أفكار وآراء

أسطورة «القرن الآسيوي»

ترجمة - قاسم مكي

يجادل المحلل المحترم باراج خانا بأن المستقبل آسيوي. لكن هذا الاعتقاد السائد يحتاج إلى تفكيك.

جغرافيّا، لا يمكن التمييز بين آسيا وأوروبا كقارتين منفصلتين. بل آسيا نفسها ليست فكرة آسيوية. الأوروبيون اخترعوها. والآسيويون لا يتصورون أنفسهم جزءا من كيان قارِّي واحد. فالمنطقة أكثر اتساعا وتنوعا من أن يكون ذلك ممكنا. وهي لاتزال كذلك.

ما يحدث هو إعادة توازن عالمي مع انحسار الهيمنة القصيرة تاريخيا والمغيِّرة للعالم التي بسطتها أوروبا وذرِّيَّتها الاستعمارية (أمريكا وكندا وأستراليا الخ...) على البشرية. وسيحل محلها عالم متعدد الأقطاب وفوضوي. هل ستشكل آسيا جزءا ضخما من هذا؟ بالتأكيد. الصين والهند ستكونان فاعِلَتين. لكن آسيا ميدان للفعل وليست فاعلا. لِنُلْقِ نظرة على العالم. أوروبا وآسيا قارة واحدة. ولأسباب تاريخية وثقافية من المعقول أيضا ضم شمال إفريقيا إلى آسيا وليس إفريقيا. هذه إذن أوراسيا. إنها قارة الحضارات البشرية العريقة. تاريخيا هذه القارة الأورو-آسيوية الشاسعة كانت موطنا للحضارة الكونفوشية إلى الشرق والحضارة الهندوسية إلى الجنوب والحضارة الإسلامية في الغرب الأدنى وعالم المسيحية في الغرب الأقصى. وإلى الشمال كان يقطن بدو السهوب.

التفاعلات بين هؤلاء الجيران كانت عميقة. لكن أورو-آسيا كانت أضخم من أن تشكل وحدة (أن تكون كيانا واحدا) أو أن يتصورها الناس كذلك. ويبدو أن الإغريق اخترعوا فكرة تقسيم هذه القارة الواحدة إلى قارتين. أول ذكر موثق للاسم ورد في تاريخ هيرودوتس حوالي عام 440 قبل الميلاد. في ذلك الوقت لم يكن أي أحد يعلم تماما مدى اتساع ما أطلق عليه اسم آسيا. يرى المؤرخ البريطاني جون هيل أن اسم «أوروبا» أيضا حل محل «العالم المسيحي» خلال حقبة النهضة. ومع تصوُّر أوروبا قارة منفصلة كانت آسيا مُسمَّى للمناطق الشاسعة والمتنوعة إلى الشرق منها. لكن فقط في القرون القليلة الماضية منح التحول الاقتصادي والتقني والعسكري أوروبا وامتداداتها الهيمنة. لقد صار التمييز بين أوروبا وآسيا حقيقيا قياسا بالفتوحات العسكرية والفجوات غير الاعتيادية في الثروة بينهما.

حاجج (الاقتصادي البريطاني) الراحل آنجس ماديسون بأن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في أوروبا الغربية عام 1820 كان أكثر قليلا من ضعف حجمه في شرق آسيا. وبحلول عام 1950 ارتفع المعدل إلى 6.5 أضعاف. لكن في عام 2018 تراجع إلى 2.4 ضعف أو تقريبا إلى نفس مستواه قبل قرنين. في عام 1820 انتجت آسيا 61% من إجمالي الناتج المحلي العالمي وأوروبا الغربية 25%. وفي عام 1950 تراجع نصيب آسيا بشدة إلى 20% فقط فيما ارتفعت حصة أوروبا الغربية إلى 26%. لكن في عام 2018 تدنت مساهمة أوروبا الغربية في الناتج المحلي الإجمالي للعالم إلى 15% فيما تعافت آسيا وارتفعت نسبتها 48%.

استعادت آسيا توازنها قليلا. لكن ماذا بشأن ثقلها في العالم؟ خلال القرنين الماضيين تدهور اقتصادها فيما قفز الناتج في الأمريكتين وأيضا عدد السكان هناك وفي إفريقيا جنوب الصحراء. لكن تظل أوراسيا قلب البشرية. فنصيبها من إجمالي سكان العالم لايزال عند حوالي 72% في عام 2018 ولو أنه تراجع من 91% في عام 1820. وعلى نحو مماثل تراجع نصيبها من الناتج العالمي إلى 70% من 92% في عام 1820.

الحكاية الكبيرة إذن هي تعافي ما نطلق عليه آسيا بقيادة شرق آسيا من تدهورها الاقتصادي الحاد نسبيا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. في أثناء التعافي استعادت أوراسيا توازنها إلى حد كبير وكذلك بالطبع العالم ككل. هذا التقارب الاقتصادي الكبير (تقليص الفجوة بين الغرب وآسيا) لا يعود إلى ثقافة «آسيوية» فريدة. فثقافات شرق وجنوب آسيا المختلفة جدا احتضنت ما يمكن اعتباره أفكارا أوروبية مثل الأسواق التنافسية والمشروع الحر والتجارة اللبرالية والتعليم وهدف النمو الاقتصادي. لكن تطبيقاتها لهذه الأفكار متنوعة. إنها تعتمد على تاريخ وثقافة المجتمع المعين الذي يتبناها. الصين والهند على سبيل المثال مختلفتان فيما بينهما على نحو غير عادي. لكن العديد من هذه المجتمعات تتشاطر حقا الرغبة في حياة أكثر ازدهارا. وهذه الرغبة لا تقتصر بأي حال على آسيا بل هي عامة. لكن ما تتقاصر عن تحقيقها قدرة (بعض) المجتمعات على تنظيم نفسها بطرائق تجعل تقدمها الاقتصادي ممكنا.

لا شك أن المجتمعات الآسيوية خلال العقود الماضية وخصوصا مجتمعات شرق آسيا حققت نجاحا هائلا في هذا الجانب. وليس مفاجئا على الإطلاق أن لحاق هذا العدد الكبير من الناس بالغرب (تجسير الفجوة الاقتصادية مع الغرب) يوجد فرصا ضخمة للتجارة كما أشار إلى ذلك معهد ماكينزي العالمي. إيجاد الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة حول الصين (لكن بدون الهند) يشير إلى أنها قد تتطور بوتيرة أسرع على الرغم من تأكيدها على المركزية الحتمية تقريبا للصين في أية عملية تكامل من هذا النوع. ما الذي يمكن أن نقوله إذن حول إعادة التوازن هذه لأوراسيا وللعالم أيضا؟ أهم شيء هنا أن هذا أمر طبيعي. النفوذ غير العادي الذي تمتع به أوروبا والولايات المتحدة وأحفادهما الأقوياء ينحسر. وليس مدهشا أن ما ندعوها آسيا التي يقارب عدد سكانها نصف البشر وتشكل موطن الحضارات التاريخية للعالم هي التي تقود التغيير. وما لم تحدث كارثة من المرجح تستمر هذه القيادة. ببساطة مركز جاذبية اقتصاد العالم انتقل شرقا. وستكتسب آسيا بهذا التحول أهمية ضخمة اقتصاديا وسياسيا. لكن أيضا ستكون لها منافساتها الداخلية ومصاعبها البالغة الأهمية. لن تكون هنالك «إرادة» آسيوية جماعية بخلاف اتخاذ مجتمعاتها مساراتها الخاصة بها.

في الأثناء الغرب بحاجة «إدخال» فكرتين متباينتين في عقله الجماعي.

أولا، عليه أن يتعامل مع العالم كما هو. وثانيا، عليه الدفاع عن أفضل قِيَمِه وبالتحديد الديمقراطية وحرية الفرد بصرف النظر عما يفكر فيه الآخرون.

مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز.

الترجمة خاصة لـ «$»