أفكار وآراء

الظواهر الطبيعية وتقمّص دور الإله

الظواهر الطبيعية كالأعاصير والفيضانات وقوّة الرّياح والحرارة والرّطوبة والجفاف وغيرها ارتبطت بالطبيعة منذ القدم، منها ما يكون الإنسان متسبّبا فيها كالاحتباس الحراري، أو تلوث المياه والبيئة وما يترتب على ذلك من آثار سلبية، من اضطراب في الطبيعة، لمخالفة فعل الإنسان في تغيير ما جرت عليه من سنن، سواء تعلقت بالأرض أو تعلقت بالإنسان.

هذه الظواهر الطبيعية تطوّرت في تفسير الإنسان، وقديما ربطت بالأساطير والخرافة والسّحر، إلى حالة التأويلات والتفسيرات الماورائية، وربطها كليّا بالعالم الآخر كما في الأديان، ثمّ إلى العلم والفلسفة المعاصرة وارتباطها بالظواهر من خلال تأويلها سننيّا وكشفيّا، فاستجدت جدليّة تفسيرها بين التّأويلات الماورائيّة والتفسيرات العلمية.

والعالم اليوم منه ما تجاوز التّأويلات الماورائيّة كالعديد من دول الغرب، وأصبح ماديّا عقلانيّا أو تجريبيّا صرفا في تأويلها، مصاحبا تقدّم العلم، وقدرته الفائقة في التّنبؤ والتّفسير، ممّا جعل من اللّاهوتيين تأويل ظاهر النّص المقدّس بما يوافق رأي العلم، الذي كان يوما ما تأويلُ ذلك جريمة قد يصبح مصير المؤول الموت.

ومن العالم ما زال غارقا في الطقسيّات الخرافية المرتبطة بأساطير سابقة كما في بعض أدغال إفريقيا، ومن العالم أيضا من يحاول الجمع بين اللّاهوت والعلم في ذلك، فلا يرفض العلم، ولكنّه تطبيقا وحكما يدور وفق النّصوص المقدّسة لديه، كان في الأديان الإبراهيميّة أم غيرها كما في أغلب الشّرق.

إنّ تجاوز مرحلة الدّين إلى العلم هذه لها اقتضاءاتها وأسبابها في أوروبا خصوصا، وحاولت الكنيسة البروتستانتيّة تجاوز انغلاق الكهنوت الكاثوليكيّ حول العلم، ولكن الكنيسىة عموما في الغرب اليوم – في الجملة - تقف حول تأويلات ثلاثة في الجمع بين النص المقدّس وتأويل الظواهر الطبيعية علميّا، ففريق يجنح إلى ظرفيّة النّص المقدّس، فذكره لهذه الظواهر الطبيعية كان ملازما للحالة الثقافيّة والعلمية في ظرفيّة وجود النّص، ولو جاء النّص اليوم لكان ملازما للحالة الثقافيّة والعلميّة في عصرنا هذا، وهذا الفريق يحاول الجمع بين لاهوتيّة النص وجوهره، فالجوهر هو الاهتمام بالعلم، ولاهوتيّا كان مراعيا لمفردات وتأويلات ذلك الزّمن، ليترك مساحة للعقل البشري لينطلق في كشف المجهول من سنن الكون والوجود والإنسان.

ومن هذا الفريق انبثق فريق يضع النص كليّا في خانة الثقافة، إذ هو يشكل حالة ثقافيّة لفترة زمنيّة أكثر منه حالة لاهوتيّة، فلا يتكلّف في تكييف ظرفيّته والتّبرير له، بقدر ما يجعله في الحالة الثقافيّة المؤرخة لرؤية الإنسان للظواهر الطبيعية وقت نزول النّص، وهذه الحالة المسيحيّة تمدّدت إلى اليهوديّة كما يرى يعقوب ملكين أنّ التّوراة والتّناخ «الأساس المشترك لثقافة كلّ تيارات اليهود .... ويحتوي الذاكرة الجماعيّة لليهود»، وأقرب إلى «الأدب الكلاسيكي اليهودي».

وفريق ثالث من يحاول الجمع بينهما، كتأويل الأيام الستة في بداية سفر التكوين بالحقب الزمنيّة، ومنهم من يحاول استخراج معاجز النّص المقدّس، ومنهم من يتوقف حال التناقض، جاعلا حالة الحقيقة العلميّة لا تتجاوز حدّ النظريّات النسبيّة بالمفهوم الشمولي لا التجريبي، الفارق اليوم أنّ الكهنوت الدّينيّ كما في كاثوليكيّة القرون الوسطى لم يعد متحكما في العلم، الذي ينطلق اليوم في فضاء رحب بلا قيود سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة في الجملة.

ولقد كانت الحالة الإسلاميّة بما ورثته من ثقافات الأمم الأخرى غارقة أيضا في الرؤية الماورائيّة، وتمّ التّعامل مع العديد من الظّواهر الطّبيعيّة وفق الاغتراب الماورائي، وقد قوبل العديد من الرمزيّات الفلسفيّة الّتي اقتربت قريبا من التأويلات الطّبيعيّة بالزندقة، كما قوبل في الطّرف المسيحي بالهرطقة، مع وجود إضاءات متقدّمة كما عند الشاطبي (ت 790هـ) حيث يرى أنّ «الشّريعة الإسلاميّة شريعة أميّة؛ لأنّ الله بعث بها رسولا أميّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة/ 2] .... فيلزم أن تكون الشّريعة في معهودهم ومستواهم».

وإن كنّا لا نستطيع تحميل نص الشاطبي فوق ما لا يحتمل وفق القراءات التّأريخيّة والظرفيّة المعاصرة؛ إلّا أنّ العالم الإسلامي عموما، والعربي خصوصا؛ لمّا انفتح على أمّة كانت غارقة في الماورائيّات، ثمّ تجاوزت ذلك إلى الاستغراق الطبيّعي والعلمي، إلى حدّ الاتّجاهات العلمويّة والإنسانويّة، مرورا بعصر الأنوار فالنهضة والحداثة، حيث أفاق العالم العربي على هذا مؤخرا، فحاول الجمع بين النص المقدّس وما بعده من تراث روائي وبين تفسير الظواهر الطبيعية، حيث بدأت بوادر ذلك عند محمّد عبده (ت 1905م)، وتلميذه محمّد رشيد رضا (ت 1935م) كما في المنار، ولازم العديد من الإصلاحيين إبعاد النص المقدّس خصوصا عن النّظريّات العلميّة كما عند محمّد المراغيّ (ت 1945م) «فالنّظريّات الّتي لم تستقر لا يصح أن يردّ إليها كتاب الله»، وهي محاولة لعلمنة البحث العلميّ – إن صح التّعبير – أي المفارقة بين ظاهريّة آيات الظّواهر الطّبيعيّة في النّصّ الدينيّ، وبين البحث العلميّ ونتائجه، ويعتبر طنطاوي جوهري (ت 1940م) من مؤسّسي التّفسير العلميّ للقرآن من خلال تفسيره «الجواهر في تفسير القرآن الكريم»، وهي محاولة مبكرة في رفع التعارض بين النص المقدّس والعلم، بما فيه تأويل الظواهر الطبيعية.

ويرى رشيد الخيّون أنّ نظريّة التطوّر لداروين (ت 1882م) اتّجهت سلبا في العراق في خمسينيّات القرن العشرين الماضي بسبب البعد السياسي الّذي أدخلها كصراع من التّيارات اليساريّة، وقبل هذا لم تلق ذاك الاعتراض.

ونتيجة مرحلة الصّحوة، وارتباطها بإحياء التّراث، وأسلمة العلوم، والدّعوة تحت مظلّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بمعناه الكلاسيكي، وقف بعضهم سلبا من التّأويل العلمي للحقائق والظواهر الطبيعيّة ككرويّة الأرض ودورانها، والاستغراق الماورائي في تفسير الظواهر الطبيعية وربطها بالعذاب الإلهي، ومنهم من بالغ في المعاجز كعبد المجيد الزّندانيّ وعبد الصّبور شاهين.

وبعيدا عن هذه الجدليّات الدينيّة حول العلم والظواهر الطبيعية، فالمباحث حولها لا تتعدّى الحالة المعرفيّة؛ لأنّ العلم شقّ طريقه، بيد ليس الخطر – في نظري – في هذا الاختلاف الطّبيعي الّذي لا يتجاوز القول والخلاف الكلامي؛ الخطر في نظري هو تقمّص دور الإله، والنّيابة عنه بلا برهان قطعي في الحكم على الخلق، وتصوير الإله بصورة الغاضب المنتقم الذي لا يفتأ إلّا بإرسال الجراثيم والأمراض والأعاصير والفيضانات، ليهلك العباد والحرث والنّسل، ومنهم من يمايز بين قوم وقوم، فإن أصيب قوم ما قال ابتلاء، وإن أصيب آخرون اعتبره عذابا، وكأنّ الله أوحى إليه بذلك.

إنّ استجداء النصوص المقدّسة في التّحذير من بلايا الذّنوب والمعاصي، أو مخالفة الطّبيعة لسننها؛ هذا من حقّ الإنسان في ذلك فيما يراه واجبا عليه دينيّا، ولكن أن يجعل من نفسه نائبا عن الإله، ووصيّا له، في الحكم على العباد، وكأنّ هذا الإله ليس رحمانا ولا رحيما، فهو تأله وتقمص للإله بلا برهان ولا وحي.

وفي بلدنا «عُمان» رأيتُ من التّغريدات والمنشورات التّويتريّة من يربط بين قدوم الفرقة الكوريّة «كيبوب B.I.G» وبين الحالة المداريّة «بيبارجوي» المتكوّن حاليا في بحر العرب، وكأنّ لسان الحال أنّ قدوم هذه الفرقة قابله هذا الغضب الإلهيّ المتمثل في الحالة المداريّة أو الإعصار، ومنهم من يربط تكرار الحالات المداريّة بالذّنوب كليّا، ويرسل سخطه للدّولة ومؤسّساتها، بشكل خفيّ أو مباشر، ويحاول الرّبط في العقل الباطنيّ أنّ هذا مرتبط بحداثة الدّولة، وكأنّها لا دين لها، فهو ناقم ساخط عليها في الابتداء، ولو كان في مكان آخر مرتضيّا عنده لكان لا يتجاوز حدّ الابتلاء.

بيد هذه الظّواهر الطبيعية هي حالات طبيعية ومتكرّرة منذ القدم، ولقد تكرّرت في عمان في وقت لا علاقة لهم بالحداثة وتمظهراتها كما يرى حامد البراشديّ في صفحته على تويتر أنّ «عمان تعرضت من عام 1891م وحتى 2010م لثلاثة عشر حالة عاصفة وإعصار، وأنّه كلّ ثلاث سنوات حالة مداريّة واحدة يمكن أن تعبر السّواحل العمانيّة، خمسون بالمائة منها يوصف بالعاصفة المداريّة أو الإعصار».