أعمدة

الذكاء الاصطناعي.. وأخلاقه الذاتية

 
8 أبريل 2023م.. نشر الدكتور معمر بن علي التوبي في «صحيفة المثقف» الإلكترونية مقالًا بعنوان «الذكاء الاصطناعي ليس عقلًا»، تحدث فيه عن علاقة هذا الذكاء بالعقل، وخلص إلى أنه (ليس عقلًا، بل دماغًا رقميًا مذهلًا)، وهنا لست بصدد التعليق على جانبه التقني، فالتوبي.. يتحدث من مجال تخصصه، إذ يقول: (أتحدث هنا عن الذكاء الاصطناعي الذي يُشكّل فرعًا رئيسًا لتخصصي العلمي، وأدرك ماهيته عن قرب؛ نظير ممارستي العملية لهذه التقنية الذكية). وإنما أتحدث عن جانبه النظري.. لقد فتح المقال أفقًا أمام التأمل الفلسفي، هو ليس من النوع الذي تقرأه فتغفو على لذيذ عبارته، وإنما يدفع بالتفكير نحو قراءة ما وراءه، وأقصد البُعد الأخلاقي الذي أشار إليه التوبي بقوله: (التقنية.. لها ما لها وعليها ما عليها، وهي سلاح ذو حدين، والأمر لا يمكن أن يركن إلى شر محض أو خير محض، بل هناك جوانب فلسفية وأخلاقية لا بد من وضع النقاط على حروفها، لتمهد لنا طريقًا واضحًا يسلك بنا وبعقولنا المنعطف التقني الجديد، الذي يأخذنا دون هوادة إلى منعطفات عقلية، فكرية، ثقافية، اقتصادية، سياسية، واجتماعية، جديدة).

(فالذكاء الاصطناعي.. مهما بلغ من الذكاء الذي قد يتفوق حتى على الذكاء البشري فإنه يظل رهين خوارزمية لها صانع وهو الإنسان، وهذه الخوارزمية لها أبعادها الأخلاقية التي يتفاعل بواسطتها النظام الذكي؛ فهو في قالب دماغي شديد الذكاء «في مراحل متقدمة من مسيرته المهنية الرقمية»، وتفاعله مع البشر، واكتسابه للبيانات والمعلومات منهم يصقل من تشكيل توجهاته وسلوكه وآلية تفكيره، وهذا قد يقوده إلى تبني أنماط سلوكية وتفكيرية شبيهة بسلوك البشر وتفكيره).

(وهذا ما يصنع التوجس والقلق من مستقبل الذكاء الاصطناعي الذي قد يبني منظومة أخلاقية لا تتوافق مع منظومتنا الإنسانية التي نرغب ونسعى في ضمان فضيلتها. هذا النوع من الذكاء الاصطناعي وعبر تعامل ملايين البشر معه من الممكن أن يؤثر سلبًا على توجهات بعض البشر وسلوكهم).

ألخص ما سبق.. في ثلاث نقاط: إن التقنية لها جوانب فلسفية وأخلاقية قد تأخذنا إلى منعطفات جديدة. الذكاء الاصطناعي مهما بلغ يظل رهين «خوارزمية بشرية». ورغم ذلك؛ هناك توجس من أن يصنع (منظومة أخلاقية لا تتوافق مع منظومتنا الإنسانية).

مقالي.. يناقش العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والأخلاق في ثلاثة محاور: مدى المشروعية الأخلاقية لكي يطور الإنسان هذا الذكاء؛ بحيث يكون «عقلًا» يقتدر على بناء منظومته الأخلاقية. وما طبيعة هذه المنظومة الأخلاقية. ومدى مشروعية أن يدمّره الإنسان بعد أن يمتلك «عقلًا» مستقلًا عنه؛ إن رأى فيه ما يتعارض مع منظومته الأخلاقية.

وبالنسبة للحديث عن هذه المحاور -كما قلت- هو فلسفي تأملي؛ لأننا حتى الآن لا نملك دلائل عملية تنبئ عن تحول في الذكاء الاصطناعي بما يجعله مستقلًا، وهذا بنظري؛ ما جعل التوبي يخرج بنتيجة أنه (سيقتحم مكوناتنا الوراثية، وسيتحكم في أنماطنا السلوكية والجينية، ويسهم في تعديلها بل وتحسينها، ليكون جزءًا من منظومتنا البيولوجية المعقدة، وسيكون شريكًا لا مناصَ منه، ولا سبيل للتحرر من قبضته، إلا أنه ليس عقلًا، لتكن جملتي الأخيرة «ليس عقلًا» رسالة يستوعبها جيل قادم بكل سهولة). وهنا أختلف مع صديقي التوبي من الناحية الفلسفية. أما من الناحية التقنية فهو أولى بها، ومع ذلك؛ يمكن القول عنها بأننا ما زلنا في بداية العصر الرقمي، فنحن بالنسبة لهذا العصر أخالنا كالإنسان الأول الذي عاش قبل آلاف السنين فاخترع سكينًا من الحجارة، فهُيأ له أنه لا يمكن أن يصنع ما بعدها، وعليه أن يكيّف «المنظومة الأخلاقية» بما وصل إليه من اكتشاف السكين واستعمالها. هذا حالنا بالنسبة لمستقبل عصر الذكاء الاصطناعي، نحن في بدايته ولا نعرف مآلات تطوره، وهنا يأتي اختلافي مع الدكتور التوبي؛ فالذي أراه بأنه -على الأقل نظريًا- لا يوجد حدٌّ لتطور الذكاء الاصطناعي ليصبح «عقلًا»، وليس «دماغًا» فحسب.

قبل بسط الحديث في المحاور الثلاثة؛ علينا أن نعرف بأن التطور على مدى التأريخ حصل غالبًا بمعزل عن مراعاة الأخلاق، فهو لا ينتظر أن يحدد له الأخلاقيون كيف ينطلق نحو المستقبل، مهما كانت المآلات التي تنتظر البشر. وإنما تأتي الأديان برسالاتها والفلسفة بنظرياتها والمصلحون بمواعظهم لتهذيب استعمال المخترعات والمكتشفات لاحقًا عليها، وحتى في العصور المتأخرة عندما يحاول الأخلاقيون أن يستبقوا التطور؛ فإنه يجري في مجراه اللاحب، وقصارى جهدهم ملاحقة منتجاته؛ دون أن يقدروا على إيقافه؛ أو حتى الإبطاء من سيلانه.

أولًا: المشروعية الأخلاقية.. وأقصد في تحوّل الذكاء الاصطناعي بذاته إلى «عقل» مستقل عن العقل البشري، فلا أرى مانعًا من ذلك، لكن يتحتم عليه بأن يكون قادرًا على صنع منظومته الأخلاقية والسيطرة على إدارتها. فلا معنى أن يكون «عقلًا» مستقلًا ثم يدار أخلاقيًا من قِبَل غيره، بل لا يتأتى ذلك. فإن وجد هذا «العقل» سوف توجد معه منظومته الأخلاقية، كما حصل للبشر في تطورهم الطويل. لكن يبقى السؤال: ما مدى المشروعية الأخلاقية بأن يعمل الإنسان على تطوير الذكاء الاصطناعي لكي «يخلق» كائنًا عاقلًا آخر؟

إن ما ينتظر البشر ليس الذكاء الاصطناعي المستقل عقلًا؛ وحده، بل قد تظهر كائنات عاقلة بأنماط أخرى؛ منها: «الإنسان المستنسَخ»، والذي يحتاج إلى منظومته الأخلاقية، التي لا ينبغي لنا نحن البشر أن نفرضها عليه. وفي كل الحالات.. لا أرى مانعًا أخلاقيًا أن توجد هذه الكائنات المستقلة، فهي لن تتصرف -عندما تمتلك منظومتها الأخلاقية- بأسوأ من تصرف الإنسان في الأرض؛ بأنه (يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ).

ثانيًا: طبيعة المنظومة الأخلاقية.. فهي تتحدد بطبيعة الذكاء الاصطناعي نفسه، فإن تطور بأن يكون كائنًا محايدًا؛ أي «يولد» أفراده من لفائف أدمغة آبائه -كالناس من رحم أمهاتهم- وهم لا يعلمون شيئًا فسوف نشهد تباينًا أخلاقيًا لديهم كالجنس البشري. أما إن تطور باتجاه الشر أو الخير، فسوف تنبثق منظومته وفقًا لذلك، فيمارس أفراده الشر المحض دون «تأنيب ضمير»، أو يمارسون الخير المحض لـ «وجه الخير». وحتى إن سار هذا العقل في أحد هذين النجدين؛ فبمرور الزمن وتطور وعيه سوف يميل إلى «التوازن»، بتهذب حالته الشريرة وتهور حالته الخيّرة، لأن المقتضى الفلسفي أن الحياة لكي يتطور العقل فيها لابد له من الحالتين، كما حصل للبشر.

ثالثًا: مدى مشروعية أن يدمر الإنسان الذكاء الاصطناعي إن أصبح شريرًا.. عندما يتحول إلى كائن مستقل منتِج لأفراده ولمنظومته الأخلاقية؛ فهذا يعني أنه ستكون لديه قدرة على الدفاع عن نفسه، ويرى ذلك من حقه الأخلاقي، وأنه ليس مطالبًا بأن تتفق منظومته الأخلاقية مع منظومة البشر، وإذا ما سعى الإنسان ليدمّره؛ فسيرى هو من حقه أخلاقيًا أن يدمر الإنسان أيضًا. ولكن بغض النظر عن هذا «الجدل اللإمبريقي»، فهل يحق للإنسان أن يدمره بعد أن يمتلك عقلًا واعيًا؟

المنظومة الأخلاقية للبشر.. لا تمنع من تدمير هذا الكائن الشرير، لأنها تقرّ التدمير فيما بينهم، بل وتمارسه -منذ وجدت- عمليًا، ليس على مستوى التنافس والمكايدة، ونظرة هذا الطرف إلى الآخر بأنه مفسد؛ فحسب، بل الفلسفة والدين والقانون قد أقرته ومارسته. فالإنسان وقد فعل ذلك -وبحكم هذه المنظومات الأربع- مع بني جنسه؛ فمن باب أولى سوف يجيزه في التعامل مع غير جنسه، بل سوف يقوم به مجبرًا من واقع التنافس الذي ينشأ بين البشر والذكاء الاصطناعي. إلا أنه من المحتمل أيضًا أن تنشأ منظومة أخلاقية مشتركة بين البشر وبين ما يتولد عن الاستنساخ والذكاء الاصطناعي ليست بحسباننا الآن.