرا، وأصدرت ديوانا، ولكن العمل الجامعي كان له دور في توجيه الكتابة أو الاهتمام نحو النقد، وفي الحقيقة لا أهمل التنظير إهمالا تاما، يكفيني منه ما يجعل المقاربة النقدية دائرة في حدود النظريات ومرتبطة بها، ولا تتحوّل إلى انطباعات مرتبطة بالتهويم أو الادعاء كما يفعل كثيرون من دعاة الابتعاد عن النظرية أو المنهج، لأنهما ضروريان لكل مقاربة جادة. وفي الحقيقة لديَّ قناعة أن النص إذا تمّ الإصغاء له يصنع نظريته الخاصة في كل مقاربة بعيدا عن التقعيد المؤلم والتعس، ففي هذا التوجه تتحول النظرية إلى توالد تلقائي غير محدد بنظريات مسبقة قد تقتل الفن وتخنقه إذا تمّ تطبيقها بعنف.
تبدو متحمسا أكثر إلى جيل الشباب.. هل تراهن عليهم في نقل الأدب العربي إلى العالمية؟
الكتابة الأدبية على اختلاف أشكالها تصنع تميّزها من خلال الإضافة، والنحت في الكيان المؤسس، وأعتقد أن الشباب في كل عصر هم القادرون على صنع هذه الإضافة، خاصة إذا أدرك هؤلاء الشباب إدراكا داخليا وذاتيا في ظل حضور نهمهم المعرفي الذي تتيحه السياقات الآنية حدود صوتهم الخاص، وتوصلوا إلى هذا الصوت، وخلصوه من مسّ السابقين، بالإضافة إلى إدراكهم قيمة الإضافة النوعية في كل عمل. ويمكن أن أعدد لك أسماء من كل البلدان العربية في كل فن من الفنون يكشف منجزها على إحداث المغايرة. لدينا في الشعر العربي شعراء عرب من الشباب قادرون على إحداث نقلة كبرى، والسياق العام جاهز لتقبل هذه النقلة، ولكنهم للأسف موزعون بين متطلبات الفن ومتطلبات الجوائز. وأعتقد أن على هؤلاء الشعراء أن ينحازوا للفن، فالجوائز ترسيخ لثبات قائم على التوجه، وعلى الأيديولوجيات الخفية التي يمكن أن تعطي لشكل من الأشكال قبلة الحياة وتنعشه إنعاشا شكليا ضد حركة الزمن، لأنها تتعامل مع الفنون بأيديولوجيا متوارية، فهناك مسابقات وجوائز في موضوعات لا ترتبط بواقعنا الآني، ولكنها مشدودة للوظيفة التي تؤديها في عرقلة العقل وتثبيته داخل إطار محدد، وقتل الانعطافات الجادة عن قصدية. وفي القصة القصيرة التي أعتقد أنها ستصبح الفن المهيمن في العقود القادمة لدينا كتاب وكاتبات تكشف أعمالهم عن قيمة ما سوف يقدمون مستقبلا، مثل مجموعة (العودة من سيلفيا بلاث) لأسماء حسين، أو (غيمة يتدلى منها حبل سميك) لأماني سليمان داود، للإشارة إلى قيمة ما يقدمه بعض الكتّاب والكاتبات.
وبمناسبة العالمية.. ما النص الذي يمكن أن نطلق عليه «عالمي»؟
النص العالمي لا يتنافى مع المحلي أو القومي، ليس بمنطق الجملة التي أصبحت شائهة وممجوجة في كون المحلية هي الطريق إلى العالمية، لكنه يتوحّد معه في قيم تجريدية كبرى أو إشكاليات وجودية، هذه القيم في مقاربتها إبداعيا تشكل سلسلة من المقاربات على مستوى العالم من خلال الإضافات أو التجاوبات أو التباينات، ولكن ينظر إلى المبدعين داخل هذه السلسلة في إطار الإضافة إلى طبقات سابقة جاهزة بعيدا عن العرق أو الجنس أو الدين، وهذه العالمية مغايرة للعالمية التي نشأت بفضل التوجهات المذهبية في بداية القرن الماضي فالإشارة إلى لوركا أو جيفارا في نص شعري أو روائي كان يعطي هذا السمت الإنساني في الانفتاح على العالم، ولكن الأمر هنا مغاير، لأنه يرتبط بالتأثير في بنية العقل والتفكير العالميين من خلال الإضافة. فالنصوص العالمية قد تحتوي على حكاية أو حكايات ترتبط بسياقها المحلي، ولكنها بالرغم من ذلك لا تكف عن انفتاحها من خلال ما تشير إليه على عوالم أكثر رحابة وإنسانية. فنجيب محفوظ صوّر الحارة المصرية، وتوجه في إبداعه نحو سياقات حضارية زمنية، ولكن ميزة إبداعه - وهي ميزة كل أدب عظيم- تعود إلى كونه يقدم طبقة إبداعية جديدة، ومحاولات للإجابة عن الأسئلة المصاحبة للوجود الإنساني، فأدبه يغذي - أو يغيّب- هذه الحكاية بأسئلة وجودية كبرى. قد نجد شيئا من هذا عند بهاء طاهر لكن قلة إنتاجه جعلت تأثيره محدودا.
من الأسماء التي ترى أنها ستكون الأكثر تأثيراً من مصر والعالم العربي ولماذا؟
هناك بالضرورة إسهامات مهمة جدا، سواء في مصر أو في تونس أو في المغرب أو في السعودية أو الكويت، لكنها للأسف لا ترقى إلى الدخول في المضمار العالمي، لأسباب عديدة، أهمها أن معظمها يفتقد لفكرة المشروع الموحد بالتركيز على منحى إبداعي والسير فيه والتأسيس لطبقة جديدة في الكتابة، على نحو ما قدم أمين معلوف في رواياته التي تنتمي إلى روايات ما بعد الحداثة التاريخية. فبعض الكتّاب حين يدخلون هذا الإطار يشعر القارئ بالتباين في منجزهم بين عمل وآخر، فبن سالم حميش بعد أن قدم رائعتيه (مجنون الحكم) و(العلّامة) يقدم عملا أقل في القيمة وهو (هذا الأندلسي)، ويمكن أن يشمل هذا الأمر كتابا عديدين، فكاتب (عزازيل) ماذا قدم بعدها سوى أعمال محدودة في الفن والقيمة. ولكن هناك بالرغم من ذلك مشاريع إذا تنبّه أصحابها وأخلصوا لفنهم، وتنبهوا لقيمة ما يقدمون ويطرحون، سيكون لها أثر كبير، مثل طارق إمام في كتابة سيرة الشخصيات والأماكن والمدن، وهاني عبدالمريد في الميتافكشن، والتيمومي التونسي صاحب (قيامة الحشاشين) في التخييل التاريخي، وصاحب رواية (الذي لا يحب جمال عبدالناصر) في البارودي الساخر والتهكمي. وفي القصة القصيرة يمكن أن نشير إلى قيمة مشروع أنيس الرافعي بتجديده في الشكل المتفلّت من الحدود والأسس لإنشاء بنية جديدة تستقوي يالمعلوماتي والتاريخي، وحسن عبدالموجود في تضفيره الحكائي بالمعرفي والأسطوري.
الناقد الدكتور جابر عصفور أستاذك كان لديه ميل أكثر إلى التنظير النقدي هل ذلك جعله معزولا قليلا عن الحياة الأدبية؟
جابر عصفور أستاذي الكبير والعلم المعروف هو بمنجزه نتاج زمنه ولحظته التاريخية، ونتاج للمتغيرات التي يمرّ بها الإنسان، فجابر عصفور ليس له صورة واحدة، وإنما يمكن تقسيم منجزه إلى مرايا ليست متجاورة كما فعل مع طه حسين، ولكنها مرايا متداخلة ومتقاطعة، فحركة النظريات أيام طه حسين بطيئة وتأخذ مدى زمنيا طويلا حتى يأتي غيرها، ولكنها مع جابر عصفور أشبه بالموجات التي لا تخلو من السرعة والتداخل وربما التشابه والتطابق. صورته الأولى هي الصورة التي يتجلى فيها الوجه الأكاديمي الناصع الفذ، وأنجز خلالها كتبه المؤسسة في تعامله مع التراث الشعري، ومع شعر النهضة الكلاسيكي، ومع منجز طه حسين في كتابه عنه، بالإضافة إلى ما كتبه عن أدونيس من دراسات نُشرت في بدايات مجلة فصول. أما الصورة الثانية - وأظنك تقصد هذه - فهي صورة مشدودة لسياق عالمي، حيث تحوّل بعض المنظرين في العالم إلى نجوم، وهذا التوجه ولّد لدى جابر عصفور- ولدى آخرين بالضرورة- هذا العزوف عن النقد التطبيقي لمدة زمنية، لأنه - تحت تأثير الصورة العالمية السابقة - يبحث عن دور معرفي سابق على النص، ومن وجهة نظري أن هذه الفترة لم تستمر معه، فقد عاد سريعا إلى النقد التطبيقي. ولكن يفصل هذه العودة أو يتجاوب معها الصورة الأخيرة التي أنجز في إطارها مجموعة من الكتب التي يظلمها كثيرون باعتبارها كتابة موجهة مرتبطة بالسلطة، فقد أثبتت الأيام أنه كان محقّاً في مخاوفه من المد الأصولي وغياب التنوير، وأثبتت أيضا أننا لم نكن على وعي كامل بقوة الاتجاهات الظلامية الداعشية.
ما الذي استفدته من جابر عصفور تحديدا؟
أفدت من جابر عصفور أشياء كثيرة جدا بالرغم من أنني لم اقترب منه بشكل خاص إلا في سنواته الأخيرة، أهمها الجدية في العمل، فجابر عصفور حين يهاتفك أو يجلس معك في مكتبه أو في النادي أو في حديقة منزله ليس له سوى هم واحد، هو الأدب والنقد والثقافة، ويسأل دائما عن الجديد في كل شيء، ويأمرنا أن نحضره له، فقد كان يعمل في أيامه الأخيرة قبل أن يثقله المرض بحيوية شاب في العشرينيات من عمره، ولديه مشروعات في الكتابة، أهمها مشروعه أو كتابه عن يوسف إدريس. وأفدت منه أيضا ضرورة المراجعة المستمرة لكل ما نكتب، فما نكتبه في رأيه يحتاج إلى المراجعة، وإلى الحذف، وإلى الإضافة، أو إلى التوسع أو إلى الإيضاح والتفسير. وأفدت منه على المستوى الشخصي هذا الملمح الإنساني في التعامل مع البشر.
النقاد العرب متهمون إما بالكسل والانعزال في مكاتبهم خلف أسوار الجامعة.. ما رأيك في هذا الاتهام؟
من يستحق كلمة ناقد؟ هذا سؤال أساسي للإجابة عن سؤالك، فالباحث ليس الأستاذ الجامعي أو الباحث الأكاديمي المرتبط بتحديدات وأطر، وليس بالضرورة كاتب المتابعات المرتبط بالتهويم القائم على غياب المنهج. الناقد يأخذ مدى أكبر من كليهما، لأنه مشدود إلى عوالم أكثر حرية ورحابة، ويجب أن تتوفر فيه سمات مرتبطة بالتحليل والتأمل والتأويل تجعل دوره أقرب إلى دور الرائد الذي يقود ويؤسس ويشير إلى المنعطفات القادمة في الأنواع الأدبية والنظرية والمنهجية واعيا بالتشكلات الجنينية الأولى للمغايرة والتحول، وهو دور يجعله دائب الحركة بين كونه سابقا للنص مؤسسا للمناحي الفكرية، أو تابعا له محللا ومفسرا. أما أساتذة الجامعات فكثيرون منهم لا يملكون الخيال الضروري لكل ناقد، بالإضافة إلى وجود عوار في تكوينهم الثقافي العام، وهو شيء أساسي لكل ناقد، فالكثيرون منهم أساتذة لكنهم ليسوا مثقفين، وليس لديهم الوعي الكافي للإبداع أو للإسهام في الحقل الثقافي.
شاركت في تحكيم أكثر من جائزة.. هل ترى أن الجوائز العربية نزيهة؟ وهل صادفت نوعا من الضغوط أثناء عملك؟
الجوائز- حتى لا يكون كلامنا كله سلبيا عن الجوائز العربية - يمكن أن تُخرج في بعض الأحيان - حين تكون أسباب وجود الجائزة فنية - فنا من أزمته، مثل جائزة الملتقى للقصة القصيرة، فقد أعادت لهذا الفن بريقه المفقود تحت سطوة الشكل الروائي، وهي جائزة - بوصفي أحد أعضاء لجنة التحكيم في العام الماضي - تمتاز بنزاهتها، لأن أمانة الجائزة لا تتدخل مطلقا في عمل اللجنة، ولا تمارس أي ضغوط عليها، أما الجوائز الأخرى فلا أستطيع أن أحكم عليها، ولكن غاية الأمر أن هناك تساؤلات وهمهمات تصدر من المختصين حين يتمّ الإعلان عن العمل الفائز، خاصة حين يكون العمل الفائز أو الرواية الفائزة في دورة من الدورات دون المستوى بغض النظر عن منجز الروائي أو الروائية بشكل عام، واستحقاق هذا المنجز للجائزة.
أنت مهتم بالقصة القصيرة ولديك كتاب يصدر قريبا عنها.. ما أبرز ملامحه؟
فعلا لقد قاربت على الانتهاء منه، وهو مشروع ممتد، أغيّر وأبدّل فيه باستمرار نتيجة للقراءة الأدبية أو النقدية أو النظرية. والكتاب يتكوّن من مقاربات نقدية لمجموعات قصصية على حد كبير من التنوّع والاختلاف، بالإضافة إلى مقالات تتعلق بالمفاهيم والنظرية داخل حدود النوع الخاص بالقص القصير، لكنني في الفترة الأخيرة تولّد لديَّ قناعة ترتبط بإعادة الاشتغال على هذه الأعمال مرة أخرى وفق منظور أكثر اتساعا وشمولا، حيث أحاول إدخال هذه المقالات داخل بنية أكبر تكيّف وجودها، وتحد من واحديتها وفرادتها، وذلك من خلال الإشارة إلى نماذج مشابهة أو مباينة داخل نسق عام.
هل ترى أن القصة العربية وصلت إلى مكانة تنافس فيها الرواية؟
العقود القادمة هي لفن القصة القصيرة، وذلك لأسباب عديدة، فالقصة القصيرة تزدهر في المنعطفات والأزمات الكبرى أو في ظل غياب التفسيرات والتأويلات المقنعة لكل ما يحيط بالإنسان من سياسة واجتماع وفكر وثقافة، بالإضافة إلى أن فن الرواية شارف على الأفق المسدود بإشكالياتها من خلال البنية التكرارية في كثير من مناحيها وتوجهاتها المعرفية، الرواية تحتاج إلى بنية وإلى سياقات واضحة محددة، والعالم الآن أبعد ما يكون عن الوضوح والتحديد.
هل هناك شروط لتكتب حول عمل ما؟
الشرط الأول والأساسي هو أن أشعر بمحبة واقتراب نحو هذا العمل، وهذه المحبة أو الاقتراب ليست خالية من المعايير الفنية، فروحي أو توجهي مرتبط بالإنسان وكل ما يقربني من هذا الإنسان، ولهذا تبدو عنايتي واضحة بالأعمال التي تهتم بالمنحى الفكري والمعرفي، خاصة تلك الأعمال المرتبطة بالإنسان وإشكالياته الوجودية، وعراكه الداخلي، وتوزعه بين قيم ومثل عليا، ونزاله مع الواقع، لإيمانه بإمكانية تحقيق هذه المثل.
تنشر الكثير من دراساتك في الصحف.. كيف استطعت أن توفق بين عمق الأكاديميا الرصينة ولغة الصحافة السهلة؟
هذا سؤال مهم، في حياتي سنوات معدودة من الصمت تصل لخمس سنوات، ربما كانت بسبب ألم ذاتي، ربما كانت بسبب بحث عن الصيغة أو اللغة الكتابية التي انتهيت إليها، هذه اللغة التي يشعر الأكاديمي أنها كتبت له، ويشعر القارئ المثقف أن بها شيئا يخصه أو يعرفه. ولهذا يسعدني كثيرا أن يتعامل كثيرون مع مقالاتي على أنها أبحاث مختزلة، ويشيرون إلى كونها ليست شبيهة بالمقالات المتاحة القائمة على الجاهز والمكرر، فهي صيغة وصلت إليها بعد تعب، وربما هداني إليها جابر عصفور وصلاح فضل، ولهذا أنا أشعر بالامتنان الدائم لفضلهما عليَّ.
لديك كتاب «بناء الوعي» وهو عن الأدب السعودي..ما الذي تغير في نظرتك إلى الأدب السعودي خاصة مع الحراك الثقافي الكبير الذي تشهده المملكة مؤخرا؟
هذا الكتاب أعده تلويحة محبة لأيام وسنوات جميلة قضيتها في السعودية، ويعتبر كشفا عن وعي خاص بذلك الأدب، ووسيلة اتصال مع نتاج أدبي لم يكن يتاح لنا الاطلاع عليه، وهو في الأصل مقالات نشرت في الوطن السعودية وفي الحياة اللندنية، والكتابات الأدبية التي توقفت عندها على تنوّع أشكالها تكشف عن هذه الروح الثائرة التي نراها متحققة اليوم. فحين نقرأ للثبيتي أو لمحمد حبيبي أو علي الحازمي أو حسن حجاب الحازمي أو إبراهيم مضواح نلمح هذه الروح المتوثبة التي تحاول الانفلات من التقاليد الضاغطة بشكل هادئ.
أخيرا.. ما طموحك كناقد للسنوات المقبلة؟
أن أظل كما أنا أكتب فقط عما أحب، فهذا انتصار كبير.
لا أميل إلى التنظير لأنه على وجاهته عمل الباحثين وليس المبدعين
لدينا شعراء عرب كبار لكنهم موزعون بين متطلبات الفن والجوائز
هناك مسابقات وظيفتها عرقلة العقل وقتل الانعطافات الجادة عن قصدية
النص العالمي لا يتنافى مع المحلي ويتوحّد معه في قيم تجريدية كبرى
نجيب محفوظ «كاتب عظيم» ويوسف إدريس «كاتب كبير».. وقلة إنتاج بهاء طاهر جعلت تأثيره محدودا
بن سالم حميش بعد أن قدم رائعتيه «مجنون الحكم» و«العلّامة» قدم عملا أقل في القيمة وهو «هذا الأندلسي»
ربما لا يعرف كثيرون أن الناقد المصري الدكتور عادل ضرغام بدأ حياته الأدبية شاعرا، وأصدر ديوانا بعنوان «العشاق»، قبل أن يتفرغ بالكامل للنقد الأدبي، وربما يُفسِّر هذا ضمن أسباب أخرى اهتمامه أكثر بالنقد التطبيقي أكثر من النقد النظري. أصبح عادل ضرغام رئيس قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم في جامعة الفيوم، وعميد الكلية الأسبق، الأكثر إلماما بالحركة الأدبية من خلال كتاباته بشكل مستمر عن أهم ما تصدره المطابع العربية، ويأتي على رأس اهتماماته إصدارات الشباب.
عادل ضرغام أيضا ليس من أساتذة الجامعة الذين ينكفئون على مكاتبهم ولا يغادرون أسوار جامعاتهم، فهو يشارك في كثير من الأنشطة الثقافية مصريا وعربيا، كما يشارك في لجان تحكيم الجوائز المختلفة، ولذلك فإن الحوار معه كان لا بد أن يتطرق إلى كثير من جوانب الحياة الثقافية في العالم العربي.
في كتابك «الرواية والمعرفة» تضرب العديد من النماذج للروائيين الذين يضفِّرون السرد بالمعرفة.. هل ترى أن الحكاية لم تعد قادرة بمفردها على صناعة أدب جيد؟
هناك أمران يدلان على هذا التوجه، الأول يرتبط بما تقول في كون الحكاية لم تعد كافية أو قادرة على صناعة أدب جيد، وأعتقد أن الحكاية في كل الأوقات لم تكن قادرة بمفردها على خلق الإدهاش إذا استثنينا منها الأعمال العظيمة مثل ألف ليلة وليلة وأعمالا أخرى بالضرورة خلقت ذاكرة عالمية، وتعاظمت على لغتها وسياقها، فهذه الأعمال لم تخلق تميزها وتفردها بالحكاية، ولكن من خلال عوالم خاصة، وفاعلية التكرار الخاصة بالأعمال العظيمة التي تتيح للقارئ أن يتلقاها في كل مرة بشكل جديد، فهذه الأعمال التي تتغوّل فيها الحكاية لا تخلو من أسئلة معرفية وثيقة الصلة بالإنسان.
الأمر الثاني يرتبط بكون الأدب على تنوّع أشكاله لا يمكن أن ينفصل عن المعرفة، والمعرفة لا تطل في النصوص على هيئة واحدة، وأهمها تتمثل في المعرفة المشغولة بوضع الإنسان في العالم، ويمكن أن نقارن في هذا السياق بين منجز نجيب محفوظ ومنجز يوسف إدريس، فمنجز الأول معرفي بالرغم من تنوّع هذا المعرفي في هيئات تجليه، في خروجه عن اللحظي والزمني والسياقي، ومنجز الآخر حكائي مشدود لزمنه وللحكاية وغرابتها، ولهذا يظل محفوظ كاتبا عظيما، ويبقى إدريس كاتبا كبيرا، الأول ينفتح على مكانة عالمية ويدخل ضمن سلسلة العظماء من كتاب العالم، والثاني يظل مشدوداً لسياقه ولزمنه. والمعرفة في هذه الجزئية بالذات ترتبط -لأنها خارجة عن السياقات ومحدوديتها من مكان وزمان- بوضع الإنسان داخل العالم وأسئلته الوجودية المحيرة. وثمة أمر آخر يتمثل في طبيعة تكوين الناقد ذاته وتوجهه، فتناول الفن وآلياته دون ربطها بتوجه معرفي يظل عملا محدودا وثيق الصلة ببدايات الباحثين.
تكتب شهريا أكثر من دراسة عن أعمال تقرؤها.. لماذا تهتم بالتطبيق أكثر من الاهتمام بالتنظير للجنس الروائي والقصصي؟
أكتب مقالين في الشهر وهذا أمر ليس سهلا إذا كان الناقد صادقا مع نفسه وجادا، أما الاهتمام بالنقد التطبيقي فأظن أن السبب يعود إلى أنني بدأت هذا الأمر مبكرا، وفي سنّ صغيرة من خلال مقالي الأسبوعي في جريدة الوطن السعودية لمدة عامين، ثم في الحياة اللندنية لفترة ليست طويلة، ويبدو أن توفّر هذا الأمر في فترة مبكرة ربما جعلني من خلال الممارسة الفعلية أميل إلى النقد التطبيقي. والأمر في الأساس لا يخلو من جانب شخصي فأنا لا أميل إلى التنظير، لأنه على وجاهته عمل الباحثين وليس المبدعين أو الفنّانين، ومن يقومون بهذا العمل كثيرون، وقد بدأت شاعرا، وأصدرت ديوانا، ولكن العمل الجامعي كان له دور في توجيه الكتابة أو الاهتمام نحو النقد، وفي الحقيقة لا أهمل التنظير إهمالا تاما، يكفيني منه ما يجعل المقاربة النقدية دائرة في حدود النظريات ومرتبطة بها، ولا تتحوّل إلى انطباعات مرتبطة بالتهويم أو الادعاء كما يفعل كثيرون من دعاة الابتعاد عن النظرية أو المنهج، لأنهما ضروريان لكل مقاربة جادة. وفي الحقيقة لديَّ قناعة أن النص إذا تمّ الإصغاء له يصنع نظريته الخاصة في كل مقاربة بعيدا عن التقعيد المؤلم والتعس، ففي هذا التوجه تتحول النظرية إلى توالد تلقائي غير محدد بنظريات مسبقة قد تقتل الفن وتخنقه إذا تمّ تطبيقها بعنف.
تبدو متحمسا أكثر إلى جيل الشباب.. هل تراهن عليهم في نقل الأدب العربي إلى العالمية؟
الكتابة الأدبية على اختلاف أشكالها تصنع تميّزها من خلال الإضافة، والنحت في الكيان المؤسس، وأعتقد أن الشباب في كل عصر هم القادرون على صنع هذه الإضافة، خاصة إذا أدرك هؤلاء الشباب إدراكا داخليا وذاتيا في ظل حضور نهمهم المعرفي الذي تتيحه السياقات الآنية حدود صوتهم الخاص، وتوصلوا إلى هذا الصوت، وخلصوه من مسّ السابقين، بالإضافة إلى إدراكهم قيمة الإضافة النوعية في كل عمل. ويمكن أن أعدد لك أسماء من كل البلدان العربية في كل فن من الفنون يكشف منجزها على إحداث المغايرة. لدينا في الشعر العربي شعراء عرب من الشباب قادرون على إحداث نقلة كبرى، والسياق العام جاهز لتقبل هذه النقلة، ولكنهم للأسف موزعون بين متطلبات الفن ومتطلبات الجوائز. وأعتقد أن على هؤلاء الشعراء أن ينحازوا للفن، فالجوائز ترسيخ لثبات قائم على التوجه، وعلى الأيديولوجيات الخفية التي يمكن أن تعطي لشكل من الأشكال قبلة الحياة وتنعشه إنعاشا شكليا ضد حركة الزمن، لأنها تتعامل مع الفنون بأيديولوجيا متوارية، فهناك مسابقات وجوائز في موضوعات لا ترتبط بواقعنا الآني، ولكنها مشدودة للوظيفة التي تؤديها في عرقلة العقل وتثبيته داخل إطار محدد، وقتل الانعطافات الجادة عن قصدية. وفي القصة القصيرة التي أعتقد أنها ستصبح الفن المهيمن في العقود القادمة لدينا كتاب وكاتبات تكشف أعمالهم عن قيمة ما سوف يقدمون مستقبلا، مثل مجموعة (العودة من سيلفيا بلاث) لأسماء حسين، أو (غيمة يتدلى منها حبل سميك) لأماني سليمان داود، للإشارة إلى قيمة ما يقدمه بعض الكتّاب والكاتبات.
وبمناسبة العالمية.. ما النص الذي يمكن أن نطلق عليه «عالمي»؟
النص العالمي لا يتنافى مع المحلي أو القومي، ليس بمنطق الجملة التي أصبحت شائهة وممجوجة في كون المحلية هي الطريق إلى العالمية، لكنه يتوحّد معه في قيم تجريدية كبرى أو إشكاليات وجودية، هذه القيم في مقاربتها إبداعيا تشكل سلسلة من المقاربات على مستوى العالم من خلال الإضافات أو التجاوبات أو التباينات، ولكن ينظر إلى المبدعين داخل هذه السلسلة في إطار الإضافة إلى طبقات سابقة جاهزة بعيدا عن العرق أو الجنس أو الدين، وهذه العالمية مغايرة للعالمية التي نشأت بفضل التوجهات المذهبية في بداية القرن الماضي فالإشارة إلى لوركا أو جيفارا في نص شعري أو روائي كان يعطي هذا السمت الإنساني في الانفتاح على العالم، ولكن الأمر هنا مغاير، لأنه يرتبط بالتأثير في بنية العقل والتفكير العالميين من خلال الإضافة. فالنصوص العالمية قد تحتوي على حكاية أو حكايات ترتبط بسياقها المحلي، ولكنها بالرغم من ذلك لا تكف عن انفتاحها من خلال ما تشير إليه على عوالم أكثر رحابة وإنسانية. فنجيب محفوظ صوّر الحارة المصرية، وتوجه في إبداعه نحو سياقات حضارية زمنية، ولكن ميزة إبداعه - وهي ميزة كل أدب عظيم- تعود إلى كونه يقدم طبقة إبداعية جديدة، ومحاولات للإجابة عن الأسئلة المصاحبة للوجود الإنساني، فأدبه يغذي - أو يغيّب- هذه الحكاية بأسئلة وجودية كبرى. قد نجد شيئا من هذا عند بهاء طاهر لكن قلة إنتاجه جعلت تأثيره محدودا.
من الأسماء التي ترى أنها ستكون الأكثر تأثيراً من مصر والعالم العربي ولماذا؟
هناك بالضرورة إسهامات مهمة جدا، سواء في مصر أو في تونس أو في المغرب أو في السعودية أو الكويت، لكنها للأسف لا ترقى إلى الدخول في المضمار العالمي، لأسباب عديدة، أهمها أن معظمها يفتقد لفكرة المشروع الموحد بالتركيز على منحى إبداعي والسير فيه والتأسيس لطبقة جديدة في الكتابة، على نحو ما قدم أمين معلوف في رواياته التي تنتمي إلى روايات ما بعد الحداثة التاريخية. فبعض الكتّاب حين يدخلون هذا الإطار يشعر القارئ بالتباين في منجزهم بين عمل وآخر، فبن سالم حميش بعد أن قدم رائعتيه (مجنون الحكم) و(العلّامة) يقدم عملا أقل في القيمة وهو (هذا الأندلسي)، ويمكن أن يشمل هذا الأمر كتابا عديدين، فكاتب (عزازيل) ماذا قدم بعدها سوى أعمال محدودة في الفن والقيمة. ولكن هناك بالرغم من ذلك مشاريع إذا تنبّه أصحابها وأخلصوا لفنهم، وتنبهوا لقيمة ما يقدمون ويطرحون، سيكون لها أثر كبير، مثل طارق إمام في كتابة سيرة الشخصيات والأماكن والمدن، وهاني عبدالمريد في الميتافكشن، والتيمومي التونسي صاحب (قيامة الحشاشين) في التخييل التاريخي، وصاحب رواية (الذي لا يحب جمال عبدالناصر) في البارودي الساخر والتهكمي. وفي القصة القصيرة يمكن أن نشير إلى قيمة مشروع أنيس الرافعي بتجديده في الشكل المتفلّت من الحدود والأسس لإنشاء بنية جديدة تستقوي يالمعلوماتي والتاريخي، وحسن عبدالموجود في تضفيره الحكائي بالمعرفي والأسطوري.
الناقد الدكتور جابر عصفور أستاذك كان لديه ميل أكثر إلى التنظير النقدي هل ذلك جعله معزولا قليلا عن الحياة الأدبية؟
جابر عصفور أستاذي الكبير والعلم المعروف هو بمنجزه نتاج زمنه ولحظته التاريخية، ونتاج للمتغيرات التي يمرّ بها الإنسان، فجابر عصفور ليس له صورة واحدة، وإنما يمكن تقسيم منجزه إلى مرايا ليست متجاورة كما فعل مع طه حسين، ولكنها مرايا متداخلة ومتقاطعة، فحركة النظريات أيام طه حسين بطيئة وتأخذ مدى زمنيا طويلا حتى يأتي غيرها، ولكنها مع جابر عصفور أشبه بالموجات التي لا تخلو من السرعة والتداخل وربما التشابه والتطابق. صورته الأولى هي الصورة التي يتجلى فيها الوجه الأكاديمي الناصع الفذ، وأنجز خلالها كتبه المؤسسة في تعامله مع التراث الشعري، ومع شعر النهضة الكلاسيكي، ومع منجز طه حسين في كتابه عنه، بالإضافة إلى ما كتبه عن أدونيس من دراسات نُشرت في بدايات مجلة فصول. أما الصورة الثانية - وأظنك تقصد هذه - فهي صورة مشدودة لسياق عالمي، حيث تحوّل بعض المنظرين في العالم إلى نجوم، وهذا التوجه ولّد لدى جابر عصفور- ولدى آخرين بالضرورة- هذا العزوف عن النقد التطبيقي لمدة زمنية، لأنه - تحت تأثير الصورة العالمية السابقة - يبحث عن دور معرفي سابق على النص، ومن وجهة نظري أن هذه الفترة لم تستمر معه، فقد عاد سريعا إلى النقد التطبيقي. ولكن يفصل هذه العودة أو يتجاوب معها الصورة الأخيرة التي أنجز في إطارها مجموعة من الكتب التي يظلمها كثيرون باعتبارها كتابة موجهة مرتبطة بالسلطة، فقد أثبتت الأيام أنه كان محقّاً في مخاوفه من المد الأصولي وغياب التنوير، وأثبتت أيضا أننا لم نكن على وعي كامل بقوة الاتجاهات الظلامية الداعشية.
ما الذي استفدته من جابر عصفور تحديدا؟
أفدت من جابر عصفور أشياء كثيرة جدا بالرغم من أنني لم اقترب منه بشكل خاص إلا في سنواته الأخيرة، أهمها الجدية في العمل، فجابر عصفور حين يهاتفك أو يجلس معك في مكتبه أو في النادي أو في حديقة منزله ليس له سوى هم واحد، هو الأدب والنقد والثقافة، ويسأل دائما عن الجديد في كل شيء، ويأمرنا أن نحضره له، فقد كان يعمل في أيامه الأخيرة قبل أن يثقله المرض بحيوية شاب في العشرينيات من عمره، ولديه مشروعات في الكتابة، أهمها مشروعه أو كتابه عن يوسف إدريس. وأفدت منه أيضا ضرورة المراجعة المستمرة لكل ما نكتب، فما نكتبه في رأيه يحتاج إلى المراجعة، وإلى الحذف، وإلى الإضافة، أو إلى التوسع أو إلى الإيضاح والتفسير. وأفدت منه على المستوى الشخصي هذا الملمح الإنساني في التعامل مع البشر.
النقاد العرب متهمون إما بالكسل والانعزال في مكاتبهم خلف أسوار الجامعة.. ما رأيك في هذا الاتهام؟
من يستحق كلمة ناقد؟ هذا سؤال أساسي للإجابة عن سؤالك، فالباحث ليس الأستاذ الجامعي أو الباحث الأكاديمي المرتبط بتحديدات وأطر، وليس بالضرورة كاتب المتابعات المرتبط بالتهويم القائم على غياب المنهج. الناقد يأخذ مدى أكبر من كليهما، لأنه مشدود إلى عوالم أكثر حرية ورحابة، ويجب أن تتوفر فيه سمات مرتبطة بالتحليل والتأمل والتأويل تجعل دوره أقرب إلى دور الرائد الذي يقود ويؤسس ويشير إلى المنعطفات القادمة في الأنواع الأدبية والنظرية والمنهجية واعيا بالتشكلات الجنينية الأولى للمغايرة والتحول، وهو دور يجعله دائب الحركة بين كونه سابقا للنص مؤسسا للمناحي الفكرية، أو تابعا له محللا ومفسرا. أما أساتذة الجامعات فكثيرون منهم لا يملكون الخيال الضروري لكل ناقد، بالإضافة إلى وجود عوار في تكوينهم الثقافي العام، وهو شيء أساسي لكل ناقد، فالكثيرون منهم أساتذة لكنهم ليسوا مثقفين، وليس لديهم الوعي الكافي للإبداع أو للإسهام في الحقل الثقافي.
شاركت في تحكيم أكثر من جائزة.. هل ترى أن الجوائز العربية نزيهة؟ وهل صادفت نوعا من الضغوط أثناء عملك؟
الجوائز- حتى لا يكون كلامنا كله سلبيا عن الجوائز العربية - يمكن أن تُخرج في بعض الأحيان - حين تكون أسباب وجود الجائزة فنية - فنا من أزمته، مثل جائزة الملتقى للقصة القصيرة، فقد أعادت لهذا الفن بريقه المفقود تحت سطوة الشكل الروائي، وهي جائزة - بوصفي أحد أعضاء لجنة التحكيم في العام الماضي - تمتاز بنزاهتها، لأن أمانة الجائزة لا تتدخل مطلقا في عمل اللجنة، ولا تمارس أي ضغوط عليها، أما الجوائز الأخرى فلا أستطيع أن أحكم عليها، ولكن غاية الأمر أن هناك تساؤلات وهمهمات تصدر من المختصين حين يتمّ الإعلان عن العمل الفائز، خاصة حين يكون العمل الفائز أو الرواية الفائزة في دورة من الدورات دون المستوى بغض النظر عن منجز الروائي أو الروائية بشكل عام، واستحقاق هذا المنجز للجائزة.
أنت مهتم بالقصة القصيرة ولديك كتاب يصدر قريبا عنها.. ما أبرز ملامحه؟
فعلا لقد قاربت على الانتهاء منه، وهو مشروع ممتد، أغيّر وأبدّل فيه باستمرار نتيجة للقراءة الأدبية أو النقدية أو النظرية. والكتاب يتكوّن من مقاربات نقدية لمجموعات قصصية على حد كبير من التنوّع والاختلاف، بالإضافة إلى مقالات تتعلق بالمفاهيم والنظرية داخل حدود النوع الخاص بالقص القصير، لكنني في الفترة الأخيرة تولّد لديَّ قناعة ترتبط بإعادة الاشتغال على هذه الأعمال مرة أخرى وفق منظور أكثر اتساعا وشمولا، حيث أحاول إدخال هذه المقالات داخل بنية أكبر تكيّف وجودها، وتحد من واحديتها وفرادتها، وذلك من خلال الإشارة إلى نماذج مشابهة أو مباينة داخل نسق عام.
هل ترى أن القصة العربية وصلت إلى مكانة تنافس فيها الرواية؟
العقود القادمة هي لفن القصة القصيرة، وذلك لأسباب عديدة، فالقصة القصيرة تزدهر في المنعطفات والأزمات الكبرى أو في ظل غياب التفسيرات والتأويلات المقنعة لكل ما يحيط بالإنسان من سياسة واجتماع وفكر وثقافة، بالإضافة إلى أن فن الرواية شارف على الأفق المسدود بإشكالياتها من خلال البنية التكرارية في كثير من مناحيها وتوجهاتها المعرفية، الرواية تحتاج إلى بنية وإلى سياقات واضحة محددة، والعالم الآن أبعد ما يكون عن الوضوح والتحديد.
هل هناك شروط لتكتب حول عمل ما؟
الشرط الأول والأساسي هو أن أشعر بمحبة واقتراب نحو هذا العمل، وهذه المحبة أو الاقتراب ليست خالية من المعايير الفنية، فروحي أو توجهي مرتبط بالإنسان وكل ما يقربني من هذا الإنسان، ولهذا تبدو عنايتي واضحة بالأعمال التي تهتم بالمنحى الفكري والمعرفي، خاصة تلك الأعمال المرتبطة بالإنسان وإشكالياته الوجودية، وعراكه الداخلي، وتوزعه بين قيم ومثل عليا، ونزاله مع الواقع، لإيمانه بإمكانية تحقيق هذه المثل.
تنشر الكثير من دراساتك في الصحف.. كيف استطعت أن توفق بين عمق الأكاديميا الرصينة ولغة الصحافة السهلة؟
هذا سؤال مهم، في حياتي سنوات معدودة من الصمت تصل لخمس سنوات، ربما كانت بسبب ألم ذاتي، ربما كانت بسبب بحث عن الصيغة أو اللغة الكتابية التي انتهيت إليها، هذه اللغة التي يشعر الأكاديمي أنها كتبت له، ويشعر القارئ المثقف أن بها شيئا يخصه أو يعرفه. ولهذا يسعدني كثيرا أن يتعامل كثيرون مع مقالاتي على أنها أبحاث مختزلة، ويشيرون إلى كونها ليست شبيهة بالمقالات المتاحة القائمة على الجاهز والمكرر، فهي صيغة وصلت إليها بعد تعب، وربما هداني إليها جابر عصفور وصلاح فضل، ولهذا أنا أشعر بالامتنان الدائم لفضلهما عليَّ.
لديك كتاب «بناء الوعي» وهو عن الأدب السعودي..ما الذي تغير في نظرتك إلى الأدب السعودي خاصة مع الحراك الثقافي الكبير الذي تشهده المملكة مؤخرا؟
هذا الكتاب أعده تلويحة محبة لأيام وسنوات جميلة قضيتها في السعودية، ويعتبر كشفا عن وعي خاص بذلك الأدب، ووسيلة اتصال مع نتاج أدبي لم يكن يتاح لنا الاطلاع عليه، وهو في الأصل مقالات نشرت في الوطن السعودية وفي الحياة اللندنية، والكتابات الأدبية التي توقفت عندها على تنوّع أشكالها تكشف عن هذه الروح الثائرة التي نراها متحققة اليوم. فحين نقرأ للثبيتي أو لمحمد حبيبي أو علي الحازمي أو حسن حجاب الحازمي أو إبراهيم مضواح نلمح هذه الروح المتوثبة التي تحاول الانفلات من التقاليد الضاغطة بشكل هادئ.
أخيرا.. ما طموحك كناقد للسنوات المقبلة؟
أن أظل كما أنا أكتب فقط عما أحب، فهذا انتصار كبير.