صناعة التاريخ بين المنتصرين والمنهزمين
السبت / 27 / ذو القعدة / 1444 هـ - 21:38 - السبت 17 يونيو 2023 21:38
تاريخ البشرية هو سلسلة متواصلة من الصراعات والحروب التي غالبًا لا تتوقف إلا بقدر ما تبدأ، حروب إقليمية ودولية وأهلية، تأتي على كثير مما أنجزته الحضارة الإنسانية. حدث هذا منذ فترة مبكرة من التاريخ الإنساني، وتواصلت تلك الحروب مع فجر النهضة الأوروبية الحديثة في مطلع القرن السادس عشر، حينما دخلت أوروبا في حروب سياسية ودينية حصدت أرواح ملايين من البشر، ووسط أهوال كل هذه الحروب أنتجت البشرية عقولًا من المفكرين في مختلف صنوف الفكر، أرادوا لمجتمعاتهم أن تخرج من أهوال هذه المآسي في سبيل بناء مجتمعات تُعظم من قيم العقل، وشيوع ثقافة الوعي والمحبة، لكي يعم الرخاء والتنمية، لذا كان القانون وإعمال ثقافة المؤسسات وإقامة العدالة الاجتماعية، وهي منظومة إنسانية وضع قواعدها المفكرون والفلاسفة ورجال القانون.
لعل الثلاثة قرون التي تلت القرن السادس عشر الميلادي كانت بمثابة حصاد لتجارب مريرة، أفادت منها معظم الدول الأوروبية حينما أحالتها إلى دروس استهدفت البناء، وتعظيم قيم القانون والإعلاء من ثقافة الحياة بهدف سعادة البشر، والتأسيس لحياة يسودها الأمن والعدالة والرخاء، وهي أمور لم تكن لتتحقق إلا بعد أن أدركت المجتمعات الأوروبية مخاطر الحروب، التي كانت بمثابة دروس عملية، وقد نجم عن ذلك كله شعور جمعي بأن هناك سياسات واضحة لقيام المجتمعات، بدلًا من ثقافة الموت، لذا أدرك الأوروبيون أن الثقافة هي طوق النجاة، وهو ما يفسر ظهور أجيال من المؤسسين العظام في كل صنوف الأدب والقانون والفلسفة والفنون، وجميعها كانت بمثابة البنية المؤسسة لقيام الدول.
قد يتصور البعض أن الحروب دائما مصدر كل الشرور والتخلف، إلا انه في كثير من الأحيان، وفي معظم التجارب الإنسانية كانت الحروب هي الدروس العملية للبناء، حينما تشعر المجتمعات بأهوال هذه الحروب ومخاطرها، عندئذ ينجم عن هذه الحروب نتائج إيجابية أكثر ما ينجم عنها من نتائج سلبية، فالمجتمعات التي تتعرض لمثل هذه المخاطر تكون غالبا عازمة على عدم إعادة هذه التجارب، التي تعظم من الشعور الوطني، وتدفع بالمجتمعات إلى الوحدة والرغبة في تعويض ما فاتها من التقدم الذي كانت تستحقه، بعد أن أضاعت سنوات في أتون حروب لم ينجم عنها إلا ضياع منجزات شعوبها وحصاد أرواح أبنائها.
إذا كان ذلك قد حدث منذ قرون مضت، إلا انه لم يعد من المقبول في الحياة المعاصرة التي شهدت تطورًا علميا وفكريًا واقتصاديًا أن تكون الحروب هي الرهان الأخير لحل بعض النزاعات، وهو رهان يحصد أرواح الملايين من البشر، ويدمر كل منجزات الحضارة المعاصرة، لعل الصراع الروسي الأوكراني يعد نموذجًا عمليًا، بعد إن تأثر العالم برمته بمأساة هذا الصراع على كل مناحي الحياة، وفي ظل تحالفات دولية تُحشد في سبيلها أحدث الأسلحة الفتاكة، بهدف إجهاز طرف على الآخر، ولم يشعر العالم بكل عقلائه ومؤسساته بأن هذه الحرب أو غيرها حتى لو انتهت بتدمير إحدى القوتين للأخرى فلن يعم السلام! بل سوف يدخل العالم كله في أتون صراعات يمتد آثارها إلى كل دول العالم، ولن تقبل القوى المنهزمة بهزيمتها، حتى لو استُخدمت في سبيل ذلك كل الأسلحة الفتاكة (الدمار الشامل).
العالم الآن يموج بصراعات قارية وإقليمية وأهلية مدمرة، والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن الحرب الروسية الأوكرانية التي انخرطت فيها معظم الدول الأوروبية تعد هي الأخطر على المستويين السياسي والعسكري، فلم يعد من المقبول أن تنفرد قوى واحدة لتحديد مصير العالم، وهي قضية تستحق أن تنتبه لها الدول الفقيرة والنامية، التي يجب أن تُراعى مصالحها، في ظل هيمنة القوى الواحدة التي تقود العالم المتقدم بإشعال الحروب، تحت حجج تعيدنا إلى حقبة الحرب الباردة، بين الغرب والاتحاد السوفييتي السابق، ولا يخفى على مراقب أن الولايات المتحدة الأمريكية تقود هذا العالم المتقدم دون أن تدرك هذه القوى إلى أنها سوف تكون أول من يدفع ثمن هذه الحروب، حتى لو انتصر التحالف بقيادة الولايات المتحدة.
اللافت للنظر، أن الدبلوماسية النشطة والأمم المتحدة قد غابت عن المشهد، فلم تبذل من الجهد ما يتناسب ومخاطر هذه الحرب، ولم تلتفت الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة إلى الدروس المستفادة من الحرب العالمية الثانية التي كانت نتيجة طبيعية للحرب العالمية الأولى، حينما فرض المنتصرون شروطهم المجحفة على المنهزمين. وبعد أن انقسم العالم إلى قطبين كبيرين ساد بينهما الصراع الذي لم يتوقف حتى بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي،. وخروج دول عديدة من عباءة هذا التحالف، واليوم يشهد العالم صراعًا طال كل دول العالم، وكانت الدول الفقيرة هي أول من دفع الثمن.
السؤال الذي يمكن أن نطرحه: ألم تدرك القوى المتحكمة في مصائر العالم ما يمكن أن تؤول إليه نتائج هذا الصراع؟ ألم يحن الوقت بعد لكي يدرك العالم مخاطر ما يمكن أن ينتهي إليه مصير العالم حتى لو انتصر فريق على الآخر؟
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
لعل الثلاثة قرون التي تلت القرن السادس عشر الميلادي كانت بمثابة حصاد لتجارب مريرة، أفادت منها معظم الدول الأوروبية حينما أحالتها إلى دروس استهدفت البناء، وتعظيم قيم القانون والإعلاء من ثقافة الحياة بهدف سعادة البشر، والتأسيس لحياة يسودها الأمن والعدالة والرخاء، وهي أمور لم تكن لتتحقق إلا بعد أن أدركت المجتمعات الأوروبية مخاطر الحروب، التي كانت بمثابة دروس عملية، وقد نجم عن ذلك كله شعور جمعي بأن هناك سياسات واضحة لقيام المجتمعات، بدلًا من ثقافة الموت، لذا أدرك الأوروبيون أن الثقافة هي طوق النجاة، وهو ما يفسر ظهور أجيال من المؤسسين العظام في كل صنوف الأدب والقانون والفلسفة والفنون، وجميعها كانت بمثابة البنية المؤسسة لقيام الدول.
قد يتصور البعض أن الحروب دائما مصدر كل الشرور والتخلف، إلا انه في كثير من الأحيان، وفي معظم التجارب الإنسانية كانت الحروب هي الدروس العملية للبناء، حينما تشعر المجتمعات بأهوال هذه الحروب ومخاطرها، عندئذ ينجم عن هذه الحروب نتائج إيجابية أكثر ما ينجم عنها من نتائج سلبية، فالمجتمعات التي تتعرض لمثل هذه المخاطر تكون غالبا عازمة على عدم إعادة هذه التجارب، التي تعظم من الشعور الوطني، وتدفع بالمجتمعات إلى الوحدة والرغبة في تعويض ما فاتها من التقدم الذي كانت تستحقه، بعد أن أضاعت سنوات في أتون حروب لم ينجم عنها إلا ضياع منجزات شعوبها وحصاد أرواح أبنائها.
إذا كان ذلك قد حدث منذ قرون مضت، إلا انه لم يعد من المقبول في الحياة المعاصرة التي شهدت تطورًا علميا وفكريًا واقتصاديًا أن تكون الحروب هي الرهان الأخير لحل بعض النزاعات، وهو رهان يحصد أرواح الملايين من البشر، ويدمر كل منجزات الحضارة المعاصرة، لعل الصراع الروسي الأوكراني يعد نموذجًا عمليًا، بعد إن تأثر العالم برمته بمأساة هذا الصراع على كل مناحي الحياة، وفي ظل تحالفات دولية تُحشد في سبيلها أحدث الأسلحة الفتاكة، بهدف إجهاز طرف على الآخر، ولم يشعر العالم بكل عقلائه ومؤسساته بأن هذه الحرب أو غيرها حتى لو انتهت بتدمير إحدى القوتين للأخرى فلن يعم السلام! بل سوف يدخل العالم كله في أتون صراعات يمتد آثارها إلى كل دول العالم، ولن تقبل القوى المنهزمة بهزيمتها، حتى لو استُخدمت في سبيل ذلك كل الأسلحة الفتاكة (الدمار الشامل).
العالم الآن يموج بصراعات قارية وإقليمية وأهلية مدمرة، والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن الحرب الروسية الأوكرانية التي انخرطت فيها معظم الدول الأوروبية تعد هي الأخطر على المستويين السياسي والعسكري، فلم يعد من المقبول أن تنفرد قوى واحدة لتحديد مصير العالم، وهي قضية تستحق أن تنتبه لها الدول الفقيرة والنامية، التي يجب أن تُراعى مصالحها، في ظل هيمنة القوى الواحدة التي تقود العالم المتقدم بإشعال الحروب، تحت حجج تعيدنا إلى حقبة الحرب الباردة، بين الغرب والاتحاد السوفييتي السابق، ولا يخفى على مراقب أن الولايات المتحدة الأمريكية تقود هذا العالم المتقدم دون أن تدرك هذه القوى إلى أنها سوف تكون أول من يدفع ثمن هذه الحروب، حتى لو انتصر التحالف بقيادة الولايات المتحدة.
اللافت للنظر، أن الدبلوماسية النشطة والأمم المتحدة قد غابت عن المشهد، فلم تبذل من الجهد ما يتناسب ومخاطر هذه الحرب، ولم تلتفت الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة إلى الدروس المستفادة من الحرب العالمية الثانية التي كانت نتيجة طبيعية للحرب العالمية الأولى، حينما فرض المنتصرون شروطهم المجحفة على المنهزمين. وبعد أن انقسم العالم إلى قطبين كبيرين ساد بينهما الصراع الذي لم يتوقف حتى بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي،. وخروج دول عديدة من عباءة هذا التحالف، واليوم يشهد العالم صراعًا طال كل دول العالم، وكانت الدول الفقيرة هي أول من دفع الثمن.
السؤال الذي يمكن أن نطرحه: ألم تدرك القوى المتحكمة في مصائر العالم ما يمكن أن تؤول إليه نتائج هذا الصراع؟ ألم يحن الوقت بعد لكي يدرك العالم مخاطر ما يمكن أن ينتهي إليه مصير العالم حتى لو انتصر فريق على الآخر؟
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.